رأيت النور في القرية، أكبر أحياء المدينة وأفقرها. كل يوم ننام ونستيقظ على جريمة. والدي ينهض مع الفجر، يُصلي ويذهب إلى السوق. يشتري النعناع، ويحمله خلفه على الدراجة، ويطوف كل الأزقة والدروب، ولا يعود إلى البيت إلا بعد صلاة العصر. تفتح له أمي الباب، ويناولها كيسا من الليمون. أجري نحوه، يقبلني ويحملني ويضمني إلى صدره، ويخرج لي تفاحة حمراء من جيبه.
بدأت أكبر. أخذتني أمي إلى روض الأطفال بالقرب من المنزل. انفتح قلبي وعقلي للحروف والكلمات والأرقام.
ألعب مع أقراني أمام البيت، وعندما نختصم، يقصفونني ببنت بائع النعناع .
سألت أمي:
ـ هل بيع النعناع سُبّة ؟
قالت وهي تُقبّلني:
ـ إنه عمل شريف مثل باقي الأعمال، لكن دخله على قد الحال.
دخلت المدرسة الابتدائية. ازداد الضغط أكثر، وبدأت تكبر معي لعنة بيع النعناع. ما زلت صغيرة على فهم هذه الأشياء. أنقذني عشقي للحروف والكلمات والأرقام والخطوط من الغرق في بئر بلا قاع. تعودت الحصول دائما على المرتبة الأولى. المدير والمدرسون والمدرسات ينادونني باسمي الشخصي، ويربتون على كتفي، فأشعر بالفخر والاعتزاز. أحسست بأنهم مثل أمي وأبي. يعترفون بالجهد والعمل.
أيام الامتحان تغمرني سعادة لا حد لها. كأني أنتقم لأبي ولبيع النعناع عندما أحصد أعلى النقط، وأحتل أولى المراتب.
كلما كبرت أكثر، ازداد الضغط أكثر. في الإعدادي والثانوي، أصبحنا أربعة إخوة، بنتان وولدان. تعقّد الوضع. نظّمت وقتي. تعلمت عمل المنزل. في كل مرة تضع أمي مولودا جديدا أعوضها في تنظيف البيت، وغسل الأواني والطبخ والعجين. بعد ذلك أتقنت بسرعة عجن وطهي (الحرشة)* ورغيف (المسمن معمر بالشحمة)*، وبيعه في الدرب. أصبحت أتوفر على دخل خاص من عرق الجبين. وجدت متعة في أن أعمل وأقرأ وأصرف على إخوتي ليتعلموا مثلي.
بدأت رائحة الدهون كلعنة جديدة تطاردني داخل الثانوية. صديقاتي وأصدقائي في القسم اخترعوا لي اسما جديدا (مسيمنة). تقبلت الإهانة الجديدة بعين تدمع، وقلب يتقطع.
بعض زميلاتي وزملائي في الثانوية يتبادلون علامات الإعجاب في (التيك توك) ويرقصن على صوت ذلك المعتوه الذي يجلس أمام باب الدرب وتمر به “ساطا عندها فصالا كتجذب”.
وتكتمل الباهية* عندما يفتح أحدهم الهاتف على فيديو ، فيرقص ويردد مع معتوه آخر:
“أح أح، لا زهر لا ميمون، يلعن أبو الزين، وتعالي حدايا، ناري وعنقيني”.
لم أنزع سروالا، ولم أفتح قميصا عن صدري، ولم ألتقط فيديو لهز مؤخرتي. حلمي أبعد من ذلك بكثير. لن أقبل بأقل من طبيبة أو مهندسة. بيني وبينكم الزمن والحروف والأرقام والخطوط ورائحة (المسمن). أعود إلى البيت في الليل، أذاكر إلى ساعة متأخرة، وأستيقظ مع الفجر، أعجن وأطبخ، وأبيع في وقت الفراغ (الحرشة) و(المسمن)، وآتي إلى القسم ورائحة الدهون تمتزج بدمي وتفوح من يدي وثيابي. حذفتم اسمي الحقيقي، ووضعتم أسما آخر محله. ابتسمت بتجلّد. بكيت ضعفي أمام الله، وتمنيت لو طالت فترة الامتحانات دهرا بكامله.
أنا عائشة بائعة (الحرشة) و(المسمن)، وابنة بائع النعناع وأفتخر. أقسمت حتى أغيظكم، وأجعل المغرب كله يتحدث باسمي، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، وأجعل كل أم وأب يتمنيان لو كنت ابنتهما.
المعجم :
ـ (الحرشة) : أكلة شعبية على شكل خبز من دقيق الدرة والزيت والزبدة ويعجن بالماء ويطهى فوق مقلاة ساخنة .
ـ ( معمر بالشحمة) : عجين رقيق من دقيق القمح والزيت والزبدة محشو بالشحم والفلفل ، يطهى فوق مقلاة ساخنة أو في الفرن .
ـ (ساطا) : فتاة / فصالة : بنية جسمية
ـ الباهية قصر بناه الصدر الأعظم بّا احماد لخطيبته لكنه مات قبل أن يكتمل بناؤه ، وأصبح بد ذلك مضرب المثل .
ـ (حدايا) : بجانبي .
مراكش 15 يوليوز 2020