تميز العصر الذي نعيشه اليوم بكونه شهد طفرات على مستويات مختلفة، منها فشو وسائل التواصل الرقمي والتكنولوجي، وهذا مما لا يهمنا شأنه ما دمنا تطرقنا لهذا الموضوع باستفاضة أيما مرة، لكن ما يحوز انتباهنا إزاءه هو كيف حوّل انتشار الهواتف الذكية وشبكات التواصل والتلفاز عدة فعاليات ورياضات إلى إمبراطوريات عملاقة تفوق تأثيراتها وميزانياتها تلك الخاصة بدول كثيرة.
يصدف مقالنا هذا بالتأكيد سياق تنظيم كأس العالم هذه الأيام بالشقيقة قطر، ويصدف كذلك ذهولنا أمام تعالي الهوس بهذه اللعبة وتصاعد منسوب التعصب والمتابعة والإنفاق والشحن الإعلامي تجاه هذه المسابقة التي لا تعدو كونها “لعبا” جعل لتسلية الجنود ذات مرة في حضارة الإغريق أو البابليين على اختلاف الروايات التاريخية عن أصلها، كما تذكر بعضها أن الكرة المستخدمة في البداية لم تكن سوى جماجم قتلى العدو إمعانا في الإذلال والتحقير. يمكننا الاستطلاع سريعا حول مدى تأثير هذه الرياضة على العقول والأجساد بل وعلى الاقتصادات والحكومات، ذلك أنك تجد أمما محرومة أو لم تتمكن من التأهل للمشاركة في هذا اللعب موسومة بالمسكينة والمنهارة والضعيفة حضاريا كروسيا وإيطاليا مثلا وتجد شعوبها حزينة مغتمة تشاهد بمشاعر الفقد والنقصان!! بل إن المؤسسات الرياضية الدولية تقدم على حرمان منتخبات وفرق دولية من المشاركة في فعاليات عالمية بسبب مشاكل سياسية ولا نرى علاقة بين الأمرين أبدا، ونحن نقصد هنا الأزمة الروسية الأوكرانية طبعا.
تجد من الأفراد المجيّشين في فيالق كرة القدم من وهب حياته في مجملها لهذه اللعبة فلا يرتدي إلا ملابس تحمل شعارا لفريق أو لونا لمنتخب، ولا ينام سوى على سرير ووسادة تنتمي لناد محبوب، كما تعج غرفته وهاتفه وكتبه ودفاتره وأفكاره وكلماته بسير اللاعبين وأصولهم وأقوالهم وأرقامهم ونوع أكلهم ووجهاتهم السياحية المفضلة وغيرها من التفصيلات المملة التي تستنزف عواطفه بشكل بليد، بل إنه يحضر المقاهي متسمرا ساعات طويلة حتى لا تفوته لقطة أو تحليل أو كلمة، وقد يتخلف عن امتحان أو موعد عمل، أو عن صفقة أو عن صلاة أو مجلس علمي أو غيرها مما يعود عليه وعلى غيره وأمته بالنفع امتثالا لنداء البلادة.
وكما شهدنا جميعا فقد أصبح معيار شهرة الأمم وقوتها، وشرط وصمها بالعظمة والتقدم هي انتصاراتها الوهمية هذه في ميدان يجري في خضمه عدة أشخاص غالبيتهم الساحقة ينحدرون من أصول فقيرة هشة، فجعلت لهم أثمنة وألقاب، ودأب الأسياد على مدهم بمواقيت النوم والسفر والأكل بل ومواعيد مضاجعة الزوجات، يتجارَون في ميدان تحيط به مدرجات تغص بالمهووسين، في مشهد لا يذكر سوى بعروض الموت التي كانت تقام بالكولوسيوم القديمة بروما عندما كان يلقى بالأسرى والعبيد ليصارعوا الحيوانات المفترسة، لقد شهدنا كذلك انقطاع المئات عن العمل وعن المدارس وهجرهم للشركات والمصانع والجامعات والمختبرات لمشاهدة مباريات جعل منها الإعلام غير البريء ملاحم تاريخية ومحطات فاصلة في تاريخ المجد المكذوب… ومسلسل العبث هذا يطول طولا.
إن هذا الزخم السلبي الذي تعطيه مؤسسات كبرى في العالم، كالشركات الراعية والفيفا والمؤسسات الإعلامية والدعم المادي والرمزي المغالي الذي تتحصل عليه فرق هذه اللعبة من الحكومات على حساب دعم التعليم والصحة والبنيات التحتية وتوفير فرص الشغل والاستثمار، يطرح سؤال الجدوى وهو مقال مستفيض لا يناسب مقامنا الآن، فنتوجه بذلك إلى سؤال التأثير على الأجيال وكيف نحميهم من هذا الزحف أو عسانا نخفف من وطأته على الأقل.. إن الطفل يجنح للانسياق مع الجماعة وهي فطرة غريزية في البشر، تجعل الإنسان يفترض صواب ما يسير إليه القطيع (بمعناه السوسيولوجي لا البهيمي القدحي)، لذا فإن أغلب الأطفال والمرهقين مدمنون على عالم كرة القدم، ولا يقتصر الأمر على تتبع الأخبار واقتناء القمصان وحفظ الشعارات والمعلومات، بل يتعداه لاعتبار بعض “نجوم” هذه اللعبة قدوات حياتية، فتراهم يقلدون نمط حيواتهم ولباسهم، وتسريحات شعرهم وطريقة كلامهم وسبابهم وطباعهم حتى لو كانت غرورا وإباحية وعربدة، ومن تم تبني اختياراتهم الجنسية والعقدية وغيرها وهنا يكمن مبعث الخطر!
ينحدر أغلب هؤلاء اللاعبين من أوساط فقيرة كما أشرنا، وهي أوساط تغلب عليها المخدرات والإجرام والنذالة وتتوارى فيها القيم الحميدة، ويبدو أن هذه الأخلاق تلازم هؤلاء اللاعبين ولو بعد تحقيقهم للشهرة، سواء في إقبالهم على المخدرات ونذكر مثلا الأرجنتيني دييغو مارادونا أو إدمانهم الكحول أو القمار وغيره، ولعل هذا ما يشير إليه المدرب البرتغالي الشهير جوزيه مورينيو بقوله : أغلب نجوم كرة القدم حثالة حقيقيون. لذا فواجبنا أولا محاولة فصل الطفل سواء في التلفاز أو الأنترنت في الحياة اليومية عن هذه الدعاية الجبارة، وفتح بصره وبصيرته على المعارف واللغات والعلوم والآداب والفنون فمتى تشبعها وتشرب حبها كانت له حصانة من مد التفاهة والسفافة، وحتى إذا ما انصرف للكرة أو غيرها انصرف إليها لاعبا متريضا أو مشاهدا مقسطا غير متعصب ولا مستلب ولا مُساق.