تصدير
”نهاية الإنسان هي المعرفة، لكن شيئا واحدا لا يمكن أن يعرفه: إنّه لا يستطيع أن يعرف ما إذا كانت المعرفة ستنقذه أم أنّها ستقتله. سيقتل، نعم، لكنّه لا يستطيع أن يعرف ما إذا كان قد قتل بسبب المعرفة الّتي اكتسبها أم بسبب المعرفة الّتي لم يكتسبها، والّتي كانت لتنقذه لو أنّه عرفها.“
كل رجال الملك – روبروت وارين
عاد التّايب إلى نفس الْمكان الذّي وَطِئته قدماه منذ أكثر من ثماني سنوات. مازالت كومة التّراب في التّلة الْعالية الّتي تحتضن رفات والديْه تحافظ على مساحتها وحجمها، ويوشك لونها الْأحمر أن يميل إلى السواد. دقّق النّظر في قشرتها فرآها قد جفّت وتشقّقت على شكل خرائط مسارب نمل حفرت عميقا في التّربة حتّى إنّه، للحظة، قد همّ بالتّطلّع في الشّقوق لعلّه يشاهد بقايا عظامهما الْمتآكلة مرصوصة وملتحمة بالطّين، استحى من فعل ذلك فأغمض عينيه لكي يبعث لهما عميق أسفه وحنينه الكبير إليهما ثمّ فتحهما ببطء وساق نظراته إلى رقعة الْأرض الْواقعة جهة السّاحل فلاحظ الْأنبوب الضّخم الْممدود بين الْبحر وعين الْعسرة، أطلال المدينة الباقية من جسد السّاميّة الْمطحونة الّتي أوشكت أن تكون خرابا بعد انتهاء الْحرب، وقريبا منها، في عمق الْبحر، شاهد مدينة الْأبراج الْعملاقة تنتصب شامخة كجزيرة من الْبلّور طافية على وجه الْماء. ولوهلة، خيّل إليه أنّها حاضنة رضّع وتذكر أنّ أمّه قد ساهمت من موقعها كعالمة في مجال الْكيمياء الْفيزيائيّة في أشغال بناء ذاك الْمخبر الضّخم الّذي صُنع ليكون سفينة ثابتة لإنقاذ الْجنس الْبشريّ، وأنّه هو نفسه نشأ هناك ورتع في ممرّاته وارتقى طوابقه مئات المرّات بين صعود وهبوط عبر ثغرات الْمصاعد الذّكية، وتساءل كيف عاش سنين حياته في تلك الْحاضنة الْبشريّة العجيبة كأطفال الْأنابيب في الْعقود الماضية!
قرب ماسورة الْخرسانة الضّخمة من جهة الشّمال تُوجد بعض الْبيوت الْبائسة من الْقصدير ومن جلود الْحيوانات وحتّى من بعض الثّياب الْممزّقة، قليلة هي ومتناثرة، تلوح للتّائب من مكانه هذا كخيام مهملة لم تعمل الْأيدي على إنجازها بإتقان، يعلم التّايب أنّها الْلجوء الْمؤقّت لبعض الْمغامرين وسيهجرونها قريبا قبل أن يتّخذها من سيأتي بعدهم سكنا لهم إلى أن يلقوا الْمصير ذاته.
على نحو مفاجئ، تذكّر ليلى حين كان يوصيها بأن لا تغشى بيوتهم. كان يحذّرها من مغبّة زيارة الْغرباء ويسدي لها النّصح بذريعة أنّهم سيأكلونها إن فعلت، أمّا إن تجنّبتهم فسيغادرون سريعا، وبعد أن تؤكّد له إنّها لن تفعل، ليس استجابة لطلبه كما تقول وإنّما لأنّها تخجل من أن يراها الغرباء كأفعى ملسوعة بالشمس منسلخة الجلد.
سألته:”متى سيحدث ذلك لهؤلاء؟“، فأجابها: ”حينما يموتون.“ ثمّ أضاف واثقا: ”وهذا ليس ببعيد.“ فقطّبت جبينها وهي تصيح معترضة: ”أنت شيطان!“، وارتدّت خطوة إلى الخلف وقد فاجأها ردّه.
الآن، ليلى قد تكون بلغت سنّ السّادسة عشرة، ليلى ابنة الْعائلة التي تبنّته، الْعائلة الْوحيد الّتي لازمت الْمكان منذ سنوات ولم تغادره، فهل كان ذلك إكراما له ليظلّ قريبا من قبر والديه، أم لأنّه الْمكان الْوحيد الْمريح في الجهة والّذي يمتلك الْعنصر الأغلى للْحياة؟
رمى بصره في اتّجاه الْبيت الْمنعزل في الْمنطقة الّتي يظهر فيها طرف الْأنبوب مغمورا بالتّراب، كلّ الْخيام الْأخرى كانت أكثر قربا من البحر، ما عدا ذاك الْبيت الْمنفرد المنزوع أبوابه، الّذي كان في السّابق يقبع في مكان آخر، وباقتراح منه انتقلوا إلى السّكنى هناك. يومها قال العم، والد ليلى، للأمّ وهو يثلم جزءا صغيرا في أعلى الْماسورة ويلقي فوقها أساسيات السّقف إنّها فكرة سديدة من غشّير(1) صغير.
والْحقيقة فقد كانت فكرة مذهلة أن تجعل نسيم الْبحر يحبو إليك من كسر في الْإسمنت بفعل الْأمواج الْمتلاطمة في أقصى طرف من الْماسورة.
لا أحد يعرف بالضّبط لأيّ سبب أقيم هذا الْأنبوب وكيف نجا من الْقصف خلال الْحرب، ربّما جُعل لغرض نقل الْماء الْمالح إلى مزرعة تربية الْأسماك في حقول السّاميّة عند المدّ وارتفاع منسوب الْبحر، وقد يكون قناة تصريف الْمياه الْمستعملة للْمدينة الْمنكوبة وفضلاتها تصبّ في الْبحر، وربّما أنشئ لأمر آخر ضمن الْمشاريع الْعسكريّة الْعملاقة. على كلّ حال هذا لا يهمّ الآن فهو الْيوم يستعمله التّايب كنفق للْوصول إلى أطلال الْمدينة أو لبلوغ الشّاطئ، في كلّ وقت وحين، حتّى لو كان ذلك في النّهار، حيث أنّه طريق ظليلة يحميه من الشّمس الْمتوهّجة منذ عقد من الزّمان. شمس ملتهبة لا تطاق.
الْحرّاقة، هؤلاء الْمغامرون الْحالمون بالْعبور إلى مدينة الْأبراج، يأتون من أنحاء شتّى من الْمدينة كذئاب منفردة، يجرّون خلفهم عربات صغيرة تحمل أمتعتهم وزاد أيّام قلائل، يصلون في حالة بائسة مزرية، فيقيمون في مواجهة الْأبراج يتحيّنون الْفرص للتّسلّل إليها مع حلول الظّلام، بوسائلهم الْمختلفة. وكانت محاولاتهم كلّها تبوء بالْفشل. فمنهم مَنْ يصعقه الحقل الممغنط المحصّن للأبراج فيموت في الحال، ومنهم من يكون نسيج جلده التّالف الْمتورّم الْمليء بالْبثور عائقا له، فما إن يكتوي الْواحد منهم بالْماء الْمالح ويرتفع الْألم الشّديد صارخا في عينيه حتّى يقرّر الْعدول وعدم الْمجازفة، فإذا لم يصبه الْيأس ويبقى أمله قائما في دخول الْأبراج يعود إلى التّخييم من جديد في انتظار الْفرصة السّانحة لتكرار الْمحاولة، ومَنْ يغلبه ضعفه أو ينفذ زاده يسلك الطّريق السّاحليّ نحو الشّمال، وعلى ضوء فوانيس الْأبراج السّاطعة يسير بمحاذاة الْبحر، وهو يتنفّس بصعوبة.
يعلم التّائب أنّ الطّريق الّتي يسلكونها لا تؤدّي إلى شيء سوى إلى حتفهم، فعند طلوع النّهار سوف يدفنون أنفسهم في الرّمال إلى حين غروب الشّمس، ومهما يكن الرّمل جافّا أو ندّيا فسوف ينتفضون من الْألم، على الفور أو بعد حين، ويسارعون إلى الْبحث عن مكان آمن، وعند ذلك سوف يدركون أنّهم يقفون في الْخلاء الشّاسع، خلاء قاحل، بعيدين عمّا يحفظهم من عين الشّمس الْمحرقة. كم كان ذلك مؤلما له وهو يعلم أنّهم لن يدخلوها أبدا من دون رغبة الآخر، وأنهم سيبقون هناك لأيّام يختفون فيها في النّهار ويظهرون في الْليل ثمّ يتلاشون بعد ذلك كأنّهم ما عاشوا يوما على وجه الأرض. ولكن، ماذا يمكن له أن يفعل لإنقاذهم؟ هل يشير عليهم مثلا بالْعيش في الْأنبوب؟ قطعا لا… هذا محال، ولن يكون، فهو يحمد الله على أنّ فكرة تحطيم قسم من الْماسورة والسّكن فيها لم تخطر على بال أحد، وإلاّ لكانت الطّامة الْكبرى الّتي تهدّد وجوده ووجود عائلة الْعم، ينبغي له ألّا يقسو على نفسه كثيرا، ويتعوّد على رؤية هذه الْأشياء تحدث، وأن يسير على هدي قوانين الْحياة الْجديدة الّتي سبّبها تبدّل الْأرض.
بالنّسبة إلى الأمّ الْممتلئة بالْإيمان تبدّلت الْأرض من كفر الْبشر، عقابا من الْمولى.
حين كان صغيرا يحمل باليد لوحة ويرتع في الْأبراج، علم التّايب أن ما هم مقبلون عليه أخطر ممّا هو حاصل، أمّا هؤلاء الّذين يدفعهم الْأمل الطّافح في قلوبهم لسكنى الْأبراج ويتناقص عددهم يوما بعد آخر، فهم لا يعلمون ماذا يوجد بداخلها، لا يعلمون عنها شيئا الْبتّة ومع ذلك فهم يقطعون الْمسافات الطّويلة للْوصول إليها دون أن يسألوا أنفسهم ولو مرّة واحدة عمّا يشدّهم إلى تلك الْمدينة بالتّحديد؟
يسمّي التّايب هذا المدّ الْبشري نحو الْأبراج بجاذبيّة الْحضارة الْمدمّرة، ولا يجد في ذهنه وفي ما درسه أيّ شبه له بما وقع في العصور البائدة، فهنا الحضارة هي مَنْ تعدم الزّاحفين.
كان قد مضى على وقوفه في قمّة الهضبة وقت طويل ويكاد الظلام يسود. عاد ينظر من جديد إلى كومة التّراب بالْقرب منه. بسط يديه وتلا الْفاتحة طلبا للرحمة على روحهما، ثمّ مسح بكفّيه وجهه وشقّ طريقه بهدوء عبر منحدر رمليّ إلى الْبيت الْمغطّى بلوحات صفيح قد غمرها الْغبار وهو يحدّق في خيوط الدّخان الْمنسابة إلى أعالي السّماء. كانت كما اعتاد على رؤيتها خالية من الْغيوم ومن الطّيور.
****
تمطّت ليلى واستنشقت الْهواء ملء رئتيها ثمّ سألت الْأمّ، وهي تقشّر وتقطّع بصّيلة بما يشبه سكّينا من الْخشب أُعدّ خصيصا لهذا الْغرض: ”أمّي، لا تقولي لي إنّ طعامنا يأتينا من الْمقبرة!“.
كانت الْأم منشغلة بإضرام النّار في ركن معدّ لذلك، فوق طبقة من رماد تكوّمت بقربه قطع من أغصان الْأشجار الْميّتة، جمعها ابنها الْبكر بلْقاسم، جلبها من مكان بعيد لتستخدمها الْأم كوقود للطبخ.
ردّت الْأم، دون أن تتوقّف عن حمش النّار بمحماش خشبي غليظ: ”ما الّذي دعاكِ لقول هذا؟“
”ابنك البوهالي(2) ، قبل قليل رأيته يجول كالشّبح في صعدة الْمنابذة.“
تحجّرت يدا الْأم وتجمّدت لبرهة، ثمّ تحرّكت فجأة واستدارت لتلتقط نفسا عميقا أمام وجه الْفتاة، أرادت أن تسألها لماذا نحا تفكيرها إلى الطّعام ولم تفكّر في التّحطيب مثلا، ولكنّها تذكّرت أنّها في وقت سابق كانت قد بحثت بنفسها هناك مدّة طويلة ولم تحظ بشيء، لا توجد قصبة واحدة أو قطعة من الْجلّة على محيط واسع من ذلك الْمكان، كلّ ما هناك حجارة وخردة وبقايا عظام نخرة بشريّة وحيوانيّة وأدوات بلاستيكيّة مكسورة، دار ببالها أنّه من الصّعب تبيّن ملامح الْأشخاص في هذا الْوسط الْماديّ الْمعتّم منزوعِ الشّفافيّة، ومن تلك الْمسافة.
في السّنوات الْأخيرة تحوّل الْهواء ليصبح ثقيلا جارحا كطبقة ثخينة من الْغازات الْمنبعثة من آلاف الْمصانع، من الْمحتمل أنّ كثافته الْغريبة قد خدعت عيني الْبنت.
“هل ذهب حقّا إلى قمّة الْهضبة؟“
”أنا متأكّدة من ذلك“.
لكنّ الْأمّ ما كانت تدرك أنّ ليلى، لَمّا تراقب التّايب بعينيها الْحادّتين كعيني نسر، لا تستخدم حاسّة نظرها فحسب، بل أيضا تسندها بحاسّة شمّها الْقويّة، تشمّ رائحته بأنف كلب، لا توجد رائحة مماثلة لرائحته على وجه الْأرض، كما أنّه لا يوجد في هذه البقعة كلاب أو كائنات حيّة أخرى غير القليل من البشر.
أدارت الْأمّ ظهرها للفتاة بعد أن اغترفت غرفة بيدها من البصّيلة المقطّعة ثبّتتها على سيخ من نحاس، ثمّ قالت وهي تهمّ بنشر السّفّود فوق الْجمرات: ”الذّكرى تجذبه، سوف يذرف من أجلهما الْقليل من الدّمع وينسى“.
لم تكن متأكّدة ممّا تقول، فقد مرّت ثماني سنوات، وهو زمن ليس بالقصير، وها هما يناديانه من مكان ما، من الطّبيعي أن يستجيب لندائهما، ليس ثمّة ما يلام عليه في ذلك، ولكنّ الْأمّ فسّرت استجابته هذه لشعوره بالْوحدة الْقاتلة رغم وجوده بينهم. ربّما هو غير مرتاح في الْعيش معهم.
سألت الْبنت: ”عمّن تتحدّثين، أمّي؟“
فانتبهت الْأمّ إلى الْخطأ الّذي ارتكبته، تذكّرت أنّ الْبنت تجهل حقيقة التّايب الّتي أخفوها عنها منذ أن كان عمرها أربع سنوات، وزرعوا في مخّها فكرة غير قابلة للتعليل، أوحوا إليها أنّه أخوها الذي تمّ إخصابه خارج الرّحم في تلك الْأبراج الْعملاقة لتفريخ الْبشر. كان ذلك في مساء الْيوم الثّاني من هجرتهم الْعائليّة بحثا عن فرصة لاختراق الْمدينة الْعجيبة، وكانوا وقتها متواجدين في الْخيمة عندما سمعوا صراخا عاليا، عويلا كأنّه بكاء. كانت الشّمس ما تزال ساطعة والْحرارة مرتفعة والْحركة منقطعة تماما، التقط الْعمّ واقيته من الحرّ، كوّرها على رأسه بخفّة، وقفز واقفا، أسرع يعدو خارجا إلى أعلى الْهضبة متتبّعا مصدر الْبكاء، خلفه كان بلْقاسم يجري لاهثا وهو ما يزال يسوّي عِمَّته على رأسه، ولَمّا وصلا إلى مكان الْاستغاثة وجداه جالسا على الْأرض قد لفّ ذراعيه حول ركبتيه، كان ينشج ويرتجف، ووالداه يجلسان على مقربة منه، قد استند أحدهما على الآخر.
كان رأس الرّجل ينحني إلى اليمين يكاد يلامس وجه الْمرأة.
وقف الْعمّ لبرهة مذهولا، ثمّ أسرع وجثا على ركبتيه، وأمسك بيد الرّجل يتحسس نبضه، لا يوجد نبض. وقبل أن يتحوّل إلى الْمرأة، التفت إلى ابنه، نظر إليه وقال آمرا: ”خذ الْغشّير إلى الْخيمة، فقال الْابن للْفتى برقّة وهو يمدّ له يدا: ”هيّا قم، فالشّمس تكاد تسلقك“، إلّا أنّ الْغلام ظلّ ملازما لوضعه، بقي متردّدا ولم يتحرّك، عندئذ مرّر الْعمّ طرف ثوبه على قرنيّة عين الْمرأة لعلّه يرى فيها آثار الحياة ثمّ نهض واقفا، وتوجّه إلى حيث يجلس الْفتى، شدّه من ذراعه بقوّة وأنهضه، وما إن رآه قد استقام ثابتا على قدميه حتّى قال بحزم: ”لنذهب!“، وشرع ينزل الْمنحدر.
مشى الْغلام بجانب بلْقاسم في صمت ودموعه تسيل على خدّه، دون أن يكفّ عن الْالتفات خلفه. ولَمّا ظهرت الْأمّ في مدخل الْخيمة خاطب الْعمّ ابنه قائلا: ”اترك الْغشّير لأمّك تعتني به، واتبعني“، ثمّ دار حول الخيمة يفتّش عن أداة للحفر.
بعد ساعة من الغروب، رجعا أغبرين منهكين يتصبّبان عرقا ويتنفّسان بصعوبة، الْأسمال الّتي يرتديانها معفّرة بالتّراب، وبيد الْعمّ صرّة قماش بالية، رماها إلى الْأمّ فتلقّفتها ووضعتها في حجرها وبدأت في فكّ عقدتها وهي تتساءل عن ماهيتها، لم يجبها وتطلّع إلى وجه الْفتى الْمستغرق في النّوم على جنبه الأيمن في أقصى الْخيمة، كان وهو في ثوبه الْفاخر يتنفّس ببطء، يده تحت رأسه وصدره يهتزّ اهتزازا خفيفا.
سألها: ”ألم يخبرك الْغشّير عمّا يكونون؟“
”لا لم يخبرني بشيء .. قد غلبه النّوم في وقت قصير.. فهل وجدتما غيره؟“
”أجل .. كان هناك رجل وامرأة قد خطفهما الْموت“.
ردّ بلقاسم وقصّ عليها ما حدث.
تأثّرت الأمّ كثيرا غلبها الأسى فتألّمت، على الرغم من أنّ الموت في العشريّة الأخيرة قد انتزع من أفئدة النّاس كلّ إحساس بالفقد والمواجع، وجعلهم يقفون باردين، في حياد تام، أمام مصائبهم الكبرى، صارت الجثّث منزوعة القداسة، لا تجمّع حولها أحدا، ولا تُجْرَي من أجلها طقوس المشاركة في الآلام، كانت تترك لمصيرها المحتوم في العراء المطَهِّر لا تجد من ينهشها فتحرقها عين الشمس الحامية وتطهّر الأرض من نجاستها.
”لا شكّ أنّهما والدا هذا الْفتى“، تكلّمت الأمّ بصوت خافت كأنّها تحادث نفسها فعلّق الْابن قائلا: ”من المحتمل جدّا .. ربّما هم لاجئون مثلنا“، لكنّ الْعمّ قال وهو يشير إلى الصرّة في حجر زوجته وقد تمكّنت الْأمّ أخيرا من فكّ عقدتها: ”لا أظنّ ذلك، فهم لا يظهر عليهم أثر السّفر“.
وحين فردت قطعة الْقماش أمامها وفوجئت بمحتوياتها، هزّت رأسها منتفضة، وصاحت: ”أوه! لا يحقّ لك سلبهما؟“
استدار الْعمّ حواليه وسرّح نظره في الغلام من جديد، ثمّ قال بصوت خفيض: ”هس! ستوقظين الغشّير، يا امرأة“.
قالت له الأمّ: ”من العيب أن تتكشّف عنهما“
”لم أنظر إليهما عاريين، دفنتهما بملابسهما الداخلية.“
”ماذا تقول؟ ولا تسمّي ذلك عريا!؟“
”الْحي أوْلَى من الْميّت، فبماذا أخطأت؟“
وعندئذ لزمت الصمت، لم يسرّها ما قال غير أنّها قضمت غضبها، وأسرعت تحشر الملابس في قطعة القماش البالية وتعيد ربطها، ثمّ دسّت الصرّة تحت بطانية مطوية، بالقرب من رأس ابنتها النائمة، لكي لا يراها الغلام فتتأذّى مشاعره.
عندما استيقظت ليلى في الوقت الذي اعتادت فيه النهوض، ثلاث ساعات تقريبا بعد غروب الشمس، انتبهت إلى وجود الفتى النائم إلى جانبها فتساءلت عمّن يكون، أخبرتها أمّها بأنّه أخوها الذي استرجعته العائلة من الأبراج.
_____
(1) الصبي.
(2) الأبله.