أهداني الصديق الشاعر فتحي ساسي عنوانين من كتبه التي جاوزت الـ 25 عنوانا في الشعر والترجمة والسرد، الأولى مجموعة شعرية تحمل عنوان “كنت أعلّق وجهي خلف الباب”(م1)، الصادرة سنة 2018، عن دار بورصة الكتب للنشر والتوزيع بالقاهرة، والأخرى بعنوان “طريقة جديدة للغياب”(م2)، عن مؤسسة وشمة للنشر الورقي والالكتروني بتونس، لسنة 2019.
وأنا أبحر في عوالمهما بقارب التذوّق البحت استحضرت في ذهني تعريف الأمريكي حيرام كورسن (Hiram Corson)، أستاذ الأدب الانجليزي، لمصطلح الأدب بمعناه الفنّي المقيّد، طالعته في مقدمة دراسته حول شعر روبرت براونيج Robert Browning)) المنشورة عام 1886، على أنّه خلطة باستعمال الأساليب الكتابية لنتاج الفكر والشعور في مزيج واحد بنسب مختلفة، بحيث لا تطغى شحنة الأولى على الثانية وإلاّ لوقعنا في ما سمّاه بـ”عمى القلب” حيث تخبو العواطف وينفصل العقل بشكل واضح، وبذلك نسقط في جنس آخر لا يعتبر أدبا كـ”العناصر” لإقليدس، و”مبادئ نيوتن”، و”علم الأخلاق” لسبينوزا، و”نقد العقل الخالص” لكانط، فالعقل وحده لا ينتج سوى الفكر الخالص، أيًّا كان الموضوع الذي يتعامل معه.
في الحقيقة، لقد قمت بصقل النتوءات الحادة وتلطيف الصياغة بصبغة لطيفة للألفاظ لتقترب أكثر من التعريفات الحديثة، فحيرام كورسن المتدفقة عروقه بمشاعر الإيمان والحياة الروحية يستعمل في تعريفه لفظة “الروحانية” والتي هي بالنسبة له ذلك الشيء الغامض في تكوين الإنسان والذي من خلاله يقيم علاقة روحية مع جوهر الأشياء، على عكس الظواهر التي تدركها الحواس.
فمفهوم الأدب، من زاوية نظره، وباختصار، هو تعاون دائم وفعّال بين العقل والقلب، أي بين الفكر والعواطف، بأرقى أشكال التعبير الإنساني، وهي اللغة، نثرا وشعرا. وجمال الفنّ هو التجسيد الملائم والفعّال للفكر والروح معا.
ولكن من خلال تصفّحي لديواني الشاعر فتحي ساسي، اللذان يضمّان معا مائة وأربع وخمسين قصيدة (64 زائد 90)، تمسح 169 صفحة من الحجم المتوسّط، خلا الصفحات البيضاء المخصصة للإهداء والتصدير والفهرس، أشعر أنّ النفس فيهما مكبّلة بهواجس الذات، منغمسة في همومها بإفراط، لا شيء يغريها بالخروج من شرنقة الوحدة وتخطيها مجال العزلة العميقة إلى المحيط الشاسع وحياة الإنسان كنفس حرّة أبيّة لها من الوعي ما يجعلها تحطّم الأغلال وتغامر لتعكس الصورة الصادقة لأفكار أمّتها المتوهّجة بدفء المشاعر والعواطف وآمال وأحلام المجتمع.
فرغم إحساس القارئ بمهارة الشاعر الأدبيّة، فإنّه يلاحظ هذا الهروب من الواقع الفعلي إلى العوالم العجائبية الموغلة في الغرابة، وانقياده إلى أفكار غريبة عن عادات المجتمع كالسفر في فضاءات القصيدة بواسطة مَرْكَبات الغيمات لأنّه لا يفقه الطيران رغم نصح العصافير له باتخاذ خطوة ثابتة نحو تعلّمها، كذلك يظهر ميله الغريب للتعبير عن حدّة الألم والمرارة الكامن في قلبه كما لم يفعل الشعراء في أي وقت مضى. نقرأ مثلا في الصفحات الأولى من مجموعته “طريقة جديدة للغياب”: “لو أنّكَ تركتني أرتاح مع الموتى كنت سأنساكَ”(م2، ص5)، عبارة لهيلدا دوليتل وسّم بها صفحةَ الإهداء بدل التصدير الذي جاء بعد صفحة بيضاء على هذا النحو: “حين أموت أرجوكم لا تخبروا العصافير”(م2، ص7)، تليها صفحة بيضاء أخرى، علّق بعدها تحت العنوان الفرعي بقليل، “قصائد يائسة”، مقولته: “لي شهوة للبكاء لا تضاهيها أيّ شهوة”(م2، ص9)، ثمّ يمرّ برموزه وألفاظه الجنائزية مباشرة نحوى “المَقبَرَةُ الّتي تتثاءب” (م2، ص11) حيث الجثث مدفونة في تراب القصيدة.
“المقبرة الّتي تتثاءب أمام شرفتي
هذهِ الليلةَ
ترغب أن تنام باكرا…
(…)
وتحفِرُ لتنْفُذَ إلى بطنها جُثَثُ الدَّهْشَةِ المستعارَةِ
(…)
هي… متأكّدةٌ أنّ مَنْ يدخل غير هذا البابِ المواربِ،
سيسمع حديثَ الموتَى، ثمّ ينامُ…”
بهذا القاموس المظلم في عقل الشاعر، وهروبه الدائم إلى النوم فرارا من حاضر مملوء بالفتنة والكآبة، يبدو أنّ فتحي ساسي قد ارتوى جيّدا من عصارة أزهار الشرّ، وشُحِن بالكامل من الروح المتمرّدة لبودلير، فهل هي مجرّد صدفة أن تلمس نصوصه الانطباع نفسه الذي أوحى به إلينا ديوان الشاعر الفرنسي؟ أم هي الرغبة في اقتناص شكل شعري يتميّز به عن شعراء جيله؟
بالتأكيد لا هذا ولا ذاك، فقد كان يكتب بحرفيّة عالية ووعي تام بهذا المشكل، بل هو يستحضره في ذهنه حين يكتب اقتداء وتصوّرا، يعلمنا بهذا في نصّه الرائع المعنون بـ”بودلير”(م2، ص12)، إثر خروجه من المقبرة المتثائبة، أو ربّما في إحدى زواياها أمام شاهد قبر ممجّد الكلمات، حيث يقول معترفا بدوره كمعلّم في نحت كتاباته:
” “بودلير” هو من أنار كتابتي
كنت كنملة في كومة تبن
أكتب بعكّاز …
ذلك لا أكفّ عن التفكير فيه
وأزهار الشرّ التي زرعها في طريقي، فلولاه ما أمطرت داخلي غيوم الكتابة
كنت أخاف أشواكه المنتشرة تحت الكلمات،
حتّى أنّه كان يرافقني وباقة ورد في يديه
ويقول لي:
أيّها الشاعر درْ في مكانك لست وحدك،
الأرض مثلك تدور
سنذهب معا للجحيم هناك،
ونتدثّر بتلك القصائد الوثيرة
………………………………….
لكنّي لم أذهب معه، فقط أخذت الأزهار من يديه،
ورحلت وحيدا إلى الجحيم”
وكما استوحى “بودلير” من قصائد الألمان القصصيّة المنقولة إلى الفرنسية ملحمته النثرية الثائرة على جمود الكلاسيكيّة، ركب فتحي ساسي موجة قصائد النثر للتعبير عن معاناته في الحياة، مع الإلحاح الشديد على قضيّة واحدة يكرّرها بكثرة حتى بدا كأنّه يراوح مكانه.
وقد أحصيت في ديوانيه أكثر من مائة مرّة كلمة قصيدة أو أحد مشتقّاتها (54، م1-52، م2)، رغم استبعادي من التعداد لجملة الألفاظ التي هي على خطّ التماس منها، مثل كلمة الشعر، الشاعر، الشعراء الكلمات، الكتابة، النص، البياض، وغيرها. ولن أعددها هنا وسأكتفي بذكر بعض الأمثلة في الشاهدين التاليين:
“حين أقذف “شيمبورسكا” من نافذة الليل
وكم يحلو لي أن أفعل ذلك
أغادر هذا البياض لأسأل قصائدها المتورّمة على طاولتي
لست أنا من يلقّن الكلمات حروفها
فعلّميني كيف أكتب قصيدة
“شيمبورسكا” لِمَ تسكبين ملحك في دمي؟
فدعيني أستعير من قصائدك محنةً جديدةً،
لأشاكس الشعر في مشيته…
هكذا يحلو لي أن أختنق بين أسنان الكلمات
لكنّي الآن… نعم الآن أتنفّس بصعوبة،
أرجوك “شيمبورسكا” خذي أصابعي لا بدّ
من خيانة ما لكتابة قصيدة…”(م2، ص14)
وفي موضع آخر، من مرجع آخر، يقول:
“ها أنا أجلس وحدي.
أخربش الليل بقصيدة.
أغامر كنصف إلهٍ ولا شيء عندي…
الغروب مخبّأ في السماء، والنهار يجلس على ركبتيه.
أحدّث زوجتي: هل انتهى الشتاء؟
أم مازال يعبّئ الشّعر في جرّة الصقيع؟
وهل تصلح تجاعيدي لكتابة قصيدة ممطرة…؟
هي لم تجبني… إنّما ذهبت لتشعل الشتاء في المطبخ.”(تجاعيد لكتابة قصيدة، م1، ص67)
ويتجلّى التكرار سافرا مشرقا كأبهى ما يكون البروز في هذين المقطعين من قصيدتين متتاليتين، في متن مرجع واحد، حيث يقول الشاعر:
“أخرج من الحلم رغم انفي هاربا من قلقين
مثل قصيدة لا تنتهي.”(حُلم، م1، ص76)
ويقول: “على طاولتي أوراقٌ مبعثرةٌ.
وقصيدة لا تنتهي…”(تستفّزني الكائنات، م1، 78)
ولكي لا أثقل على القارئ سأتركه يتتبّع بنفسه لفظة الغيمة ومشتقاتها ويحصي وحده عددها، وكذلك كلمتي موت ونجمة ومشتقاتهما المبثوثة بكثرة في قصائد مَرجعيْ البحث.
فالقصيدة هي بساط الشاعر السحري للهروب من عالمه الحقيقي السيّء، ومغارته للانطواء وقيده وحبسه، والكتابة حياته ومحنته وفرشاته التي يستعملها ليجمّل بها الواقع السيّئ الذي يعيشه، وفتحي ساسي يعترف بكونه كائنا انعزاليا، ويصرّح بذلك على الملأ في عدّة مواضع، فقد جاء في قصيدته “تستفزّني الكائنات” هذا الاعتراف:
“وأنا كعادتي، تستفزّني الكائنات الشعريّة،
(…)
كي أعمّر مائة سنة في عزلتي.
فالعزلة تعرفني جيّدا…
ولا شيء يكفيني غير قصيدة واحدة تنخر رأسي.
وتبعثر الليل في دمي.
فأمسي وحدي داخل الكلمات.
أبحث عن ظلّ للمكوث مبعثرا بين كتبي…”(م1، ص78)
ويقول في مقطع آخر:
“حين أرغب في النوم،
عادة لا أذهب إلى فراشي،
إنّما أفتح ثقبا في الحلم، لأرى العالم أجمل،
أو أفتح شرفة في قصيدة.”(حين أرغب في النوم، م1، ص41)
غير أنّه يُرجع ذلك إلى خجله، وكون العالم أكثر أمانا حين يكون لوحده متربعا في غرفته كثمرة حامضة يطلّ على بيئته من ثقب الباب لحظة وصول الشكوك والمخاوف إلى روحه، وتوقّعه لمستقبل غامض حاملا للدموع وخيبة الأمل، يستنشق فيه رائحة الخراب ومستنقعات الأرض النتنة.
“الكلمات التي كتبتها ليلة أمس،
وكل الحروف التي سكبتها في قصيدة،
(…)
لا تدرك كم كنت خجولا…..؟؟”(هي لا تدرك، م1، ص106)
“في غرفتي سيكون العالم آمنا”(قالت، م1، ص56)، وهو ما يفسّر شعوره بأنّه مازال طفلا بدائيا يبحث عن الراحة خلف الباب، والنوم على وقع أحلامه المستحيلة، واختلاس النظر المتكرر إلى الأشياء من ثقب أحلامه واعتبار العالم الحقيقي وَهْم، والظل هو الحقيقة المطلقة.
وتلخّص السطور التالية طبيعته القلقة وتشاؤمه الدائم:
“كنت هكذا…
منذ بدء الخليقة.
أكنس لعابي ككلب مسعور.
القلق والعزلة صديقان حميمان.
وأنا… في بهو الكتابة طفل غريب.
مازال يمصّ أنامله أمام بنت الجيران.”(منذ بدء الخليقة، م1، ص102)
كما يقول:
“لأنّي لا أشبه شيئا، هكذا يبدو لي
دائم التشاؤم مثل لحظة حزن،
لذلك أرى أنّ كلّ شيء رديء
الليل مكدّس على الطاولة
والنجوم مصطفّة في السماء، تتسوّل الضياء
وأنا أنبح ككلب مخلص
فلِمَ يا إلهي كلّ هذا العناء من أجل وجود بائس؟”(كل هذا العناء!!، م2، ص49)
وبسب الارتباط الضعيف بين الكلمات والمغالاة في التخييل، لم تعد القصائد وسائل لعرض مشاغل الناس ومعاناتهم، فقد تحوّلت إلى غاية في حدّ ذاتها، وانزلقت كلّيا في النثر وتجميع الكلمات باقتصاد مفرط، وإلباس بنيتها الفنية كسوة الغموض لتعويض الصور الشعرية المعدومة، تلك الصور التي من المفروض أن تتّسم بالكثافة والشفافية بعد تخلّيها عن الوزن والأجراس الموسيقيّة، فالعالم بالنسبة لفتحي ساسي أصغر من قصيدة والكتابة عن مشاغله لا تعني شيئا:
“قف هناك ولا تقترب…
جاور أو ابتعد.
لا يهمّك شيءٌ،
لا أحد يفهم ما تعني.
(…)
مثلا اكتب عن المجاعة في العالم، أو عن ورقة سقطت سهوا من يد شجرة،
أو حتّى عن نشرة الأخبار في قناة ما.
هكذا سيقال عنك أنّك حداثيّ مثلي تماما، تغامر على البياض كطفل.
عدا أنّ شيئا واحدا يجعلك رجعيّا،
ضحكة من عين جارتك،
وهي تنشر قصيدة على حبل الغسيل…”(العالم أصغر من قصيدة، م1، ص30-31)
ولأكون صادقا، أعترف بأنّ هناك رموز في هذه النصوص صعبة الفهم، إن لم أقل موغلة في الغموض، لا على القارئ البسيط وحسب وإنّما أيضا على الدّارس المختصّ صاحب القراءة المتأنّية، وأستبعد منهم أولئك الذين هم مستعدون لفهم أيّ شيء ويقومون بتأويل كل شيء حتى البياض “على البياض” الذي لا يقول شيئا، وبالنسبة إليّ فأنا كسول جدّا إلى درجة أنّني لا أبحث بعيدا عن المفاتيح التي لا تطالها يدي، وأعتقد أن الكثير من القرّاء يشبهونني في كسلي، لا يتعبون أذهانهم كثيرا في المحاولات اليائسة لحلّ شفرة النصوص المغلقة، وكان على الشاعر أن يضع الرموز أمام أعيننا، أو جنب الباب، في مكان نكون قادرين على الوصول إليه كما يفعل أغلب الشعراء للتيسير علينا، فشحن الفكرة بالكلمات الغامضة لا تطرب أحدا، ولا تجعل النصّ ذا قيمة وتقدير، كما عبّر عن ذلك د. رياض جراد حين قال: “الكتابة الواضحة أصعب بكثير من الكتابة الغامضة، فالأولى تتيح للجميع فهمها وتقييمها، في حين أنّ الثانية تتمترس خلف غموضها فلا يستطيع أحد أن يدرك إن كانت جيّدة أم عادية أو حتّى تافهة، وفي تلك الحالة يصبح النصّ علما شخصيا لا يدركه إلّا صاحبه”، فالعوالم المدهشة والإمعان في العجيب قد يكونان، أحيانا، من أسباب عزوف القرّاء عنها، إمّا لصعوبة تمثيلها أو فهمها وإمّا لاعتبارها متجاوزة للواقع.
وإذا كان الزمن قد أنصف شعر “بودلير” باعتباره شعرا متقدما عن زمنه فلم يُفْهم إلا بعد وفاته، فهل سيعمل الزمن على إنصاف شاعرنا ساسي، هذا ما نرجوه ونؤمّله، وإلى ذلك الحين، نسوق عيّنة من النصوص المحكمة الغلق التي تتبدّى لنا مثل “حلم مخيف”، يحتاج إلى التأويل:
“كلّ ليلة يراودني حلم مخيف
فأفيق مذعورا، كأنّي أراه أوّل مرّة
غيمة مشنوقة في شجرة
تتسلّق الليل وفي جيدها ظلّ،
يتساقط منه رذاذ خفيف
لتتبلّل الكلمات الملقاة في الحديقة،
وحين ترعد وتنزل أنبياء الشفق،
لتزيّن أعراس الطين،
ترتعد مثلي،
وتختفي تحت غصن… وتنام…”(م2، ص15)
ماذا يريد الشاعر أن يقول بهذا الكلام؟ وأيّة رسالة يرغب الشاعر في بعثها لجمهور القرّاء في هذا النصّ؟ أليس من المفروض أن توجد رسائل مضمّنة في قصائد الشعراء؟
لننظر إلى هذا المقطع الدال على تلك النزعة:
“في حديقة منزلي،
تلتقي كلّ الأشجار…
هاربة من لغة الظلّ،
وعلى حافة الورد تشعل رغيف العطر.
ثمّ تجلس حول طاولة لتتبادل الحديث،
وتشرب أصيصا على نخب الرّيح…
الفأس ينظر إليهم خلسة من ثقب الباب.
كانت الأشجار حزينة تبكي،
لأنّ ورقة اختنقت حين سقطت في بركة ماء،
لتشرب المطر…”(خلسةً من ثقب الباب، م1، ص48)
عندما يتمّ تبادل الأدوار بين الشاعر والمتلقّي ستكون نهاية فاجعة للشعر، ففي موجة كتابة القصائد النثرية، يدوّن الشعراء أضغاث أحلامهم في قراطيس ويطلبون التأويل من القرّاء، يحمّلونهم قدرا كبيرا من التفكير لإجهادهم وينصرفون.
يمكن القول بشكل قاطع إنّ الأنا المتكلّم هو المحرّك الأساسي لهذه الأعمال كلّها، نجدها بدءا في التصدير: “ونغدو هائلين فقط، لأنّنا تعارفنا بعينين مغمضتين”(م1، ص7 لأوكتافيو”)، كما نجدها في الإهداء: “مازالت الطيور تنصحني أن أتعلّم الطيران”(م1، ص5)، وأيضا تتوزّع بكثافة في عناوين القصائد: “دعيني أكمل قصيدتي”(م1، ص11)، “وحين أكون وحيدا”(م1، ص22)، “سأظلّ وحدي داخل النصّ”(م1، ص26)، “حين طرنا أوّل مرّة”(م1، ص36)، “كما لم أنتظر أحدا”(م1، ص37)، “سأقرأ عليك قصيدة جميلة”(م1، ص39)، “حين أرغب بالنوم”(م1، ص41)، “أعبّئ جيبي بالنجوم”(م1، ص42)، “كعادتي”(م1، ص47)، “بين أصابعي”(م1، ص65)، “لا أطيل الوقوف”(م1، ص70)، “تستفزّني الكائنات”(م1، ص78)، “أُشعِلُ اللون في الماء”(م1، ص81)، “على وسادتي ينام القصيد”(م1، ص84)، “لم تخبرني يا أبي”(م1، ص47)، “صرت هكذا يا أمّي”(م1، ص89)، “لن أجد شيئا”(م1، ص92)، “ليس لي عنوان”(م1، ص98)، “على شرفتي فقط”(م1، ص104)، “خذيها من يدي”(م1، ص107)، “لا شيء على طاولتي”(م2، ص19)، “لا أفقه الطيران”(م2، ص25)، “لا تنتظريني أيّتها العزلة”(م2، ص29)، “كي أبدو حزينا”(م2، ص32)، “رأيت زوربا”(م2، ص35)، “خيوط يدي”(م2، ص36)، وغيرها كثير من عناوين المصدر الثاني، دون أن ننسى العنوان الجامع للمجموعة، “كنت أعلّق وجهي خلف الباب”(م1، ص58)، وهو عنوان قصيدة.
ولا يعني ذلك أن بقيّة القصائد خالية من هذا الضمير المتكلّم، المتحدّث الوحيد الذي يفرض على المتلقي الصامت شكله الفنّي المفضّل ورؤيته الخاطئة، التي جعلت القصيدة فلكا تدور حوله كلّ عناصر حياة الشاعر وكلّ عوالمه المتخيّلة، فإن كانت القصائد مرآة عاكسة لمشاعر الشاعر، إلاّ أن التخوّف من عدم الفهم أو بالأحرى إيصال المعنى للمتلقّي وارد بقوّة. “لا تقتربوا مني … قصائدي مفخخة”(م1، ص9)، ذاتيته مخيفة ارتفعت فيها العاطفة المعروضة في هذين العملين إلى أقصى مدّها العاطفي وتقلّص فيه الفكر إلى أدنى جزره الفكري. لكن للشّاعر فتحي ساسي تجربة شعرية ثريّة وإصدارات عديدة في قصيدة النثر والومضة والهايكو والقصّة القصيرة جدّا، وكذاك في الترجمة إلى العربية، عانق في معظمها الإبداع، وأثرى بقصائده المدوّنة الشعرية التونسية والعربيّة. وترجمت أعماله إلى الفرنسيّة والاسبانية والكاتالونية والانجليزية ومنها هذا العمل الذي عكفنا على دراسته (كنت أعلّق وجهي خلف الباب) (I used to hang my face behind the door) الذي نشر في كندا، جويلية 2019، وفي سبتمبر 2020 إلى الفارسيّة، وفي أكتوبر 2020 بالاسبانية والبرتغالية، كما ترجمت مختارات منه إلى اللغة الإيطاليّة.
وفي الختام، عندما ينفلت الشاعر من بوتقة الذات ويفكّ قيده تشرق فيه الروح وينتج ثمرة كأنّها الدرّ:
“العصفور الذي ينقر الحصاة،
خلسة تحت الغصن هناك،
سأل نفسه مرارا:
من أين سقطت تلك الورقة؟
هذا العصفور يشرب أيضا من النبع.
مازال يحدّق في قطرات الماء طويلا.
لم تجبه ولو قطرة واحدة…
حتّى نام على الورقة.”(العصفور الذي ينقر الحصاة، م1، ص83)
“رأيت “زوربا” عشيّة البارحة،
واقفا في محطّة القطار، ينتظر شيئا ما
قلقا وفي يديه جريدة…
كأنّه يقرأ آخر الأخبار
ماذا فعل الغزاة الجدد؟
وكيف بنوا قفصا لكلّ الطيور؟
هم الحيّة التي تنبش قبور الموتى،
وتشعل المدائن بالخراب
هو يعلم أنّهم ليسوا…
في حاجة لفرشاة ليزيدوا قبح هذا العالم
كان قلقا، يشمّ رائحة الموت وهي تنبعث من كلّ مكان…
هي رائحة الجريدة،
التي تناثرت في محطّة القطار…”(رأيت زوربا، م2، ص35)