كتبت الإعلامية الأديبة “تركية لوصيف” رواية قصيرة لا تتجاوز صفحاتها 111 صفحة من الحجم الصغير جدا، نشرتها “دار تديكلت”، الجزائر، سنة 2017.
تبدأ ناصية الرواية بالفقرة القائلة: “..المنتزه معلم من بقايا الوجود الاستعماري في الجزائر، و حول إلى مكان يلتقي فيه الأدباء و الموسيقيين ـ الموسيقيون ـ و يديره فيكتور اليهودي الذي غير اسمه إلى عمي محمود، و الذي أهدى آلة أورغ إلى العازف منير، و تعود الآلة إلى جدته، يسعى فيكتور إلى استعادة المعلم كملكية عقارية..ص 9”.
و تنتهي الرواية بالفقرة القائلة: “..العون يثبت لافتة برونزية على مبنى بيتي “منتزه منى فريجينا” ، منير سعيد و يدفع بي الكرسي المتحرك، الفنانون يدخلون أفواجا و يحملون باقات ورد حتى صار المكان يفوح بعبقها،، منير يهمس بأذني مبتسما: ستكملين رسالة فرجينيا، أنت فرجينيا جزائرية، وهذا مهم..ص111″.
و بين الفقرتين تدور أحداث متعددة، بعضها في صياغتها ضمن صيرورة الآنية، و بعضها الآخر جاءت صياغتها ضمن تقنية الارتداد إلى أحداث و وقائع كانت قد عاشتها شخصيات الرواية. و قد دارت تلك الآحداث كلها عبر محوري؛ حب “منى” لـ “منير”، و محاولة جعل “منتزه فرجينيا” فضاء تبتدع فيه كل شبقات الفن من موسيقى و من حوارات و من تمثيل مسرحي و من لقاءات لكل من وجد في نفسه شبق نحو الفن و الإبداع، مثل الفقرة القائلة:”..قلت سينما الأبيض و الأسود تستهويني فيها ممثلات برعن في التدخين، ولا أذكر ولا واحدة منهن، و لكن أحببت بعدها الفكاهة و الهزل، إذا فيهما القوة و الذكاء، عكس التراجيديا، ثم رفست بقدمي تلك السيجارة اللعينة من بين أصابع العجوز..ص33″.
فقرة ترمز إلى ذلك التضاد و التضارب، ربما، يعيشه كل فنان بطريقة ما، و هو يحاول في بداية طريقه يختار جنسا فنيا معينا ليبرع فيه. و تلك لمحة أجدها ذات أهمية قصوى في واقعنا الاجتماعي الجزائري الذين يفتقد فيه الفنان كل تشجيع و كل مساندة و كل تكوين أو حتى استشارة ثمينة، و ذلك لأسباب تاريخية معقدة.
كما نجد الفقرة التالية تؤكد هذه الرغبة الجموحة عند “منير” وهو يرد، على استفسارات “منى”: “..بهدوء قبلت عرضا قادم من أحد الخواص، هل تعرفين الموسيقى التصويرية في الأفلام، سأضع مؤثرات معبرة مقابل مبلغ كبيرو أخصك بمقعد في رحلة على اليخت في تركيا..ص21”.
واختصار للمسألة في هذا الجانب أجد إغراقا كبيرا لمثل هذه العناصر و المكونات المرتبطة بشكل ما بالفن عموما و بالموسيقى و بالمسرح وبالصور الفوتوغرافية و بالأدب خاصة داخل هذا النص تحت تأثير و غواية الكاتبة بكل ما له صلة بالفن بعيدا عما اهتم به الكتاب الآخرون، بهذا الأسلوب التقني، في المنظومة السردية الجزائرية.
و قد أفاضت كاتبة النص في جعل مرتكز و فضاء كل ذلك يقع وسط “منتزه فرجينيا” أو حول حوافيه في كل ما يبدعه “منير” من عزف على آلة “أورغ” و في كل يقدمه “عمي محمود” من خدمات للزوار، و في كل ما تتمتع به “منى” من آمال في حبها لـ “مراد”، ثم ليصل كل ذلك إلى مرحلة الذروة حين تلجأ “أم عمر” التزوير المتمثل في سرقة الملكية الفكرية للغير،و ذلك حين طلبت “أم عمر” من “منير” ليحيي لها حفل عيد ميلاد ابنها “عمر” ثم تستغل وجوده في البيت لتطلب منه أن يسرق لها مبدعات “منى” و حين يرفض تتهمه أمام زوجها بالتحرش فتدخله السجن؛ ص 10 و غيرها من الصفحات.
كما أصرت فيه على أن تجعل “منى” و هي الشخصية المركزية في النص تضحي بكثير من مصداقية شخصيتها في سبيل إرضاء “منير” الواقعة تحت تأثير حبه بسبب تفوقه و عبقريته في استعمال آلة “الآرغ” بإبداعه ألحانا جميلة جدا تستولي على مسامع كل من يسمعها. لأجد النص من خلال كل ذلك التشابك الحدثي و التعالق السردي بين جزئيات رؤى مستخلصة من واقع يعيشه و يعايشه كل منا بطريقة ذاتية و من زاوية محددة تحترم فيها مقدرات و تمكنات كل قارئ لهذا النص.
و عليه، و وفق مصوغات وترتبات فقرات النص بقصد فك شفراته، تبين لي بأنه متخم بكثير من التعدد الدلالي لاستخراج مبتغياته و مقاصده الفنية، و ذلك على اعتبار؛ أن لكل نص، مهما كان جنسه أو تصنيفات أيديولويجة كاتبه، يظل و يبقى أبدا حمالا لمقاصد يأنف بثها و توصيلها للقارئ بنص إعلامي أو شعري لعدم كفاية مصوغات الإبداع فيهما وفق قناعاته. ليبقى النص الروائي القصير الكفيل وحده بفعل كل ذلك، و ذلك، ربما، نزولا عند ما يشاع لدى النقاد المحدثين قاطبة بأن الواقع: “..في نظر الروائي الجديد مجهول و محجوب ولا يمكن التعبير عنه بأشكال معروفة و مستهلكة، و لتحقيق هذه الغاية يتطلب ذلك توظيف أساليب جديدة ترمي إلى اختراع الواقع من جديد و مناقشته في كل لحظة..” “.
مما لاشك فيه وأن كاتبة “منتزه فرجينيا” إعلامية مشهود لها بالممارسة الإعلامية، و هي المهنة المشهود لها بإمكانية الدخول إلى أقصى تعرجات التشكلات النفسية و داخل البنى الاجتماعية بقصد معرفة كل مدسوس فيها و عنها و حولها. و تلك ميزة أجدها بارزة في هذا النص وفق الإلماحات التالية:
ـ أن كاتبة النص ابنة منطقة جزائرية مشهود لها تاريخيا و ثقافيا و وجوديا؛ بمعنى المشاركة الفعالة في صنع الجديد و المتجدد نتيجة لموقعها الجغرافي المتوسط داخل العمق الجزائري شرقا و غربا و وسطا و جنوبا، و بخاصة في الفترات الحرجة التي مرت بها الجزائر مثل الاحتلال الفرنسي و العشرية السوداء، زيادة على الطبيعة الجميلة و الرائعة التي تعطي لفضاء المدينة و منها مدينة “قصر البخاري”، مما يجعل الأديب المبدع في حيرة عما يكتب.
و تحت مجمل تلك الإغراءات المتعددة أحالت “تركية لوصيف” ريشة قلمها على معلم مهم يجمع الكثير من الدلالات، لعل من أهمها “الدينية” التي كانت الحربة السامة و القاتلة في جسم الأمة الجزائرية و التي كان فارساها الأولين “شارل دي فوكو” و “لافيجري” و أيقوناتها الكثيرة الموجودة في الكنائس الضخمة في الجزائر و في وهران و في عنابة، و التي منها “معبد/شنوغة فرجينيا” في فضاء المدية/قصر البخاري و نواحيهما.
و وفق هذه الهوامش التي ظلت معالم هندسية مادية و كرسها المحتل وجوديا سما زعافا عدائيا استطاعت “تركية” أن تنتزع المضمون الديني المسيحي من “معبد فرجينيا” و تبدله بسيل آخر متخم بكل المبتغيات الفنية و الهواجس الجمالية في كل أجناسها و في جميع تجلياتها و جعلها تتسلل إلى الحيز الجغرافي لفضاء مدينة “قصر البخاري” خاصة وإلى كل الأنفس التواقة إلى التلذذ بكل رائق و ممتع من الفنون.
و بهذه الإحالة استطاعت أن تقبض على عصب حساس جدا أجد حياتنا، و ذوقنا في حاجة ماسة إليه، و هو “فن الموسيقى” الذي يصقل الذوق و الإحساس، موازاة مع ضرورة استغلالنا لبعض الفضاءات التي سيدها المحتل الفرنسي على الشعب الجزائري مثل “المعابد الدينية” و نحولها إلى فضاءات تعني من شأن بعض القضايا كالموسيقى و كالمسرح و كالندوات الثقافية، لنحولها عما فعلها لها المحتل إلى ما نقصده نحن في صالح شبابنا و فئاتنا الاجتماعية البعيدة عن المدن الكبيرة.
و بعد التدقيق وجدت أن “تركية” قد أعطت لنفسها الكثير من حرية الخروج عن المستهلك و عن المتعارف عليه في صياغة مثل هذه النصوص، مما جعل نصها يتميز بـ :
ـ القصر في بعده الإيجابي؛ أي الخالي من الإطناب الممل، و ذلك ما ينسجم مع مهنتها الإعلامية التي تتطلب التدقيق في توصيل الفكرة للقارئ الذي ينتظرها على عجل من أمره. كما قد يعتقد البعض بأن القصر الذي نعنيه في النص قد ضر و أقل من قيمة التشويق و المتابعة من طرف القارئ، بل نجد كل ذلك متوفرا بنسب متفاوتة حسب كل فقرة.
ـ لغة أحادية السبك/ أي وجدنا أن الكاتبة تكتفي بصيغة واحدة فقط لتبليغ المعنى المراد، مما ابعد نصها عن تكرار الكلم و الصيغ التي تؤدي نفس المعنى.
ـ تركيزها المفرط على الجوانب الوجدانية النفسية الحبية منها و المخضبة أو المهيجة للأعصاب، بعيدا عن كل ممارسة جسدية بين الشخصيات إذا ما استثنينا سجن”منير” مثل:”..رفض وثار وبدأ بالصراخ حتى انتبه زوجها..فما كان من اللعينة إلا اتهامه بالابتزاز و سوء التصرف في بيتها..ص 58″.
ـ إعطاء أهمية قصوى للأعمال و للهويات الفنية بدلا عن الرغبات و المشتهيات المادية، حتى أننا لا نجد هم الأبطال مركزا إلا على النغم/الإيقاع/اللحن/ الذي نجده في النص معشوق البطلين “منير” و “منى” حتى بات تسجيل تلك الألحان التي كان يبدعها “منير” و إخراجها في قرص مضغوط، موازاة مع تسلم “منى” مفاتيح “منتزه فرجينيا” نصرا كبيرا و سعادة مثلى ليس في مكسبهما المادي البحت، و لكن في توفير الكثير من الجمال و من الشاعرية و من السعادة على مرتادي “المنتزه” و كذا إضفاء ملامح التناسق المادي المتوفر بكثرة في الطبيعة المحيطة و بين المبتغيات و الذكريات الكامنة في نفسية “تركية”، و ذلك على اعتبار ذلك الفضاء الموجود فيه المنتزه هو امتداد طبيعي لبيت الطفولة” “.
ـ الاعتماد على الفقرات القصيرة/قبسات قصيرة بغية الابتعاد عن التدخل في كل شيء ضمن المنطوق السردي و قصد إعطاء فرصة للقارئ لتأويل ما يراه من توالي الأحداث الصغيرة والطفيفة مثل:..” قامت حياة و هي ترتعش و جذبت عمرا و هي تقر بهزيمتها، اتصلت بالمحامي
“السيدة حياة ستحضر بعد نصف ساعة..و تكتم عن الأمر.”
نصف ساعة كانت دهرا و أجول بالبيت و نظري صوب الهاتف.
الرنين..و دقات قلبي المتسارعة..ونبرة ارتياح في حديث المحامي..”الهدف صار حرا يا منى.” ص 67 ـ 68″.
ـ استغنت عن علامات الترقيم التي نجدها في البحوث الأكاديمية مثلبة يجب تجنبها، لكني هنا، ربما، وجدتها كأن الكاتبة تقصد إلى جعل الصياغة؛ سردا أو حوارا أو حوارا نفسيا مسترسلا لا توقفه تلك العلامات.
ـ كما وجدتها زاوجت بين النص المكتوب و بين النص المقروء حين جعلت الإعلامية “عقيلة بوزيان” تقدم هذه الرواية في شكل قراءات بصوت جميل زاد النص رونقا و إيحاء في ذوق المستمع و في ذائقته، ليجتمع للنص استهلاكان؛ استهلاك بالعين و استهلاك بالأذن، و هي إضافة أجدها جميلة لتوسيع استهلاك النص الفني الأدبي. و كأن الكاتبة تصر على جعل تعانقا قويا بين الحرف و بين الصوت في إبداع النص السردي الجديد.
و على حين غرة تطاول علي “سنجابي” و سألني عن سبب وجود مصطلح “فرجينيا” عنوانا لهذه الرواية و وجوده “اسما” للروائية العالمية “فرجينيا وولف” فتلعثمت و حرت حتى قلت ” ربما يجمع بينهما رفض الخراب و الدمار الذي يعمله الإنسان في نفسه، لأن النقاد ذكروا بأن “فرجينيا وولف” هالها الدمار الذي حل بالإنسان بسبب الحرب العالمية الثانية فصورت ذلك في روايتها “بين الفصول” و، ربما، تركية لوصيف هالها أيضا ذلك الدمار المادي عامة و الديني خاصة بواسطة هذه المعابد فارادت تحويلها عما أراده لها المحتل بمبشريه إلى مكان للإبداع و للفن بصفة عامة؛ موسيقى و مسرح و معارض و لقاءات أدبية و حوارات فكرية بين الأديبات و الأدباء في فضاء جميل ورائق تحفه و تحرسه أكوام الطبيعة التي حابى بها الله فضاء المديةعام : و “قصر البخاري” خاصة.