“4”
لا أعرف ما الذي سيهدك يوما ما؟ جملة أطلقها ولدي معتصم بفخر واعتزاز، بعد مصارعة بالأيدي بيني وبينه، بها الكثير من الإعجاب بقوة جسدي ومتانة عضلاتي.
يوم ماتت أختي، ووصلني خبرها، خارت قواي، تحطم عزمي، دمرت قدراتي، وقعت فريسة بكاء يخطف الأنفاس، ونشيج يغلق الحلق، صورة لم يرني بها أحد من قبل، فقط يوم رحيل أبي، وفقط يوم رحيل أمي، طرحتني الصدمة، ونهشني الحزن، أختك ماتت.
قال لي ولدي معتصم: أنت قوي، تماسك، وهو يتأجج حزنا وهلعا، قلت: أتذكر يوم قلت لي، لا أعرف ما الذي سيهدك يوما ما؟ اليوم هدني خبر أختي، فلا أنا بالقادر على وقف الدموع، ولا أنا بقادر على منع الحزن من تفتيتي وتمزيقي، العجز يحيط بي من كل جانب، من جميع الجهات، من فوقي ومن تحتي، عن يميني ويساري، يحاصرني، يعصرني، ينهشني نهش الضباع للفريسة وهي تستجدي الخلاص من أنياب قادرة على طحن العظام.
العجز يا ولدي داء الأدواء، عضال، لا يمكن الفكاك من براثنه وأنيابه، غير قابل لعلاج أو شفاء، يمسك الذات من قمتها وقاعها، باطنها وظاهرها، يغلها نحو نقاط سوداء ممعنة بالسواد، ويغطسها بقيعان موحلة مالحة، يجمدها بثقل من ثلوج متراكمة طبقات فوق طبقات، تتحول لجليد أقوى وأعتى من الصخر الذي دفعته البراكين في أقصى ثورات غضبها، لا ليونة فيه، لا رحمة، ومن تملكه العجز، تمكن منه الانهيار.
ولا أقصد العجز هنا عن إعادتها للحياة، معاذ الله أن أعترض على قضاء لله أو قدر، فثقتي به لا توصف ولا تحد، تخرج من آدميتي لتلتصق بما في روحه المتسامية عن الجسد والحياة والرغبات والنزوات، لتصل إلى منتهى التسليم المتذلل لقدرته وحكمته.
لكنني إنسان، بسيط إلى حد الصراخ من ألم شوكة يكسرها الجلد ويحطمها، أحمل في ذاتي ذوات كثيرة، بعضها يصل حد ملامسة الروح، ليرتفع بكل مشاعري وأحاسيس ليكون نهرا جامحا يصب في ودي ووفائي لكل قطرة من قطراته.
صبحية لم تكن نهرا جامحا فقط، هي الأبحر والمحيطات، الينابيع والجداول والغدائر، وكل ما يتفجر من قاع الأرض وما يسقط منها، ليحول كل ذواتي المرهقة المتعبة، فضاءات من تفجر تزخر وتزدحم بالحياة المتناسلة من حياة، لتجتمع حيوات تتناسل ذاتها وذواتها.
هل حدثتك عن وجهها الأبيض المشرب بحمرة تكاد تقفز خارج الوجنات والخدود؟ عن عينيها اللتان تشقان المجهول حين يسيطر السهوم العميق على البريق المتألق منهما، ليشد الضياء نحو الظلمة، ويفتح المجهول على المعلوم؟ عن صوتها وهي تخضع الحروف لأوتارها ونغماتها، فتخال بأن اللغة لم تكن يوما تحمل هذا الرنين المقتحم سويداء القلب؟ هل رأيت يوما بسمتها؟ لا أظن بأن هناك من يستطيع شرب تلك البسمة بكل ما فيها من لطافة وخفة وشفافية؟ هل حدثتك الرياح عن ضحكتها؟ أم روت لك النسمات حوار قهقهتها؟ الندى والطل، هل وشوشاك عن حنانها وحنوها وتحننها؟ لا أعرف إن جاءك الهاتف الذي آتاني، همس لي: هل تذكر وقع خطاها على التراب؟ على العشب، على الغبار، على المطر؟ على الرياح؟ كانت ترفع قدميها برأفة وتنزلهما بشفقة، حتى لا تؤذي الخفي المتخفي فيهما؟
آه ما أشق العجز، العيش في نواته، العجز عن ملامسة يدها الطاهرة المباركة، يدها المفتوحة على كرم يفيض بكرم، وجود يمطر بالجود، عليً، على أولادي، على أخوتي وأخواتي، على أولادهم، وأحفادهم، كان العطاء يئن خجلا من تدني قامته أمام قامتها، لم تكن مطلقا، تفكر بارتداد الخير عليها، ولم ترد سيئة بسيئة، فهي عجين من براءة وطهر، خليط من نقاء وصفاء، كتلة نور منقوع بالنور، لا تملك قدرة على إخفاء أناتها وحدبها وعطفها.
أذكر يوم كانت تأتي من هناك، من حيفا، محملة بكل شيء، عرائس السكر، الموز، اللحم، السمك البحري الطازج المتململ بالحياة، وحين كنا نشويه فتطير الرائحة لتملأ الأجواء، كنا نشمها هي، رائحة رقصات قلبها فرحا، تشققات روحها طربا، وحين نتذوقه، لم يكن رغم ما فيه من روعة تغري النهم بعدم الشبع، هو الذي يتخلل ما فينا من تعلق بتلك الروعة، كانت لمساتها له هي الأشهى والأهنأ والألذ والأطيب، أنفاسها وهي تتزاحم كي تطوقنا ونحن نمضغ، تتسلل مع كل قضمة ولقمة، فنعلو، نطير، نحلق، وكيف لا نكون كذلك، وهي أمنا الصغيرة، أمنا التي انتشلتنا من اليتم، يوم ماتت أمنا؟ كيف لا، ونحن لا نملك من المشاعر والأحاسيس ما يقودنا نحو الحياة والإنسان، إلا حين نطوق برحمتها المكتملة من الأم والأخت في ذات الآن.
حزين أنا، كمالك، كالخنساء، كالصفصاف، كالحزن نفسه، وعاجز أنا، عجز الفراخ في أعشاشها، عجز الجنين في الرحم، عجز الطفل عن التمييز بين التمر والجمر، ناقم على ذواتي كلها، وغاضب على وجودي الملوح بالعذاب، فقط لو تمكنت من الجلوس تحت قدميها، أدلكهما، أقبلهما، أمسح باطنهما برأسي وخداي، ألثمهما، أحملهما على كاهلي حينما تشعر بتعب فيهما، لو مددت يدي على رأسها، على شعرها، على وجنتيها، على أنفها، على شفتيها، لو شربت زفيرها، وعبأت ذواتي بشهيقها، لو أمسكت نظرتها الأخيرة وهي تودع الحياة بالسهوم والحيرة التي تسكنها من يوم الميلاد.
لمن سأقول اليوم بفم ما زال يحمل رضابها يوم كانت تطعمني وأنا في المهد، يا أختاه، أختي، أمي الصغيرة؟ أي قدم سأعلق على رقبتي؟ أي بسمة ستشق قلبي وتطلق فيه ربيعا من الدفق والتفجر والنماء؟
غابت صبحية، كانت صبحية، صبحية القلب والنفس والروح، رحلت صبحية، كل لفظ يخصها أصبح مقرونا بأدوات الماضي، غائبا عن الحاضر، منفيا من المستقبل، هل يمكن لي الآن التخلي عن الألم؟ عن الوجع؟ عن العذاب؟ عن الأسى المسنن؟ عن الغضى ولهيبه؟
لا، لا يمكنني التخلي عن كل ذلك، وفاء لقلبها وروحها، ولأنني فقط بكل هذا الحشد من الحزن أستطيع أن أحملها في كل ثانية بين عيني، في قلوب أولادي، في روح أحفادي، كي تبقى فينا ونبقى فيها، كي تزهر كل خريف وصيف وشتاء، حدائق من حب، وله، ذكرى، محبة، وفاء.
سألتني يوما يا ولدي، ما الذي سيهدك يوما؟ الآن أجابتك الدنيا، قد هدني وبراني رحيل أختي وأمي صبحية.
” مهداة لجبال الحنان، خيمة الطيبة، صلب الوفاء، ندية الرقة، أختي وحبيبتي وأمي صبحية أحمد مصطفى محمد زيدان، صدقة جارية تشملني معها بإذن الرحمن الرحيم”.