عشقت المسرح حد الجنون، وأنا صغير حلمت أنني أرفرف كطائر حر، أطير حيثما تحملني أجنحتي فوق خشبة لا حدود تحدها. أمثل ما يناسب طبيعتي، مبادئي… ما يحملني عاليا في سماء الوطن.
حلمت أنني أصبحت مشهورا، ثريا… أملك كل ما يجعل حياتي سهلة. أعيش الرفاهية الممزوجة بأريج الهناء، وعبق السعادة. لكن عندما كبرت بخرت الشقاوة أحلامي شيئا فشيئا حتى أصبح العسر يتبختر على آمالي.
اعتبرت نفسي ممثلا فاشلا، بل مفشلا، لأن رقعة الخشبة مقزمة لا تسع تحركاتي، والنص المسرحي لا يرقى لطموحاتي. نص كبح خيالي، وطار ببريق أحلامي. غدت كل أيامي ليال. لا ضوء ينير طريقها. قطعة غيهب لونت حظي وحظوظ آخرين.
تبدد حلمي، وشاخت آمالي، واريتها قبر الخلاص، وحاولت نسيانها حتى لا تمتد يدها فتغتالني.
كبر كرهي لمسرح ألزمني بأن ألعب في مسرحية رديئة الصنع، محبوكة الأدوار، …تساءلت وأنا أنظر إلى الكم الهائل من الواقفين على الخشبة وهم كالحو الوجوه، يجرون دون هدف كأن الريح يدفعهم: من يحدد أدوار كل هؤلاء الذين هم على خشبة هذا المسرح الملعون؟ ومن يسهر على إخراج هذه المسرحية الرديئة؟…
إنه مخرج جمع بين المكر والخبث. يحركنا كما يشاء، بل كما ومتى تشاء ساديته، كأننا ألعاب كرتونية على مسرح العرائس، أو قطع شطرنج. أجسام دون عقول صرنا، بل دون أرواح.
اغتصب إرادتنا وصار يتفرج ضاحكا على تراجيدية مشاهدنا التي حولتها ساديته إلى كوميديا.
قررت أن أنسحب، لن ألعب دور كومبارس. أخبرت مساعده بقراري، فتجهم وجهه وثار رافضا.
انتابتني فكرة الهروب، فأخذت أفتش عن مخرج انفلت منه، لكن دون جدوى فأبواب المسرح مغلقة. تابعت أتحرك دون رغبة مني، ورأسي يفكر في مهرب.
صممت على أن أعدل دوري، ومهما كلفني الأمر. غدوت مستعدا لتقديم نفسي فداء. سأشعل النار في جسدي لأنير الطريق المظلم.
انزويت في ركن بعيد، وانهمكت أعدل ما رأيت أنه يحتاج إلى تعديل. عدلت السيناريو بما يليق بشخصي. أكتب وأحس نفسي تحلق عاليا في سماء الوطن.
لما أنهيت التعديل انتابتني فكرة كتابة مسرحية ملحمية بعنوان “لا تقطعوا أجنحتي”. أخذت أكتب ونشوة الفرح تتلاعب بتلابيب نفسي. ما إن أنهيت العبارة الأخيرة: “أنا طائر حر يعشق السباحة في الآفاق، ويكره الأقفاص المفتوحة شكلا” حتى وقف علي أربعة من زبانية المخرج.
دون مقدمات رماني قائدهم بنظرة استصغار، ثم سأل: لما أنت هنا؟
التفتت إلى جانبي أبحث عمن وشى بي. لم أجد أحدا. فالأريكتان القريبتان مني ظلتا فارغتين. حدثتني نفسي بأن كاميرات مراقبة متبثة في الأعلى، راقبت السقف. لا وجود لها، أخيرا شككت في مرافقي، هاتفي الذكي، فعينه لا تحيد عني.
أحبته: أكتب.
اندفع أمامي قائدهم ذو كرش مدور كأنه علبة تروس، وعضلات وجهه مشدودة كزيه الكاشف. صار يظهر كأنه ملوي في ذلك الزي الذي لم يعد يناسب حجمه. حذرني بمنع الكتابة قائلا:
– الكل مكتوب. لا تتعب نفسك بالكتابة. فقط نفذ ما خط لدورك.
تجاهلت ما قال، وسألت غاضبا:
– من أخبركم عني؟!
تغاضى بدوره عن سؤالي، وأمر بصوت مرتفع:
– قلت لك لا تحاول أن تكتب.
انتفضت رافضا:
– كرهت الأدوار التراجيدية.
قال وابتسامة هزء على شفتيه:
– أصبحت تميز بين التراجيدي والكوميدي. لا مجال لك للاختيار.
– أريد أن ألعب..
قاطعني آمرا:
– عليك أن تلعب وفقا للإيقاع وداخل المربع. فرقعة الملعب ضيقة لا تحتمل مثل أفكارك، وإيقاعنا بطيء لا يتماشى وتفاعلك السريع.
امتصصت غضبي وحاولت أن أقنعه بهدوء:
– ولم ممثلو الضفة الأخرى يتحركون بحرية أكبر؟
– ناضلوا من أجل الحرية فنالوها.
– ونحن؟!
– لا تستحقونها.
– لماذا؟!
– إن تحررتم ستقلبون عاليها سافلها.
وأنا أبحث عن تعليق يشفي غليلي ويضمد الجراح التي ترك كلامه القاسي في قلبي خطف الورقة من يدي مرر عينيه على سطورها رافعا حاجبيه إلى الأعلى. رفع رأسه، رمى الورقة بين فخذي، وقال بنبره حادة:
– مزق ما كتبت وعد إلى رشدك ولا تستمر في مجادلتي وإلا..
توقفت الكلمات على شفتيه. ركزت نظري على وجهه مستغربا، فإذا بشفتيه اللتين كانتا متوردتين قد ازرقتا، وشعر شاربه يتراقص من شدة الغضب. اجتاحتني موجة انفعال قوية، فتزاحمت الكلمات على فتحتي مخي. لم يخرج أي منها رغم أنها كانت مندفعة جملة واحدة لمواجهة تهديده. استجمع أنفاسه، فأتم وهو يشير بسبابته حذو صدري:
– لا تنس أن الموت هي ما قد ينهي عقدك معنا، غير ذلك فهو ممتد زمانا ومكانا.
– لقد قررت..
خطف مني الكلام، وقال مهددا والشر يتطاير من كلماته:
– إن لم تعد إلى رشدك ستجد نفسك بجانب المجانين أو المسجونين.
ما إن هدد سلامتي حتى استنهضت همتي، ورتبت أفكاري، ثم قلت بعزم وإصرار:
– من الآن فصاعدا، لن أترك أيا كان يتصرف في، ويقرر في مكاني، ويسيرني وفق غرائزه المنحرفة. سأكتب دوري بيدي، وكما يملي علي ضميري. أما تهديدك فلن يثنيني، وسجنكم لن يخيفني لأن تضييقكم خنق روحي فأضحت مسجونة في جسدي، يطاردني شبحها حيثما وليت وجهي.
استمع بإمعان لكلماتي، لما أتممت التفت إلى مرافقيه ورج رأسه نحوي، انتزعوني بقوة من ذراعي وأوقفوني قبالته، فقال:
– أظن أنك استوعبت الرسالة. أستغير رأيك؟
بمزيد من الإصرار رددت:
– لم ولن أغيره أبدا.
سحبوني، امتنعت عن المشي فصاروا يجروني. رموني في زنزانة صغيرة، متآكلة الجدران. غدا بياضها رماديا. شبه مظلمة نهارا. أما ليلا، فأشعل المصباح المتدلي من سقفها المحدودب، لكنه لم يكد يدفع عتمة الليل، فقد سودت قشرة خراء الذباب بياضه، غدا ضوؤه رماديا.
بعد أقل من نصف ساعة بدأ جسمي يأكلني كأنني جثة بقبر والدود ينهش لحمي، أخذت أوقف أظافر يمناي الأربعة على جسمي وأجر، أحك هنا وهناك، لم أبرد مكانا حتى يلسعني مكان آخر، أخذت أحك بكلتا يدي وعيناي تبحث عما يلسعني، خلته قمل. أزلت ملابسي، أخذت أتفرسني، لكنني لم أجد شيئا.
بعدما صار لحمي أحمرا وكله بقع متورمة كأنها أصداف همد اللسع. قفزت لسطح ذهني صورة الذي وقف أمام إرادتي، فقلت: لو كان أمامي لقتلته خنقا وليقع ما يقع، ويدي تخنق الهواء وأسناني تعض على شفتي السفلى. ركلته على حوضه بخفة وبكل قوتي
ابيه
ابيه بظاك
ركلات متتالية، بصقت على وجهه، شتمته، كأنه أمامي. لكنه لم يحرك ساكنا، جبان لا يتحرك إلا وفقا للأوامر كأنه جهاز تحكم عن بعد.
بعد يومين بهذا القبر الدنيوي، مرت كأنها سنتين، أخذني جنديان إلى محكمة ليست بأحسن حال من الغرفة.
كان الجو حارا جدا، ودفقات الشرقي تلطم وجهي الذي ما لامسه الماء ليومين. أحس كأنه سيحترق.
تحت جدار المحكمة رأيت كلبا ضخما متكئا بظل ورجلاه الأماميتين أسفل رأسه، وبجانبه غدير ماء. وهو غارق في النوم وعيناه مبتسمتان كأنه في حلم جميل. لما اقترب منه قرع خطى أحذية الجنديين رفع رأسه بتثاقل فانفزع الجنديان. توقفا وعادا خطوة للوراء. تأملنا الكلب قليلا، تثاءب، ثم عاد إلى حلمه، فتابعا المسير وهما يدفعاني.
قال الكلب في سريرته: يا لتعاسة هؤلاء البشر! يعذب بعضهم بعضا. وجلهم يتعذب من أجل لقمة بالكاد تبقيهم أحياء. تابعت في سري: يا ليتني نلت ما نال هذا الكلب!
تذكرت أن أبي، ذات صيف حار، تمنى هو الآخر لو كان كلبا. أرهقه دوره في مسرحية بعنوان “حياة المبأسين”، وهو في المشهد الأخير، كان منشغلا بجمع شعير منفوش غابت عنه شتاء مارس، وكلبه مستلق تحت ظل شجرة بعدما قاسمه وجبة الغذاء التي أحضرتها لهما أمي.
آلمتني يدا الجنديين وهما يشدان بقوة على ساعدي مخافة أن أهرب. رغم أن يدي مغلولة وراء ظهري. تساءلت: لماذا هما خائفان؟ ولماذا يحرصان على قمع حريتي؟
عجيب، أنني أدافع عن حريتي وحريتهما، وهما يحرصان على أن أسلبها. وأبقى تحت هذا السقف المهترئ الذي قد يتحول في أي لحظة إلى رصاصة رحمة. إنهما غبيان، يا لغباوتهما! تذكرت القاضي، وباقي حاشيته الذين سيجتهدون لإدانتي ظلما، فقلت: كلهم أغبياء، فالغباوة تملأ هذه الأرض.
أوقفوني أمام قاض سمين، منتفخ الأوداج، كأنه ذو وجهين. توشك كرتين أسفل أذنيه على السقوط. أخذ يسألني دون اكتراث لإجابتي.
انهمكت أجيبه بأريحية مدافعا عن حقي في تقرير مصيري، وهو يتفرس أوراقا بين يديه المتورمتي الأصابع، وشفتاه تتحركان. أوشت لي استدارة شفتيه بأنه قرأ ثلاثين.
أجبت عن كل أسئلته وأسئلة كل مرافقيه الذين حاولون جهد ذكائهم أن يلبسونني تهما كثيرا: الخروج عن الجماعة، التحريض، التزوير… تهم أنا بريء من فعلها براءة الذئب من دم يوسف.
انتهى الاستنطاق المطول، فأخذ القاضي ينطق في كلمات متفرقة كأنه يتعلم القراءة: حكمت المحكمة عليك بثلاثين سنة سجنا نافذا، مع الأعمال الشاقة نظير تعنتك.
ابتسمت هازئا، وما إن أتممت ابتسامتي حتى طوقت يدا الجنديين ساعدي في آن واحد كأنها مبرمجان على ذلك. أعداني إلى زنزانتي وسيل أسئلة يجرف رأسي: أولدت لخدمة غيري وتلبية إرادة غير إرادتي؟ أولدت لأعمل دون رفض ولا تأفف حتى؟…
أوصلاني السجن، فحوطني السجناء يسألون عن الحكم، أخبرتهم فشخصت أبصارهم، رد أحدهم معقبا:
– جعلوا منك كبش فداء.
-وعلق آخر:
– سيستأنف الحكم.
رد أحدهم كانت له صلة بجسم القضاء:
– لا داعي.
– بعد لحظات صمت جاء صوت حارس يدعونا للالتحاق بالزنازن.
غدوت وباقي السجناء نتحرك وفقا لأوامر أكثر تشددا. ننام ونأكل في نفس الوقت، نفس الأكل. نستيقظ في نفس الوقت لنظفر بوجبة فقيرة. ومن تمرد يظل وعصافير بطنه يتناجيان.
مشهد واحد يتكرر كل يوم حتى مللته. أخذت، ذات صباح، أصدم الشباك الحديدي بكلتا يدي وأنادي: لن أبقى ككمبارس يمثل أنه لا يمثل. كفانا سلبية، وكفاكم استغباء.
أخذت أصرخ: “المسرح لنا ولا لغيرنا”، فصار بقية السجناء يرددون ورائي على إيقاع واحد وهم يصدمون الشبابيك بقوة، والحراس ينظرون إلينا مشدوهين، تلقى أحدهم مكالمة فأشهروا أسلحتهم في وجوهنا، وأخدوا يهددوننا بإطلاق الرصاص إن لم نكف عن فعلنا ونعود إلى رشدنا كأن رشدنا هو أن نقبع خلف القضبان، لكن إرادتنا ازدادت صلابة، فغدت الموت والحياة سيان، بل الموت دفعة واحدة أهون من موت بطيء.
ارتفعت أصواتنا أكثر، لم نعد نسمع ما يقولون، لا نرى إلا أفواههم تتحرك، ويد قائدهم تشير، استدار يتحدث إلى رفاقه، فجأة انصرفوا مسرعين تاركين الباب مفتوحا.
انفتح باب الزنزانة التي كانت جدرانها جاثمة على حريتي، تعاوننا على فتح كل الزنازن، واعتلينا خشبة المسرح ونحن ننشد “المسرح لنا ولا لغيرنا”، فقصد المخرج الباب الخلفي وغادر ومساعدوه مذعورين.