النص :
سيأتي الربيع
يفتّش عنك
يعيد انهمار السؤال القديم
إلى أين تمضين؟
أين المسير؟
وأين انقضاء الطريق الطويل؟!
رحلتِ
وما زلتُ في غصة الوجد
أركض في واحة المستحيل
(2)
يظل النهار بلا شمسه
ويشتاق عمري إلى أمسه
أفتش في دفتر العمر عنك
كحرف تساقط بين السطور
(3)
ويأتي الربيع
يعيد انتظام الزمان الجميل
يراقص أشجاننا
كي يخف العويل
أمانيك مغروسة
في تراب النقاء
سيمضي الزمااااان ويشمخ
في راحتيها البقاء
(4)
ويأتي الربيع
يردد أنشودة الحزن
يسحق أهزوجة كالهديل
نقاوم آهاتنا لحظة
ويعتصر اليأس أفراحنا
ونسمق من بأسنا كالنخيل
(5)
ويأتي الربيع
يصوغ ملامحنا
سحنة من عبق
يشكلنا في احمرار الشفق
وفي زرقة البحر
حين انفلق
يصورنا كيفما يشتهي
ويرسمنا في إطار جميل
*
القراءة :
للفصول مناخاتها، وتدرجات حرارتها، فيها تتوالى الأيام وتتعاقب صفاتها، وفيها تتجلى الطبيعة على اختلاف مظاهرها، فالفصول حلل السنة على امتداد الزمان، وهي دلالات انقسام الأقواس على تمام دورة المسار، والفصول عند الشاعر لها معانيها ودلالتها، حيث تتجلى بالرموز التي يحلو له أن يوظفها كي يستتر المعنى في ظلال اللغة، وللفصول ألوانها وموسيقاها ورموزها وعلاماتها، أما الربيع لدى الشاعر صالح الهنيدي فله لون السماء، اللون الأزرق الذي تتعدد دلالاته ومعانيه، الأزرق الذي يعني لون السماء والبحر فهو يشير إلى الخيال الواسع والإلهام، وهو رمز الطاقة والإثارة، إنه رمز الهدوء والسكينة، إنه رمز الثقة والقوة، وهذه الصفات لعلها مشتركة بين السماء والماء وهي مشتركة بينهما وبين الربيع، أما كيف تتجلى من وجهة نظر الشاعر هذا ما سأحاول دراسته من خلال قصيدة الشاعر السعودي صالح الهنيدي بعنوان (ربيع بلون السماء) التي حملت عنوانها مجموعته الشعرية.
الفرع الأول:
يقول الشاعر:
(سيأتي الربيع
يفتّش عنك
يعيد انهمار السؤال القديم
إلى أين تمضين؟
أين المسير؟
وأين انقضاء الطريق الطويل؟!
رحلتِ
وما زلتُ في غصة الوجد
أركض في واحة المستحيل)
يبين هذا الفرع الصورة التي سيأتي عليها الربيع وعقدته (سيأتي الربيع) وشعابه الرئيسة هي: (سيأتي الربيع) و(يفتّش عنك) و(يعيد انهمار السؤال القديم) أما شعابه الثانوية فهي: (إلى أين تمضين؟) و(أين المسير؟) و(وأين انقضاء الطريق الطويل؟!) و(رحلتِ) و(وما زلتُ في غصة الوجد) و(أركض في واحة المستحيل).
في المعنى:
الأسلوب في الفرع كما هو واضح خبري وإنشائي، وفي الأسلوبين يتجلى الربيع كرمز أساس في القصيدة بشكل عام وفي هذا الفرع بشكل خاص، فقوله: (سيأتي الربيع) يتضمن توكيداً لحدوث الفعل، وفعل مجيء الربيع مسلم به، لأنها حقيقة زمانية، إذ لا بد من تعاقب الفصول فيأتي الربيع، ولكن هل يقصد الشاعر ذلك المجيء الزماني وحسب؟!، هل يقصد بالربيع تلك الفترة الزمنية من السنة التي تحدد هذا الفصل؟،أم أن توكيد المجيء ليس هو المقصود بحد ذاته إنما يبين هدف الشاعر من هذا التوكيد قوله: (يفتّش عنك)، واستخدام الفعل (يفتش) يفيد في أنها غائبة في مكان غير معلوم، فلو كان الربيع يعني الزمان الفيزيائي لما صح المعنى هنا، إذ لا شيء خارج الزمان، لنستدل أنها غائبة عن الشاعر نفسه الذي يمكن أن يكون قد تعرف إليها في ذلك الربيع، ومجيء الربيع بالنسبة للشاعر هنا يعني عودة حضورها في ذاكرته ومخيلته من خلال الأثر الذي خلفته خلال ذلك الربيع، وهنا لنا أن نسأل، لماذا استخدم الشاعر فعل (يفتش) ولم يستخدم فعل (يبحث) مثلاً؟ لنستدل من هذا التساؤل النقدي أن (البحث) إنما يكون عن شيء مفقود من دون اليقين بوجوده، أما (التفتيش) عن الشيء يكون في حالة عدم اليقين من وجوده، فقد يكون موجوداً وقد يكون غير موجود، وذلك في الحيز المكاني الذي يتم البحث فيه، وهذا ما توحي به الجملة الشعرية (يفتش عنك) أي الربيع الذي استخدمه الشاعر رمزاً للأثر الوجداني الذي تركته في نفسه وقلبه وعقله في ذلك الربيع ليس على يقين من وجودها في هذا الحيز المكاني أو عدم وجودها، وفي الحالتين لا بد له من التفتيش لأن كل شيء في الربيع يستحضر ذكرى حية في وجدانه لها، وقوله: (يعيد انهمار السؤال القديم) أي كما كان يحصل في عوداته السابقة بإلحاحه في السؤال عنها، فالانهمار يشير إلى السرعة والاستمرار في السؤال عنها، أما كلمة (القديم) فذلك يعني أن معرفته بها قديمة، ومن هنا سيتولد معنى احتمالي جديد، وهو أن الشاعر قد بقصد بها شيئاً غير الأنثى، أي غير المحبوبة، وهذا ممكن ويصح أن يكون أحد المحمولات الدلالية للتركيب الشعري(يعيد انهمار السؤال القديم)، ماذا لو كان يعني الحرية؟، أو ماذا لو كان يعني الغاية والهدف والمصير؟ فلعل هذا التفكير النقدي مع الاستمرار في بسط القصيدة وتحليلها إلى مكوناتها الأساسية يساعدنا في التحقق من المعنى على اختلاف مستوياته، وقوله: (إلى أين تمضين؟) يشير إلى أنها مازالت مستمرة في المضيّ والغياب، وهو مازال مستمراً في السؤال، وقوله: (أين المسير؟) يشير إلى أنها ما زالت في حالتها المستمرة في المسير ولكن من دون أن يعرف المكان الذي تسير فيه، وقوله: (وأين انقضاء الطريق الطويل؟!) أي يتساءل في أي الأمكنة التي سينقطع فيه هذا الطريق الطويل الذي تسير عليه، إذا ثلاثة أسئلة ملحة متكررة وكلها تتعلق بالمكان لاستخدامه اسم الاستفهام (أين)، وما دام على جهل بالمكان الذي توجد فيه فهو يقول: (رحلتِ) أي أنها غادرت، وقوله: (وما زلتُ في غصة الوجد/ أركض في واحة المستحيل) أي منذ ذلك الرحيل وهو يجري بحثاً عنها وقد قهره الشوق وكواه الغياب والبعاد، وقد استحال العثور عليها،.
الصورة والبيان:
مع استخدام الرمز في هذا الفرع تحضر الصورة البيانية، فقوله: (سيأتي الربيع) استعارة، وقوله: (يفتش عنك) استعارة، وقوله: (يعيد انهمار السؤال القديم) استعارة، وقوله: (وما زلتُ في غصة الوجد) استعارة، وقوله: (أركض في واحة المستحيل) استعارة، ويصبح التركيب الشعري (وما زلتُ في غصة الوجد/ أركض