بالتاكيد ربَّ سائل يسأل لماذا هذا الديوان مرة اخرى وقد مر عليه اكثر من ثلاثة عقود خلت وبالتحديد (٣٧)، عاما اي صدر عام ١٩٨٦ عن دار الشؤون الثقافية العامة، لكن قصائده مازالت طرية يانعة مخضرة دائما وابدا في حياتنا التي اتعبتها الحروب والمشاغل والمصاعب المتتالية، عصافير عدنان الصائغ العاشقة للحياة والهارعة بكل شوق الى اعشاشها تريد الاطمئنان والشعور بالراحة والهدوء مع صغارها في كل وقت وآن، ولوتتبعنا قصائد هذا الديوان لرأينا بانها تحاكي الحياة الحاضرة بكل تناقضاتها على الرغم من مرور هذه السنين الطويلة، لقد كتب الشاعر قصائده بحبر الدم في ايام عصيبة مرت علينا جميعا، ايام كان يشاغلنا فيها الحزن والالم والشجن المر، اتذكر حينها عندما كنا نسير معا في شوارع الكوفة في اجازاتنا كيف كان الصائغ يحزن لعصفور حزين او قبرةٍ مازالت تفتش عن صغارها وسط غبار الحروب التي توسمت فوق جلودنا ونفوسنا وشبابنا الذي ارهقته الايام واتعبته السنين، انا هنا اتذكر تلك الايام العصيبة وعمرنا الذي ضاع سدى فيها، اتذكر اهداء الديوان عندما خطه بيده شاعرنا الصائغ، ويقول فيه (صديقي الشاعر الطيب رزاق مسلم، هذه عصافير احلامنا الهاربة من عصر الرصاص والعنف والرماد علّها تجد فوق غصن قلبك الاخضر مأوى لها… ولي)، ومن موقع الجمال والحب والعشق الابدي لمحراب الحروف والقصائد والقراءة الدائمة اقول لصديق درب الادب والشعر والثقافة عدنان الصائغ، يارب الصحة وتمام العافية والشباب الدائم وانت مازلت تتحفنا بكل جديد وآخرها ديوان(نرد النص)، واقول ايضا ان قصائد هذا الديوان مازالت الى الان ندية غضة طرية بكلماتها وعنفوانها وسجيتها الجميلة،وكما ذكرت ان الديوان يحتوي على (٣٢) قصيدةمنها، اقطار، ساحة ميسلون، مرايا الوهم، نجمة، احتراقات القمر المشاكس، ذلك البكاء الجميل، أمواج، أحزان عمود الكهرباء، المدينة، وغيرها ففي قصيدة(تداعيات رجل حزين) يقول الصائغ فيها مخاطبا من يحب بعشق
كبير ومحبة لاتوصف عابرا كل هموم الدنيا من اجل من يحب حين يقول؛
كل همومك.. تغرق
كل حروفك.. تغرق
كل خرائط قلبك.. تغرق
حين تكون أمام عيون امرأةٍ زرقاء
فلايطفو فوق الساحل غير جنونك
والزبد الازرق
وفي قصيدة احتراقات القمر المشاكس ينقل لنا قصيدته وكأنها كتبت تواً حين يقول؛
في الليل
كانت نجمةُ القلق الشريدةِ
تقتفي خطوي الى البيت التي منحت دمي هذا التوهج والجنون
كانت تقاسمني التسكع في الطريقْ
حتى تعبتْ، ….
ستتركني وحيداً….
وفي مقطع من قصيدة ليست هي مرثية… لي نقرأ المقطع الاخير منها
إذا ماتعبتَ من الوهم
أو أتعبتك دروب الزمان
إذا شتّتكَ النساءُ..
إذا رفضتكَ الجرائد ُ والأصدقاءُ..
إذا ماتذكرتَ إنك…
لاتملك-الان-بيتاً شرشفاً
فنمْ.. في عراءِ الرصيفْ
التحفْ حلمكَ الشاعريَّ
ولا تستدنْ حلماً أو سريراً ذليلاً
من الاخرين
وفي قصيدة(انطفاء) يعود شاعرنا وبرغبته العنيفة للأصدقاء والحياة ككل رغم صعوبتها وهو مازال قوياً نداً لكل قساوة هذه الدنيا التي نعيشها حتى في قصائده الاخيرة وكلماته في ديوانه(نرد النص) فما اشبه اليوم بالبارحة حين يقول؛
رغبةٌ عارمةْ
لذةٌ من جنونْ
.. وانكسارِ مرايا
رغبةٌ كالهاثِ على جسدٍ أو حجرْ
لذةٌ كالنصالْ
هكذا، والدقائقُ جمرْ
هكذا، والشوارعُ خاليةٌ من خطى امراةٍ
.. أو ظلالْ
وفي قصيدة اخرى(تمرين لكتابة قصيدة)، كتبها الى صديقه ورفيق دربه الطويل الشاعر عبد الرزاق الربيعي، وهما مازالا يكتويان بنار الشعر والقصيدة والالم الطويل في خضمِّ هذه الدنيا عندما يقول فيها؛
في الليل احصيتُ التأوه، ألف آه
في الليل احصيتُ النقودَ
وكنتِ مدهشةً بفستان التوهجِ والتغنجِ
تبسمين لوجهي المصفرِّ، للاضواء
للكهل الثريّ….
وترقصين
(-ياصاحبي ماذا جنيتَ من القصيدة
غير هذا الفقرِ، والسفرِ المبكرِ، والجنون
ماذا جنيتَ من النساء
أوكلما أحببت اخرى صادفتكَ على الرصيف نسيت انك جائعٌ ومشتتٌ
ونسيت انكَ دون بيتْ…!)
هكذا اتحفنا عدنان الصائغ بقصائده وهو مازال يئنُّ على العراق في غربته الطويلة عاشقا متمردا في سبيل القصيدة التي يحبها ويعشقها منذ خمسة عقودٍ خلت.