” كن مع الحقّ بحكم ما أوجب “
من هناك ، قرب نفق الأرتال ، على يمين الأكواخ القصديرية ، ولج الحلاج المدينة . شيء ما تبدّل فيها .. شيء ما قد حدث فيها .. العيون الناعسة الحزينة دمعت من زهوها .. الأجفان المرتبكة الثقيلة تخفّفت من ثقلها .. الوجوه السمراء الكالحة فقدت تعاستها .. حتى الشوارع غيّرت أسماءها القديمة ، و لم تعد الأرض هي الأرض و لا المدينة هي المدينة .
تأمّل الحلاج أمامه في صمت ، أطفال يلهون بطيارة ورقيّة ، يتحدّون بها جنون الرياح .. يشدّها أحدهم إليه بخيط يطلقه و بحركة سريعة معاكسة يجذبه ساخرا .. البقية حاموا حولها ، يرجمونها بالحجارة وهي على عشرة أمتار .. في إحدى معاكساته تقطّع الخيط أو أفلت من يد الطفل فابتهج الصبية و صاحوا في حماسة :
– سقط المتوحّشون في الساحة .
و جروا مردّدين شعارهم في صخب و فوضى ، بينما تابع الحلاج بانتباه شديد سقوط الطيارة .. ثمّ وهي تُطوى تحت عجلات السيارات ..
شوارع المدينة تغطّت بالطائرات الكرطونية المحطّمة ، و أبصار الناس تعلّقت برسوم الأطفال المضحكة التي كانت تلوح و تختفي من خلال الفضاءات المتروكة بين العربات يفكّون رموزها ، ثمّ ينطلقون مبتسمين .. لقد أصبحت لديهم المقدرة على النظر بجرأة إلى الأبواب و الجدران .. لاحظ الحلاج مع ذلك زوال أثر الرسوم عن الحيطان ، فتمتم يحدّث نفسه :
” انفجرت الأرض أخيرا ، و تمرّدت بالفعل . ذهبت الظلمة التي كانت تعمر هامات الشيوخ جفاء .. تبدّدت بوحي الصغار .. و بأمر الرب يزول هكذا : الشرير إن لم يترك طريقه ، و رجل الإثم إن لم يترك أفكاره . ”
ثمّ بسط يده في الهواء و شخص ببصره في الفراغ و كأنّه يتابع نقطة مجهولة تضمحلّ في العدم ..
الساحة التي يقف أمامها الحلاج واسعة وجميلة ، مقارنة بما يُوجد في الجهة الشرقية ، حيث أنّ الفواصل بين ثنايا المترجّلين معشّبة ، تتخلّلها مسطّحات حديدية مخفية بعناية تُستعمل للريّ . بينما تُسقى أحواض الزهور الدائرية و الأعشاب التي في وسط الساحة مباشرة من النافورة بطريقة الطرد ، على شكل زنبقة متفتّحة . و حين تشبع التربة تتغيّر الطريقة فيرتفع عمود الماء إلى أعلى و يتساقط وسط الحوض الصغير .. خلف النافورة ، مباشرة ، ضريح من الاسمنت المسلح و لافتة رخامية كُتب عليها باللون الأخضر : – الطفل الرمز – و فوقها بخطّ كوفيّ جميل : ” ظهورنا حمى و دماؤنا حرام فلِم تُقتّلوننا ؟ “.. و يُمكن للحلاّج أن يرى من مكانه رجال الشرطة و هم يحاولون منع جمهرة من المارّة من الالتفاف حول مخرج تلفزيّ يقوم بتصوير مناظر من الساحة ، للذاكرة طبعا . و شباك الذاكرة المرئيّة لا تحمل إلاّ الهوامش .. على طرف الضريح يتّكئ شيخ يبدو عليه الارتباك .. عيناه تدوران في محجريهما . و حينما تثبت عدسة الكاميرا على وجهه يحني رأسه .. في تلك اللحظة ، تشقّ ذاكرة الحلاج صفوف طويلة من الدلاء و العنت الشديد .. رجال البوليس بهراوتهم البيضاء و نعالهم المحشوّة بالغضب و الجنون يحملون الناس على الاصطفاف في طابور..
أواني على الرؤوس ، عطش يلهب الأفئدة و بكاء .
أنابيب الماء المسدودة ، بأمر، على كافة الأهالي و للحصول على جرعة ماء لا بد من الهدايا .. و قد تكفي الصفعة و الشتيمة للمحظوظين من الذين لا يملكون أن يقدّموا شيئا .. كان الحلاّج يقف، آنذاك ، بعيدا و عنقه قد تخدّرت من شدّة التوتّر .. في حين تسقط امرأة حامل من الإعياء فينخرم النظام .. تندفع أذرع متطوّعة لإعادة ضبطه بالطرق التي تناسب الوضع ..
أواني على الرؤوس ، عطش يلهب الأفئدة و بكاء .
يمرّ رجل قد أثقل كتفه جسد طفل .. من الصعب على الحلاّج جمع صورتهما في ذهنه ، و لكن وجه الرجل قطعا لا يختلف كثيرا عمّا هو عليه الآن .. شفاه الطفل ابيضّت من الظمأ. يتمتم برجاء : ماء ، ماء . و الرجل يقفز هنا و هناك ، يحاول افتكاك الماء عنوة فتصدّه الهراوات .. قرب فورة الماء يكبو و كأنّه يتنصّت على دقّات قلبه .. يمرّر راحة يده على ظهر الطفل وهو يصيح و يبكي :
– ” لا تمت يا بني ، أريدك أن تشاهد الجبال وهي تفور أنهارا .. امكث معي ، يا بني ، و لا تفارقني حتى نشاهد الجبال معا وهي تفور أنهارا..”
أواني على الرؤوس ، عطش يلهب الأفئدة و بكاء .
تدمع الأعين .. تتشنّج الأعصاب في السرّ و لا أحد يقدر على فعل شيء .. أنت ، أيّها الحلاّج ، من يسكّن المرتج و يُسوّي المعوجّ ، فقم إلى المدينة فأحييها .. تدفعه نفسه ، فينطلق الحلاّج صوب الرجل .. يزيح يده ويحمل جثّة الصغير .. بارد كالثلج ، يميل على الناس ، يتفرس في وجوههم .. ملعونة هذه الرائحة .. ملعونة الأرض التي حملتهم .. يلتفت و بخطى متعثّرة يتجه نحو ضابط البوليس ، فتتسابق إليه الأرجل تحجبه عنه .. يصرخ فيهم قائلا :
– ” ظهورنا حمى و دماؤنا حرام فلِم تقتّلوننا ؟ “
تلوح شبه ابتسامة ساخرة و تختفي من على شفتي الضابط . و باستهزاء يجيب :
– ” معذرة إلى أسيادنا . و لعلّكم عن ركوب رؤوسكم تعدلون.”
قال الحلاّج :
– ” إنكم ، بذلك ، ترتكبون آثاما . “
فقهقه الضابط كالمسعور حتّى بانت ثنيته و ردّد بصوت مرتفع :
– ” و ستكبر معك آثامنا .. ستكبر معك آثامنا .”
ثمّ أشار بيده النظيفة إلى رجاله فسحبوه من رجله على الوحل و راحوا يضربونه و يبصقون في وجهه حتّى غشي عليه .. في المساء ، كان الحلاّج قد اختفى تماما و كأنّ السماء قد رفعته إليها …
الشمس تميل نحو الغروب و ظلال الأطفال بدأت تزحف نحوهم أكثر .. خيال الطيارة الجديدة في أعماق السماء ارتسم على بدن الشيخ و كتفيه فانعكست على سطح الأرض صورة مختلة لأشكال هندسية متداخلة تشبه في جملتها لافتة مرور .. تنتقل العدسة بين اللوحة الرخامية على الضريح و وجه الشيخ المشحون بالانفعالات ، و قد لمعت عيناه و تضوّع الصدق من بين شفتيه :
” زمن رديء ، كنّا فيه صغارا و هم جبابرة يملكون الماء و السطل .. صنبور في نفس هذا المكان ، يشرفون عليه بأنفسهم ، و يجدون متعة في إذلالنا .. كنّا نحوم حولهم ، نتساقط كقطرات العرق في وحلهم و عذرنا في ذلك أنّ المدينة يبس ، محترقة و أنابيبها جافة تفيض عطشا .. كنت قد نصحت زوجتي بورق الشجر .. أسري في الشوارع لأحمل لها منها ما يكفي لصنع عصير يُذهب العطش عنّا رغم مرارته .. جافة هي الأرض مورقة هي الشجرة ، و هذا ما جعلني لا أقنط أبدا ..
ذات ليلة ، تسللت لأقطف من الأشجار أوراقها .. انحدرت من شارع إلى شارع متنقّلا من شجرة إلى شجرة ، بحثا في الفروع و الأغصان ، فلم أعثر على شيء .. أيعقل أن تتعرّى الأشجار هكذا دون أن ننتبه إليها ؟ أيمكن أن يحلّ الخريف في يوم و ليلة ؟ إنّه أمر لا يكاد يُصدّق.. احترت في أمري ، و الأمل يغرّر بي حتّى كلّت رجلي فعدت أدراجي ، تخامرني أفكار شتّى .. حينما أخبرت زوجتي بما أسفر عنه تجوالي لطمت وجهها و لعنت الخيانة ثمّ بقيت مدّة من الزمن ساهمة تعضّ على شفتيها و تتمتم بحديث فهمته فيما بعد .. لم ألمها على ما فعلت ، فنحن لا نستطيع أن نكتم سرّا عن جيراننا خاصة إذا تعلّق الأمر بحفظ كرامتهم .. غير أنّ ابني صغير لا يعرف للتكافل معنى و لا يستطيع التصبّر مثلنا .. فقد أزعجني بصراخه الدائم ، و بكائه الطويل : أبي ..أمّي .. ماء ..
من أين لنا الماء و أنابيب المدينة جافّة تفيض عطشا ، و أشجار المدينة جرداء موحشة . نم ، يا بنيّ ، فغدا ستفور الجبال أنهارا . ستحبل المدينة غدا و لن يلتهم أهلها أعشابها .. أحدّث نفسي و أنسحب تاركا زوجتي تحتضنه .. تدسّ حلمة ثديها في فمه فيتقيّأها .. تقرّبها إليه ثانية فيدفعها بيديه مناشدا الماء .. “
يتوقّف الشيخ عن الحديث .. يلصق أظافره في مفرق شعره ، و يروح يكزّ على أسنانه ، يحاول أن يخنق عبرة بدأت تلمع فوق خدّه .. في الأثناء ، يتقدّم الحلاّج مقتربا من القبر و قد بلّل رذاذ الماء جانبا منه محدثا وقعا موسيقيا متناغما مع دافع السؤال : لقد وجدت الماء أخيرا فهل تراك ارتويت ؟ يقترب الحلاّج أكثر ليعلم . فيتجه إليه شرطي يمنعه من التحرّك نحو المساحة المحظورة .. ببطء يصرف الحلاّج وجهه بعيدا ، إلى هناك .. بعيدا عن هنا وينصرف .. بينما تابع الشيخ حديثه و قد ازداد الناس التصاقا به إلى حدّ الاختناق :
– ” زمن رديء كنّا فيه ” (*)
_______________
(*) قال صاحب الحلاّج : رأيت الحلاّج ، بعد هذه الحادثة في حديقة بالمدينة ، تحت شجرة كبيرة ، يتابع سلوك القوم و أحاديثهم . و قد أخبرت رفاقي فادّعوا أنّي أتوهّم ما لا يمكن أن يحدث . فالحلاّج قد قتل من زمان . و حين أكّدت لهم صحة ما رأيت و أثبتُّ لهم بالدليل صدق ما رويتُ ، راحوا ينظرون في وجهي مستغربين .. ثمّ قال لي أحدهم على لسانهم جميعا : نحن نريده ميتا ، ماذا تفيد حياته الآن .. و تفرّقوا من حولي.