كان مغطى بالتراب وهو يعدو في اتجاه غروب الشمس فارس يضيع بعيد.
قبل نصف ساعة رأيناه يتناقش مع صاحب البيت ومع صهره.
– والماشية
– لم تمر
– أنت وشأنك
تبدو الشمس فوق الحقل كما لو كانت تتعطى بالبريق الفولاذي للمياه الراكدة.
لا صوت يسمع هناك، ولا إنسان يرى في كل ما حوله.
استقلي على الأرض. قرب الباب كلب كبير نائم وقد رفع إحدى إذنيه، وإلى جانبه طفلة هادئة تعلب بالتراب، في انتظار الليل. خلفه. بيت مرتفع كبير، مظلم، وتقريبا أسود.
في المطبخ، إمرأة تنتقل من مكان إلى أخر، ترفع غطاء القدر، ترمي في صفيحة الخنزير بحبات البطاطس الفاسدة، تدس برجلها صرصورا ثم تقتله.
وفي الدهليز رجلان يدخنان. الأكثر شباب يقرا جريدة قديمة من تلك التي حملت من مدينة بعيدة، وقد لف فيها شيء ما.
– أشعلت المرأة قنديل المطبخ.
– أيتها الطفلة
الطفلة التي كانت تلعب بالتراب تدخل البيت وتجلس، دائما في صمت، على الدرجة التي تربط المطبخ بالمدخل.
بواسطة ظليل نور القنديل أصبحت تسمع الآن همسات بعيدة لم تكن تسع من قبل. الأصوات الخافتة القريبة لدعائم السقف.
ضباب خفيف يحط فوق الحقل. والقمر بمشقة يسمح بالرؤية بين الفينة والأخرى. بين الحوافي المفضضة للسحب عواء متمدد يعبر الحقل .
– إن الغدير هناك.
– منذ أيام.
تبدأ الطفلة الجالسة على الدرجة في البكاء.
– اسكتي.
مر العشاء في صمت. في المطبخ ثلاث نسوة وطفلة وأختاها الصبيتان. وفي الدهليز يتعشى الرجلان، شاب وطفل يحملان فضالة صحون الرجلين. لا احد يتكلم.
العواء الطويل يواصل قطع سكون الليل.
تحمل مارتا، عند النوم، كأسين صغيرين.
تواجه زوجها.
+ هل ستخرج هذه الليلة.
= وأنت ماذا يهمك
المرأة التي لم تبك من سنوات طويلة تنسحب وقد تدلى رأسها.
يسير الرجل خلفها ويجلس في المطبخ ليرى ماذا ستفعل. أنهما وحيدان.
تمر برهة صمت ينظر الرجل إلى الأرض
= إذن، نعم، سأخرج. ألا تسمعين الغدير. سأخرج كما اخرج دائما. سأخرج إلى أن يلقي القبض علي في يوم ما.
+ اسكت!.
= لن أسكت…إلى أن يمسكوني ذات يوم كذئب، وأنت….
+ اسكت!.
= إلا ترين أختك دولوريس؟.
كانت المرأة شاحبة كميتة.
+ اذهب إن شئت. إني سأصلي من أجلك كما أفعل في كل الليالي. أسال الله ان يغفر لي.
انطلقت ريح صافرة فوق السهل. والأشجار القليلة كانت تنحني، كخادمة، عند مرورها.
عرف الحصان الطريق المرتجف لليال كثيرة.
أسرع الحصان، رغم فارسه الذي يركبه، يبحث عن دفئ للقشعريرة التي تسرى في عموده الفقري.
ما زال الغدير يعوي. كل مرة أكثر صراخا، و صوته يضيع، دون صدى، في نهاية الحقل.
ترجل رامون.
اجتاز رجل سريعا من خلال الظل.
= من يسير هناك.
لم يجب احد. بدأت السماء تمطر، وكان الغدير يرن كدف.
بين صفير الريح وانتحاب المياه تسمع أشجار الأسل وهي تتكسر تحت قدمي الرجل عند هروبه.
اقترب رامون من الحصان الذي كان يرشح تحت المطر. الشفة السفلى مرتعشة، والحوافر جزوعة.
دوى صفير قوى ليثير انتباهاً، ورأي رجلاً آخر يخترق غابات الأسل. تأسف لأنه لا يحمل بندقيته.
كان يسير على الضفة، عبر طريق أشجار الأسل. يحمل في يده حزاما بإبزيم من حديد سميك.
لو أحسَّ بسكون، ربما فكر في الوحل اللزج. في الوحل الغدار الذي، من خلال حافات الغدير. ينتظر، رابط الجأش، غنيمة مناسبة.
حين انتبه أن رِجْلا قد انزلقت، وهو يمشي، خطوة. اسند القدم الأخرى نصف متر إلى الأمام، فوق الأرضية المنزلقة.
عبرت من خلال ذهنه، كشرارة، فكرة من انه سلك سلوكا سيئا مع زوجته. فقط كانت لحظة.
– النجدة!
كان رأسه باردا من الداخل. ومياه الأمطار لم تتوقف، ليغسل جبينه العرقان
اهتزت أشجار الأسل حين انفلتت منه صرخة، والحصان جزوعا يتخبط بين اليدين المسكتين باللجام.
– النجدة!
رئي رامون في الظلمة وكانت عيناه تضطرمان كجذوتين.
اقترب منه ثلاثة رجال من الخلف وأسقطوه.
– كنا ننتظرك.
– لماذا.
– كما ترى…أشياء تحدث للكثيرين. ألم تسال عن الماشية.
– دعك من هذا.
كان رامون ينظف الجزمة بالعشب، والرجل الذي يتكلم كان يدخن غليونه السميك.
– لماذا تحمل في يدك الحزام؟.
– باه…
وصل الرجال الأربعة إلى حيث حصان رامون.
– اشتريت لك حصانا.
– خذه…أنني اهديه لك.
= لا، غذا تذهب إلى بيتك للبحث عنه.
– انه أسوأ. خده الآن. بالنسبة لمارتا فإنها ستستغرب
= نعم…حقيقة.
عاد رامون ماشيا. حين وصل إلى البيت حيا زوجته المنتظرة.
+ لم أسمعك وأنت تصل.
= لأني أتيت ماشيا.
+ والحصان.
= لقد تركته هناك
+ عند القدير.
= نعم
كانت المرأة تحاول أن تتطلع إلى عينيه.
+ ماذا جرى لك.
= لا شيء…هل صليت من اجلي.
+ نعم
= فقد حمتني
+ وأولئك.
= لقد رايتهم.
دخل إلى المطبخ ليتدفأ. تبلل ثوبه بالمطر وكان يرتعش .
+أأنت مريض؟.
= لا، انه لا شيء. أعطيني كأسا دافئا.
حملت مارتا إليه الكأس. شربه في جرعة.
= مارتا، اسمعي.
+ قل.
= هل آذيتك ليلة أمس حين لويت ذراعك.
+ لا تتكلم عن ذلك.
= هل تحبينني كما أحبك؟.
+ نعم، اسكت، وهيا لننام، فقد أصبح الوقت متأخراً.
عن “الملحق الثقافي” لصحيفة :أ ب ث – ABC العدد 455 السبت 21/10/1989
إضــاءة:
كاميلو خوسي ثيلا Camilo José Cela روائي وشاعر وكاتب مقالات، وأستاذ فلسفة القانون والأخلاق والسياسة. انخرط في جميع الأنواع الأدبية. حاصل على جائزة نوبل للآداب1989 لنثره الثري والمكثف الذي يتميز برؤية استفزازية
ولد ب”بادرون Padron”، إقليم غاليثيا Galecia 1916
في عام 1931 انتقلت أسرته إلى مدريد حيث درس الأدب والفلسفة لفترة وجيزة، وخلال هذه الفترة أصيب بمرض السل، ودخل إلى منشأة سانتاريوم الطبية في غواداراما Guadarrama، حيث استغل وقت فراغه فكتب روايته “جناح الاستراحة Pabellón de Reposo”. وفي أثناء تعافيه من المرض. استغل وقت الفراغ الطويل، وانكب على قراءة أعمال أبرز الأدباء الإسبان في تلك الفترة.
حين اندلعت الحرب الأهلية،بين الجمهورين والفاشيين، عام 1936 حارب إلى جانب فرانكو، فتطوع بصفته جنديًاً، وحين أصيب بشظية نُقل إلى المستشفى. لكن، لاحقاً، رفض دكتاتورية فرانكو، وأصبح أحد منتقديه، ومُستفزاً للسلطات… فحافظ على موقف مستقل تجاه النظام. ولكنه أصبح مراقبًا. ولعل من سخرية القدر أن أشهر أعماله التي ألفها خلال هذه الفترة خضعت للتدقيق من قبل زملائه المراقبين، بما في ذلك روايته “خلية النحل Colmena” التي مُنعت من النشر في إسبانيا، فاضطر إلى نشرها 1951 بعاصمة الأرجنتين، حيث تحتوي على أكثر من 300 شخصية، وهي نموذج يوضح تأثير الواقعية الإسبانية
حين انتهت الحرب الأهلية عام 1939، ترددًا حيال دراسته الجامعية، فانتهى به الأمر أن يعمل في مكتب للصناعات النسيجية. وهنا بدأ يكتب، ما أصبح يعرف لاحقًا، بروايته الأولى التي حملت عنوان “عائلة باسكال دوارتي La Familia de Pascual Duarte”، التي نُشرت في عام 1942 حين كان عمره 26 سنة. وهي من أكثر الأعمال الأدبية الإسبانية ترجمة في العالم بعد رواية “دون كيخوتي دي لامانشا” لرائد الرواية الإسبانية “ثيربانطيس Cervantès . يوصف أسلوب هذه الرواية، الذي يتسم بالواقعية الجافة والخشنة والقسوة الشديدة، ولكن رغم نجاحها الجماهيري الباهر والواسع إلا أنها واجهت مشاكل مع الكنيسة، مما أدى إلى حظر نشر طعتها الثانية في إسبانيا، فاضطر إلى نشرها في الأرجنتين.
خصل على عدة جواز:
اشتهر في العقدين الأخيرين من القرن العشرين واحدا من كبار كتاب، وتلقى جوائز وحفلات تكريم عديدة اعترافا بإنجازه الأدبي:
– 1964 دكتورة فخرية من جامعة سيراكوزي (الولايات المتحدة الأمريكية)
– 1980 دكتورة فخرية من جامعة سانتياغو دي كومبوستيلا (إسبانيا)
– 1984 جائزة الأدب الوطنية، ماثوركا لقتيلين (إسبانيا)
– 1987 جائزة أمير استورياس للأدب (إسبانيا
– 1989 جائزة نوبل للآداب (السويد)
– 1994 جائزة بلانيتا (إسبانيا)
– 1995 جائزة ميغيل دي ثيربانطيس (إسبانيا)
– 1996 لقب النبالة من الملك خوان كارلوس الأول
ترك كاميلو خوسي ثيلا أكثر من ستين عملا، توزعت بين الرواية والقصة القصيرة والحكاية والمقالة وقصص السفر والشعر إلى جاني مختارات فرسية من القصص القصيرة…
توفي في 17/01/ 2002 بمدريد.