* أنس :
كانت هناك حيوات معلقة، تتواصل بلغة لا يدركها سواها. كنت تفهمها بطريقة ما..
هنا كانت أنثى تغازل ذكور الكناري، مطالبة بحقها في التكاثر، قبل الأوان. هناك ذكر وحيد كان يحاول لفت انتباه عصفورة عنيدة، هنالك فرخ وحيد، لم يجرب طعم الأبوة، فسرق من أبيه شموخ وقفته، تماما كما سيسرق دمعك لاحقا.
ذكريات شتى تنكر لها معدن المشاجب الجاحد، وهو يحتفي بمآربه المؤجلة. تنظر في أسى إلى صمت الجدار، وهو يغالي في احتضان الجماد، دون أن يساوره أي حنين إلى تلك الأرواح التي فارقته، وتعاتبه: “من يؤنس وحشة أطلالي الداخلية؟!”.
*انتظااااااار:
الشجن صديق وفي. لن يخذلك أبدا. لن يمنح عصافير البهجة المؤقتة ربيعا كاذبا لكي تحلق بين أشجار الدم.. لا تخدعه هذه الابتسامات الخفية، التي تتصدق بها امرأة متجبرة على شحاذ مقعد ضرير، امرأة سوف تختار أن تغير طريقها، لكي تمعن في إذلال ذلك الشيخ، الذي اختار أن يفي بعهد انتظارها وحدها، في صباح بارد، كأنه دلو منسي على حافة بئر عاقر، يترقب أن تعيد إلى غربة الدمع ذلك الحبل، الذي شدته تلك المرأة من أعماقه، في غفلة من وحشة ذلك الصباحد وغادر القلب مخبأه. تبعها مثل كلب أليف، سعيد.. لأنه سيخرج في نزهة بصحبة امرأة جميلة.. سينعم بدفء شمس امرأة دربتها الحياة على ألا تثق في حزن العيون، لأنه يخفي قلوبا متقلبة، وبدل أن تسرف في التصدق بمشاعرها.. تحرص تلك السيدة على تشذيب شجرة أنوثتها كل صباح، والتخلص من كل الأوراق الذابلة؛ ترميها كفتات غواية لكلاب، تلهث على ضفاف مباهج سرية، دون أن تصدق ذلك الحزن، الذي يحاول التغريد فوق أغصانها كل صباح، بينما سيلوذ الأعمى -المخلص لانتظار بارد – بوسادة شجنه، في انتظار أن يعود إليه، كلبه من تلك النزهة الطويلة، وهو يجر حبلا لا يراه سواه…
*نكاية في صقيع دجنبر :
تدوس قدماك على عشب قلبي، بلا رأفة.. تتلف حوافر صهيلك ما تبقى من أطلال باطنية. يذبحني ذلك الدفء الذي يشاكس هذا الصقيع. يبكي في دمي بياض قديم، قديم جدا خبأته في صرة مدفونة في تراب طفولة بعيدة.. كانت شاهدة على أنني لن أكون عفيفا كذلك النبي، ودمي لم يتعلم البكاء بعد. أنسى البرد الذي يعوي في جيبي، في مفردات أيام بالية، تتوكأ عليها حياة تشبه موتا مقسطا، كأنها ديون لا تتقادم، في دفتر صديق بقال صادق القلم، حتى لا تتراكم خيباته، ولم يجرب أن يعاهد ذلك الزقاق التي تطير صوبه فراشات ملونة، تجر براءة يصفعها برد دجنبر.. لم يدرب جوارحه على انتظار مواعيد معينة، لم يلعن من شرع العطل، ولا من يحرض على احتجاجات، تحرم القلب من قسط بهجته اليومية.لهذا لن يغمره فيض دفء لا يسمح لجوارب مخادعة أن تسرق حليب البهجة من العين. وحده قوامك كشجرة وارفة الفتنة شاهد على أنني شهيد ذلك البياض. لن أسقي أشجار غرورك، حتى وأنت تزجين بي في جحيمك!هل كان يجب أن تعانق النار الحطب فوق فراش هذا الصباح؟! هل كان ينبغي فعلا.. أن تتذكري أنك نسيت شيئا ما، وأعاين في صمت، و عن قرب أيضًا، احتضاري على أعتاب حديقتك الغناء؛ بوابتها دفء قدميك وحليبهما المسكوب في قلبي.. فتصفعني حقيقة أنني مسكون بالبرد حتى الموت، وأن البياض ندبة منسية في دمي.
*رثاء سابق لأوانه :
سيذبل القلب يوما، حتما. ليس مهما كيف ستختار أن تنسحب من بينهم. ربما، لن يهم هذا الغياب أي أحد. بضع كلمات باردة، كذلك الصباح التي ستلوح فيه بطفولتك لعالم مقفر، بينما على الضفة الأخرى امرأة ثكلى تهش بعكازها على طائر كاسر، اعتاد سرقة كتاكيتها؛ ثروتها الوحيدة! لن تسمع السماء صرختها، ستخذلها مرة أخرى، كهذا الجسد غير القادر على مطاردة لص خسيس. ستختطف روحك، بينما المرأة تنشغل قليلا، وهي تنهر حفيدها ألا يتبول جهة القبلة، ويطير العوسق مبتهجا بصيده، وبروحك… لا أحد سيهمه أن يتخيل طعم الفقد. بضع كلمات تتناثر متلكئة، كأنما لا تستحقها… ثم يواصلون موتهم، بشكل رتيب، لن يؤجلوا خططهم الليلية. الحياة تشبه كلبة مطوقة بكلاب، تفضح ذيولهم مشاعرهم.. كلبة لا يهمها أنها تخدش الحياء العام، في تلك اللحظة!
ستموت، وفي القلب شيء من حتى..
تمنيت ذات صباح بارد، أن يتوقف القلب عن النبض، أو يغمى عليك أمام امرأة، لم تعبأ بكل هذه المراثي التي تندلع في عينيك، كلما رأيتها.. في نفس اليوم، فكرت أن تعاقب الأنامل، التي تتودد إلى أخريات، لعل هذا القلب العاق يتدرب على النسيان. ربما، سيضيف حفيد بعض النزق إلى المشهد الأخير، لأن المشهد لن يحتمل كل هذه الجدية الكئيبة: “اللعنة، ألم يختر الموت إلا في هذا اليوم بالذات؟!”. لن تعاتبه، لأن شيئاً واحداً يشغل بالك، أن يدركوا أن عويل الريح بعض أنين قلبك!