الصديقة العزيزة سلوى بكر تحية لفكرك وابداعك المتجدد. من صنعاء إلى أم الدنيا.
أسمحي لي أن أعبر لك أولا عن مدى تقديري واحترامي لطرحك المتجدد، فدوما يلفت انتباهي بجرأته وبساطتهن وتجاوزك لوعي سلفين من عقد ايدلوجية ودينية وأثنية. قلائل أمثالك ينيرون طيق الحياة بمفردات فكرهم وسلوكهم وتعاملهم وما يكتبن ويتفوهن به. كل ذلك يتجلى بصدق وقناعة الذات، بحرية ومساواة إنسانية حقة، قد يختلف معك من المجني عليهم بفكر معاق. لكن الأكثر معك دوما. وعلينا أن نؤمن بان الفكر لا يموت “قل كلمتك وأمض”.
أذكر أول لقاء حينها حضرت لك في خيمة وأنت تتحدثين في ندوة ضمن برنامج على هامش معرض القاهرة للكتاب، ذلك قبل سنوات. وقبل أن تنهي طرحك أعترض أحدهم بطريقة فجة، ليناصره آخر، لحظتها أدرك الجمهور أن من يعترض، قد حضر ليجابهك وكأنه في مهمة، أعترض بأسلوب من يمتلك الحقيقة، وما عداه ضال…
وسبق حضوري تلك الندوة كنت قد قرأت بعض أعمالك، وتابعت لقاءاتك على قناة النيل الثقافية، ولذلك حرصت على الحضور في ذلك اليوم. لأجد نفسي أكثر مواءمة لما تحملين من فكر وتوجه مستنير. بعد ذلك تكررت لقاءتنا في ندوات ومؤتمرات أدبية عديدة. سعيد جدا بك.
لذلك أتصلت بك قبل أيام أشكو عدم عثوري على بعض أعمالك السردية، باحثا عنها في مكتبات وسط البلد دون جدوى. لتبادري بإهدائي بعضها، فشكرا لكرمك.
“قرأت سواقي الوقت”. رواية تدعوني لأن أحاورك. لست ناقدا أكاديميا، بل أظنني قارئاً شغوف. مؤمنا أن زمن القارئ قد بدأ، مقابل خفوت مساحة الناقد الأكاديمي، وهو يفقد منابره يوما بعد يوم، مجلات وصحف لا تفسح للقارئ أي حيز. القارئ الذي وجد في فضاء شبكات التواصل الاجتماعي أفق لما يدو قوله، أن يتحدث عن أعمال أعجبته أولم تعجبه، بعيدا عن تقعير بعض الأكاديمي، وترديده لمصطلحات وأسماء مللنا سماعها. متمنيين ان نسمع يوما بما يدل عليه. يصمته ، أثره بديلا عن ترديد مقولات غيره. مع اعتزازنا بقلة من الأكاديميين، من يكتبون أنفسهم بلغة ومفرداد تخصهم، وهم من يتركون بصمتهم.
“سواقي الوقت”. الصادرة عن دار الفؤاد للنشر والتوزيع.2022 ،القاهرة. جذبتني بعنوان روائي مبتكر، هي ليست سواقي ماء لكنها سواقي حكي.. شرك لقارئ محتمل ذلك العنوان. مثيراً للتساؤلات. ذلك الغلاف بألوانه الغامقة، مظهرا أجزاء من رأس امرأة، تدلى من شحمة أذنها هلال مذهب بنقوش بديعة، طرف طرحة خضراء. ما يوحي بأنها فلاحة.
بقراءة أولى صفحاتها، أسرتني بساطة السرد وسلاسة لغته. لكن ما يلفت أكثر، هو نحتك المتواصل لشخصيات العمل، ذلك النحت الخلاق، والمفضي لأعماق ذوات تلك الشخصيات.
الساعاتي الذي لم يذكر أسمه إلا في صفحة 77، رغم تكرار ذكر تلك الشخصيات المنشقة عنه: الحسن الأول والثاني والثالث، إلا أن صفة الأول والثاني والثالث سابقة للاسم ظللتني وذهبت بي إلى ملوك لسنوات وعصور مضت، لأكتشف أن الأول والثاني والثالث مهم إلا نوازع الساعاتي، لتعيدين قارئك بتلك الشخصيات إلى تناسخ الروح الواحدة بأكثر من قرين. ليكتشف لاحقا أنها أوجه متعددة لشخصية الساعاتي، تلك التي تدخل في معارك ونزاعات تشقيه، بداية بقدم إليه ثلاثة أشخاص غريبي الهيئات والملامح يعرضون عليه بيعه ثلاثة خرفان.
الساعاتي هو الراوي وهو الشخصية المحورية لسوقي الوقت، وأقرب الشخصيات إلى نفس القارئ، بفضل ذلك النحت النفسي الذي اتبعتيه، حيث مرحلتي تقديم شخصيته والشخصيات الأخرى إلى مراحل، ولم تصفيه دفعة واحدة. وقد ركزت على باطنه. بديلا عن ظاهره. ذلك النحت الذي أبدعته لشخصياتك. صفحة بعد أخرى. رويدا رويدا يجد قارئك بأنه يعرفهم. بل أكثر من معرفة. فذلك الساعاتي المتلبس بكل ما يحيطه من أدوات العمل، وقطع غيار الساعات، كل شيء تغطيها الساعات، حوائط فترينات طاولات. ما يوحي بتمازج وتماهيه شخصيته بمحيطه.
ما زاد الرواية عجائبية تلك الشخصيات الوهمية. الحسن الأول والثالث بخصائص الحرص والتأني والحذر، يقابلهم الحسن الثاني بجرأته ومبادرته وحبه للمغامرة. تتزاحم تلك الذوات وتتصارع في كل موقف، لتدخله في متاهات لا تنتهي، وكأنها أهواء وغرائز متناسخة، تلك منحت الراوية أبعاد دلالية مختلفة، وجماليات رائعة، فسحة فنتازيا قل أن نجدها في روايات أخرى.
ذلك النحت الذي أدخل القارئ في قلق دائم على مستقبل ذلك الأرمل، الذي يصفه الجميع بالفاشل دراسيا، وإنجابيا، ومهنيا بل واجتماعيا. قلق يتضاعف بعد ضهور ذات مساء بائعي كباش ثلاثة، ثم ظهور الغنامة “صهباء”، وأخيرا زيارة مالكي وكالة ساعات عالمية، خالد وزميلة ابراهيم بغرض تحويل محله فرع للوكالة،. تتغير حياته بعد شراكتهما، تتدفق الأموال، ليغير من حياته، مأكلا، وسلوكا، وسكنا، يشاركهم في سهراتهم الليلة. ذلك التعبير الذي طرأ على حياته، جعلتِ قارئك يشارك شخصياتك التفكير في غده. وكأن القارئ قد تداخل مع شخصيات الرواية، وامسى أحد أفراد مجتمعها.
ثم نحت شخصية “صهباء” الغنامة. أتقنت نحت شخصيتها بأسلوب ساحر، كشخصية غرائبية، وعيا ومنطقا مختلفا. إذ تتعمق في حياة الساعاتي، حتى أصبحت صمن إيقاع حياته، كما لو أنه يعرفها منذ زمن، متجاوزا تباين الفوارق الاجتماعية والتعليمية، تجانسا ككائنين يكمل كل منهما الآخر، في علاقة تتركز بلقاءات الحميمية، في مخدع مثل لهما فضاءات واسع.
الصهباء ناشفة العود، وزوجة رجل مقعد ، عاجز إلا من التنفس وتناول الطعام. امرأة تتردد على المدينة، بغرائبية كل منها للأخرى. جعلتي قارئك يتقبل تصرفاتها طالما وقد الفها الساعاتي. بلهجتها ، خشونتها، وعيها، فهمها المختلف للحياة، إلا أنها لا تخطئ أين تضع قدميها. فلا يجد القارئ إلا أن يتعاطف معها هي الأخرى، يتقبل خيانتها لزوجة القعيد، ترددها على الساعاتي. حتى نهاية تلك العلاقة التي كانت غريبة كغرائبية الشخصية. فحين أخبرها الساعاتي في لحظة مضاجعتهما، عن مقدار مدخراتها التي تأتي بها يوما بعد يوم إليه، انتفضت ناظرة إليه غاضبة، لتعلن نهاية علاقتهما: “حسابي يا حسن؟ قالتها وهي تسدد لي نظرة حادة.. مستنكرة، محتقرة وغريبة، مستحيل أن أنسها أبدا.
ثم وجدتها ترتعش وهي تقول: حساب بيننا.. بعد كل هذا؟ يا خسارة. ثم انها قامت بسرعة وصفعتني على وجهي، وبصقت، ثمت خرجت وهي تردد: من هنا وطالع. أنت من سكة وأنا من سكة. وصالك أنتهى يا حسن…”.
لم يستوعب لحظتها فعلها، بعد مغادرتها ظل ينتظرها أيام وأيام، لكنها لم تعد إليه، ما جعل تلك النهاية أكثر غرابة للساعاتي، وللقارئ أيضا،. لتنتهي أنساق الرواية كلها بنهايات مفتوحة:
– علاقة الساعاتي بصهباء.
– علاقته بشركائه.
– نهايته وقد ترك محلة، يسير بعيدا، حتى محطة القطار، خلع ملابسة قطعة بعد أخرى، ثم تمدد على إحدى المقاعد، يأتيه أحدهم، يسأله عن القطار. “وأنا أفكر فيما قاله، والقطار الذي فاته وقطار زماني أنا الذي مر ومر، تركني جالسا وحيدا هنا في هذه المحطة، أنتظر قطارا وهميا آخر قد يأتي وقد لا يأتي أبدا.”
نهايات صادمة. تناسب شخصيتك المرسومة بدقة، لقد تركتي القارئ في حيرة، تثار بداخله التساؤلات. حين تترك الصهباء عشيقها وما لها الذي لديه. وكأن شيئا لم يكن بينهما، فلا تطمع أو تتلون، بل تبتر معرفتها به وكأنها لم تكن. ثم تنهار تلك الوكالة، ويجن ذلك الساعي. ليتبخر كل شيء!
أسمحي لي هنا أن نعود إلى الوراء، إلى عبد الغفار الخفير أبو عين مفقوعة. من خلال نحت هذه الشخصية، قدمت جزء من نسيج مجتمع المدينة، فلا عمارة إلا ولها بواب ولا ورشة عمارة إلا ولها خفير. دائما ما يحوم حول تلك الكائنات تساؤلات، من أي الجهات قدمت، وما هو ماضيها. عبد الغفار له ماض أسود، يستخدمه مالك العمارة كمخالب قذرة. لم تؤكدي ولم تنفي تلك الأعمال المشبوهة لكنك وضعت عدة تساؤلات. حول أنشطة مالك العمارة، وك لك خالد شريك الساعاتي في الوكالة، موحية بحياة خفية لذوي رؤوس الأموال، حياة الباطن المستتر بواجهات وأنشطة شكلية ظاهرة. وكأن الوجود تسيره الثنائيات. فلكل شكل نراه ونعيشه، مضمون لا ندركه لكننا نحدسه، نقدره، نخمنه، نستنتجه. هذا ما اجدتِ نسجه، أن يكون للمجتمع وجيهن.
جانب مهم، المتمثل في ذلك التحول المجتمعي، من منتج إلى مجتمع استهلاكي، مجتمع شكلي، يهتم بالمظاهر. وقد تحولت البلد إلى سلسة محلات ذات ماركات عالمية، من مطاعم والبسة، إلى مواد غذائية وملبوسات. تغير مخيف لمجتمع كان منتج. “الحاج سند صاحب أشهر محل منيفاتورة في الحدائق كلها، باع محله، برغم أنه كان ميسورا وصاحب بيوت وعمائر ولا ينقصه شيء. ناس قالت أنه قبض مليون جنيه من شركة الملابس الجاهزة الإيطالية، نظير تنازله لها عن المحل. مطعم الوجبات السريعة المقابل لمحلك على الجنب الآخر، الم يكن في الأصل شقة طنط نجيبة الله يرحمها…”. وهكذا تحولت البلد إلى محلات استهلاكية لسلع وماركات أجنبية بينما يضمحل وتقل مكانة المنتج المحلي.
وصف باذخ، وكأنك ترسمين بالكلمات والجمل لوحات جدارية ملونة غاية في الإدهاش. وصف محل الساعاتي، وصف ذبح الكبش ونظرات المتحلقين حوله، وصف لحظات زيارة الساعاتي لأخته الكبرى ووجوده بينهم …
لغة الرواية وأسلوب الحكي سلس ممتع، قدمت من خلالها حكايات تلك الشخصيات الثانوية كمنمنمات، حيكت بفنية مدهشة، بداية: بالصهباء وهمها تزويج بناتها، عقوق ابنها، اصابة زوجها بلغم أدى إلى بتر ساقيه ليبقى قعيد. عبد الغفار خفير العمارة وماضيه المليء بالجرائم. طنط نجية وولديها اللذان غادرا إلى كندا بعد وفاتها. خالد وميوله المثلية ، وذلك الاهتمام بالنصف السفلي للرجال، وكأن الحياة برمتها ما هي إلى حياة سفلية غير ظاهرة مبهمة وملغزة، وحياة على ظهر الأرض، يعرفها الجميع. تلك المنمنمات الحكائية مكنت القارء أن يسمع ويرى إيقاعات الحياة وكأنه أحد شخصياتها.
لكن ما يدهش أسلوبك في طريقة اقبال الساعاتي للغنامة واقبالها عليه، الساعاتي ابن المدينة، والغنامة ابنة الهوامش وحياة الفقر. وكيف تعايش كل منهما مع ألآخر، التلاقي الجسدي، تنامي تلك العلاقة، بساطة المعاملة وكأنهما كفئي بعض، الحوارات الدالة على أن الغريزة أو الحاجة الإنسانية هي الإنسان ذاتها، حين تذوب حواجز وعقد المال والجاه والتحضر أمام احتياجات الكائن الغرائزية. لقد نسجت تلك العلاقة بأسلوب فلسفي ممتع، ما يرك للقارئ فسحة من التساؤلات، أكرر، حتى النهايات الصادمة، بما يمكن أن تحمله من تأويلات، كل قارئ حسب وعيه وثقافته.