إن العنوان في الحقيقة مرآة مصغرة لكل ذلك النسيج النصي ,واسم فارغ, وهذا يعني أنه علامة ضمن علامات أوسع هي التي تشكل قوام العمل الفني بعده نظاما, ونسقا يقتضي أن يعالج معالجة منهجية أساسها أن دلالة أية علامة مرتبطة ارتباطا بنائيا لاتراكميا بدلالات أخرى, ومن ثم فإنه قد يجسد المدخل النظري إلى العالم الذي يسميه، ولكنه لايخلقه إذ إن العلاقة بين الطرفين قد لاتكون مباشرة كما هو الشأن في الآثار الفنية التي يحيل فيها العنوان على النص, والنص على العنوان وفي هذا الحال فإن العنوان يتحول من كونه علامة لسانية أو مجموعة علامات لسانية تشير إلى المحتوى العام للنص إلى كونه لعبة فنية وحوارية بين التحدد واللاتحدد، بين المرجعية المحددة وبين الدلالات المتعددة وذلك في حركة دائبة بين نصين متفاعلين في زمن القراءة , أن النقد الروائي العربي لم يول العنوان أهمية تذكر، بل ظل يمر عليه مر الكرام, لكن الآن بدأ الاهتمام بعتبات النص وصار يندرج ضمن سياق نظري, وتحليلي عام يعتني بإبراز ما للعتبات من وظيفة في فهم خصوصية النص, وتحديد جانب أساسي من مقاصده الدلالية، وهو اهتمام أضحى في الوقت الراهن مصدرا لصياغة أسئلة دقيقة تعيد الاعتبار لهذه المحافل النصية المتنوعة الأنساق وقوفا عندما يميزها ,ويعين طرائق اشتغالها, ومن أهم الدراسات العربية التي انصبت على دراسة العنوان تعريفا وتأريخا ,وتحليلا, وتصنيفا نذكر ما أنجزه الباحثون المغاربة الذين كانوا سباقين إلى تعريف القارئ العربي بكيفية الاشتغال على العنوان تنظيرا وتطبيقا، وهو علامة لسانية وسيميولوجية غالبا ماتكون في بداية النص، لها وظيفة تعيينية ومدلولية، ووظيفة تأشيرية أثناء تلقي النص ,والتلذذ به تقبلا وتفاعلا, وهو الذي يوجه قراءة قصة ( اعترافات للطبيب النفسي ) للقاصة ( بسمة يحيى )، ويغتني بدوره بمعان جديدة بمقدار ما تتوضح دلالاتها فهي المفتاح الذي به تحل ألغاز الأحداث ,وإيقاع نسقها الدرامي, وتوترها السردي، علاوة على مدى أهميته في استخلاص البنية الدلالية للنص، وتحديد تيمات الخطاب الروائي، وإضاءة النصوص بها, وانه كما كتب كلود دوشيه عنصر من النص الكلي الذي يستبقه ويستذكره في آن، بما أنه حاضر في البدء، وخلال السرد الذي يدشنه، يعمل كأداة وصل وتعديل للقراءة, وقد جسدت ذلك القاصة ( بسمة يحيى ) في قصتها ( اعترافات للطبيب النفسي) ,إذ يحلل عنوان القصة ضمن ما يعرف بالسهل الممتنع إذا ما قراناه قراءة سطحية عابرة تكتفي بالنظر إليه نظرة جانبية , على أن النظرة المحايثة العميقة ربما تكشف لنا عما دفنته فيه مبدعته من أشارات, وعلامات دالة , وانطلاقا من كل هذا قد يكون بالإمكان تتبع عمل العنوان في النص والشروع في نمذجة تصنيفية , الرؤية، فيتجاوز العنوان مجازيا مع دلالات الفضاء النصي للغلاف وتنصهر الصورة العنوانية اللغوية في الصورة المكانية لونا ورمزا, وللعناوين في القصة وفقا لعلاقاتها بالشرح القصصي ,و العنوانية قد تندرج ضمن علاقات بلاغية قائمة على المشابهة ,أو المجاورة, لعنوان القصة وفقا لعلاقاتها بالذات عن طريق الاختزال إلى الحد الأقصى, فإما القصة تعبر عن عنوانها تشبعه, وتفك رموزه, وتمحوه، وإما أنها تعيد إدماجه في جماع النص ,وتبلبل السنن الدعائي عن طريق التشديد على الوظيفة الكامنة للعنوان، محولة المعلومة, والعلامة إلى قيمة والخبر إلى إيحاء , يلتصق به العمل الروائي قد يكون صورة كلية تحدد هوية الإبداع,وتيمته العامة، وتجمع شذراته في بنية مقولاتية تعتمد الاستعارة أوالترميز, وهذه الصورة العنوانية قد تكون فضائية يتقاطع فيها المرجع مع المجاز، وقيامه بدور المركز في الحركة القصصية ,وتحديد مصائر من يسكنه جعله يقوم بدور البطولة الفعلية في القصة ,ويفرض نفسه على عنوانها ,ويبلور رؤية القاصة (بسمة يحيى ) لعالمها, ومن هنا فهو صيغة مطلقة لعنوان القصة ( اعترافات للطبيب النفسي ) ,وكليتها الفنية والمجازية, إنه لايتم إلا بجمع الصور المشتتة ,وتجميعها من جديد في بؤرة لموضوعات عامة تصف العمل الأدبي,وتحديد مصائر من يسكنه جعله يقوم بدور البطولة الفعلية في القصة ,ويفرض نفسه على عنوانها ,ويبلور رؤية القاصة لعالمها فنراها تقول: قاطعه معظم الأصدقاء والأقارب بسبب تكراره لسؤال”هل قوى الطبيعة تتحكم بالإله؟”، بدعوى أنه مجرد رجل كبير السن مخرف أصابته كثرة القراءة بالجنون، حتى أخته الصغيرة قاطعته.حديثه على أنه كان قطة فرعونية وقد تم ذبحه ليقدم قربانا للإله آتون أكد للجميع خلله العقلي.لعل حبه الكبير لوطنه وتأليف القصائد الطوال في مدحه كان يحفظ له آخر ما تبقى من ماء وجهه عند أقاربه من العائلة. إن القاصة (بسمة يحيى ) – وهي تقدم على فعل الكتابة- إنما تعبر عن موقفها من العالم,وتنطلق من رؤى تسعى من خلالها إلى محاورة ذلك العالم, معبرة بذلك عن حلمها في إنشاء عالم مغاير يجسد رؤيتها ورؤياه, ويتجسد- قبل كل شيء- في كلماتها,وعندما تتعدد أنماط كتاباتها,ونصوصها وتتنوع فان تلك الرؤى ووجهات النظر تتوزعها تلك النصوص ,والكتابات بوصفها عالما متكاملا من الأفكار,والأحلام, فنراها تقول : أمسك ورقة وقلما من على مكتب الطبيب ثم كتب: جلس ليقرأ الجريدة ويدخن سيجار كوهيبا، يضحك بصوت عال يسأل الشعراء: لماذا تجلسون أسفل المنضدة؟! متى يموت خوفكم من القيل والقال؟ ها أنا أمامكم أدخن في العلن وبجوارنا صديقكم الروائي غريب الأطوار الذي يرتدي ثيابا متداخلة الألوان ويضحك كثيرا بلا سبب ويقرأ دائما كتاب “هكذا تكلم زراديشت” يشرب الشاي ويدخن المعسل أمام الجميع كل عام في شهر رمضان؛ فلما أراكم دائما بالأسفل؟ وعن طريق تلك الأفكار,والرؤى,الساعية إلى معرفة ذلك العالم لابد لها من إن تقوم بعملية مداخلة بين تلك النصوص من القصة القصيرة ,لتكون-في النتيجة- فضاءات/مواطن التقاطع هي التي تشكل العالم القصصي ,وغير القصصي للقاصة , والفضاءات التي تتقاطع من خلالها نصوص القاصة لا تقتصر فقط على الموضوعات والأفكار,والرؤى التي تعبر عن هاجسها,وموقفها من العالم-وان كانت أبرزها- بل تتعداها إلى اللغة ,والشخصيات,وإنشاء الصورة,وبناء النص أيضا0 تلجا القاصة (بسمة يحيى ) في كثير من الأحيان إلى الطبقات الفقيرة , والاجتماعية ,والفلسفية, والأدبية, والسياسية في نصها القصصي ,لأنها تؤمن أن الأدب هو صوت الفقراء,وهو المرآة التي تعكس همومهم,وأفراحهم,ومآسيهم,وطموحاتهم أما الأدب الذي لا يروى بصوت الفقراء فهو إما أدب دعائي,أو أدب البرج العاجي,التي تترفع عن الخوض في مآسي الفقراء,فنراها تقول : نهض الشاعر الشيوعي منسي المعروف بقصائده الجريئة وجلس بجوار الشيخ نيتشة. – قال: أنت لا تعلم سبب جلوسي بالأسفل، فأنا مختلف تماما عنهم، لا أعرف هل سبق لك ومررت بمحاولة تغيير الواقع الظلامي وفشلت؟ إذا كانت الإجابة نعم بالطبع ستعرف لماذا أجلس دائما أسفل المنضدة. سرحت قليلا في ذكرياتي مع صديقي الزرقاوي، تذكرت حينما قال لي: لتذهب معي نذكر الله في حلقة الذكر لعله يغفر لك. ذهبت معه ليس لأنني درويشا أو صوفيا مثلا لكن من باب الضحك والفرفشة. قليلا لأعلى أطوح رأسي يمينا أرى الزرقاوي يذكر الله، يسارا أرى رجل كبير السن يرتدي ملابسا بيضاء، طوحت رأسي أكثر فأكثر لاحظت تصرفا غريبا من الرجل كبير السن؛ حيث اقترب من الزرقاوي ورمى له خاتما كبيرا ذهبي اللون، انحنى الزرقاوي ليمسك الخاتم المكتوب عليه(ع. د) أي عفريت الدولارات، فرك الخاتم فأتاه الخادم؛ فزعت من المشهد وظننت أنها هلاوس بسبب إطاحة الرأس فتوقفت. طلب منه العفريت أن يقرأ التعويذة بعد أن أعطاه أموالا كثيرة. لجأت القاصة ( بسمة يحيى ) إلى تدعيم نصها القصصي , بتراثنا الثر,محافظة على تراثنا ألشفاهي من الاندثار,أو النسيان, فهي تعتمد على الثالوث القصصي الطبقات الفقيرة / السياسية / التراث , لأنها عندما تنتج نصا واحدا جنينا مهما تعددت نصوصها ,و أن هذا النص الواحد ليس هو النص الأول التي تكتبه,وإنما هو خلاصة النصوص التي كتبتها,فنراه تقول : قرأ: الأمل أمامك يناديك أسفل(ه. خ) يوجد الجزء الأعظم من العرش في مكان منحدر ناحية الشمال هو(أ. ك). العفريت: فقط اتبعني لتصبح ملكا، التعويذة تأمرك بالتوجه أسفل هرم خوفو الموجود على أرض كيميت. سار معه في الزحام بعيدا، مشيت خلفهما لأجد للعفريت ساق إنسان و ظهرا يشبه ظهر الشقيق الأكبر للزرقاوي. تذكرت حينما حكى لي صديقي عن صراعه مع أخيه الأكبر الذي يدعى إنكيعلى الحكم من بعد أبيه الملك. جريت مسرعا خلفهما حتى وصلا إلى أسفل الهرم.جرى العفريت بعيدا بعد أن قتل الزرقاوي و سرق من جيبه خاتما مكتوبا عليه(ع. خ. ع).قرأها الطبيب ثم قال: ما سر تلك التعويذة؟انه كامن في أعماق ذهنها,وتتوالد عنه النصوص عندما يراد لها أن تولد ,وليس النص الأول نفسه إلا منبثقا عن ذلك الجنين القابع هناك داخل الذهن,ولذلك كان لابد من معرفة هذا النص التي كتبته ( بسمة يحيى ) المتشكل من مجموعة نصوصها الإبداعية, من خلال استكشاف المحاور التي تمفصلت هي ذاتها,ثم تمفصلت من حولها ,ومن خلالها نصوص القاصة ,وكذلك تأطير الشخصية التي جسدت رؤاها,واللغة التي عبرت بها تلك الشخصية عن تلك الرؤى, من خلال البناء النصي الذي احتوى كل ذلك وصيره عالما متكاملا أساسه الكلمة, نقول إننا من خلال استنطاق النصوص القصصية نجدها تعبر عن أسلوب جديد في كتابة القصة عندها على الساحة الأدبية, ويعد جنسا سرديا معاصرا , فنراها تقول : وقف ليضع يده على رأسه، صرخ قائلا: انتفض جسمي بسبع هزات.. أنا الآن أسبح في محيط بارد جدا، جسدي يشبه سمكة صغيرة، صعدت على سطح الماء لأجد سماء رمادية ممطرة.
ما هذه الأجواء المرعبة؟ ماذا يحدث حولي؟ أصوات مخيفة تكاد تخترق جسدي وكأنها أتت من الفضاء الخارجي. لا أشعر بعمودي الفقري.. يخرج من جسدي من يزحف على اليابس ومن يحلق بالسماء وآخر يمشي على أربع.. ثم يرتقي جسدي ليشبه البشر تماما، نظرت على يدي اليمنى لأراها تتحول إلى يد بشرية بشكل طبيعي. إنها الغابة الاستوائية التي احتضنتني طويلا بين حزن وفرح استقرار وحروب مع أعداء.
—–
(*) ناقد وقاص عراقي