أتذكر جيدا أنه كثيرا ما تردد على مسامعي عندما كنت شابّا في مقتبل العمركلمة الأزبكيّة وسورها، لكن وللأمانة لم أكن أعير إهتماما بما سمعت، رغم أنّ الذي يُفترض في مثل هكذا حالات أن يتجه السامع إلى التقصي عن معنى ما يسمعه وما يتكرر لديه من كلمات أو عبارات، ولكن بالنسبة لي لا شيء من ذلك حصل، رغم إقراري بمدى إهتمامي بالكتابة والمطالعة منذ مراحل باكرة من عمري.
بيد أنه وعند زيادة إهتمامي وشغفي باقتناء الكتب شراءً وإستعارةً تعاظم لدي الشعور والفضول بمعرفة أماكن عرض الكتب داخل البلد وخارجه، فسقطت في أذني مجددا لمراتٍ جملة (سور الأزبكيّة)، ما جعلني أندفع للتساؤل عن هذا السّور وأهميته ومكانه وكثير من الأسئلة التي تزاحمت حينها في رأسي.
سور الأدباء أو سور القرّاء أو سور النّخبة والصفوة أو هي كلمات تتردد لمعنى واحد ولمدلول واحد هو سور الأزبكيّة بجمهوريّة مصر العربيّة وبالضبط بوسط العاصمة القاهرة، أحد أشهر أسواق بيع الكتب بمصر بل بالعالم العربي كله، يضم بين دفتيه ما يربو عن 132 مكتبة، يُقال أنه فُتح للمرة الأولى أمام النّاس خلال القرن التاسع عشر، هو مزار لكل الراغبين في شراء الكتب بمختلف عناوينها خاصة العتيقة منها والتي تفتقدها عامة المكتبات الأخرى وحتى المعارض المقامة هنا وهناك، والملاحظ أن من يقصده ليس فقط أولئك القراء أو الكُتّاب العاديين بل كذلك طلاّب العلم والباحثين والأكاديميين، نظراً للأسعار المناسبة للكتب المعروضة في ظل تهاوي القدرة الشرائيّة للسواد الأعظم من المرتادين.
وليس هذا فحسب، لقد إرتأى القائمون على تنظيم معرض القاهرة الدولي للكتاب- وهو واحد من أهم المعارض في العالم العربي والشرق الأوسط- تخصيص جناح للسور بالمعرض حيث شهد بمجرد مشاركته توافد العديد من القرّاء والمثقفين المصريين وحتى الأجانب لما لمكتبات السّور من رمزيّة في وجدانهم، وتشهد أروقة الجناح بالمعرض المذكور نوعا من الفوضى في ترتيب وتنظيم وتصنيف الكتب نظرا لكثرتها وقصر مدة المعرض ولتوافد الكثير من النّاس، لكن يبدو أنه ورغم ذلك فإنّ كثيرٌ منهم قد وجدوا ضالتهم بشرائهم العديد من العناوين التي افتقدوها في غيره من الأماكن الأخرى.
ويتعرض السّور إلى بعض المضايقات خاصة من أصحاب بعض دور النشر(المدفوعة ونقصد بها التي تنشر بمقابل مادي وحتى تلك الموصوفة زورا بالمجانيّة) التي تُريد للسور أن يُقفل نهائيّاً بحجة وجود العديد من العناوين المزوّرة داخل مكتبات السّور التي تساهم في تكريس الرداءة ونشر التقليد المعاقب عليه قانونا، لكن حسب بعض الباعةِ فإنّ تلك الحجج المدفوعة عارية من الصحة تماماً لأنه وبحسبهم فإن تلك الدّور لا تريد لمكتبات السّور أن تنافسها على الزبائن نظرا لأن أسعار الكتب بدور النشر غاليّة للغاية وليست في متناول الطبقة المعسورة من المجتمع، لكن رغم كل هاته الملاسنات بين الفريقين إلاّ أنه وجب الإعتراف بوجود فعلي للكتب المزورة التي إنما زوّرت إلاّ بسبب واحد وهو عدم قدرة النّاس على شراء الكتب التي يحتاجون.
ورغم الهجمات الشرسة التي يتعرض لها السّور ورغم إقرارنا بوجود مخالفات بداخله إلاّ أنه وجب التنويه بشيء هام الا وهو مرور الكثير من أعلام الفكر والأدب على مكتبات هذا السور عبرحقبٍ زمنيّة مختلفة، وهو ما يعني مدى إسهامه في بناء ثروة مجتمعيّة هائلة وقيامه بتفجير ثورة هامّة في مجال العلم والمعرفة.
هنا، هل لنا أن نخمّن الآن كيف سيكون الوضع لو كان بعالمنا العربي سورٌ مثل سور الأزبكيّة بثرائه وتراثه؟ في كل عاصمة من العواصم على أقل تقدير أو في كبريات المدن في أفضل تقدير أو في كل المدن في أحسن وأحلى وأفضل تقدير، لكن بشروط وضوابط تراعي المصلحة الخاصّة والعامّة على حدٍ سواء، وتكون بذا قيمةً مضافةً في سماء الثقافة والأدب وتضيف زخماً وسيمفونيّةً بديعةً للحركيّة الأدبيّة التي كثيرا ما شهدت تهلهلاً وقلّة فعاليّة في كثيرٍ من المناطق خاصةٍ تلك البعيدةِ عن العواصم أو المحافظات الكبرى.
ربما أضيف لما قلته آنفاً، أننا لسنا مع عشوائيّة نقاط العرض والبيع والشراء، كما أننّا ضد التقليد والتزوير وإستغلال جهد الغير بغير وجه حقٍ، بل ضد تعطيل مصالح النأس وغلق المنشآت وشلّ الطرقات واستغلال الممتلكات العامة والخاصّة من دون رخصة، وعبر كل تلك المخالفات يتّم فتح أسوارٍ للكتب أو لغيرها، ولكن مع أسوارٍ ونقاط بيعٍ تحترم القانون وتعمل وفق مقتضياته فتتحقق المصلحة العامة والخاصة سيّان وفق مبدأ رابح- رابح.
خلاصات:.
كم نحن بحاجةٍ في عالمنا العربي إلى إثراءِ الحركيّةِ الأدبيّةِ التي تشهد ركودا رغم توافرنا على كل المؤهلات التي تجعلنا ننافس الغيْر في المضمارِ ذاته، كما كنا زمان. مكتبات سُور الأزبكيّة أحد أبرز نقاط بيع وعرض الكتب بالعالم العربي والتي إشتهينا تعميمها وفق ضوابط تخدم المصلحة العامّة والخاصّة.