الوطن هو الذاكرة قبل كل شيء، ذاكرة القهر، واللون ورائحة الزعفران، هل تعرفين يا سماح هذه الرائحة؟
أنتِ مثل زهرته الصفراء، عندما تسحقينها تعطر يديك.
أنتَ بالطبع لا تريد أن تعرّض سماح لهذه التجربة لترى إن كانت ستضوع عشقا بفراقك لها.
كل شيء ينتهي مع الفراق إلا الحبّ فإنه في الحقيقة لا يبدأ ولا يمتحن إلا بعدَ البُعد، فطالما أنت بقربها لا تبالي بدوران الأرض حول الشمس، بل تستمتع بالنظرة، بالابتسامة، وبالثرثرة الفارغة تبلغ ذروة التوق دون أن تطرح سؤالا واحدا على نفسك، و تظنُّ الفراق سهلا، ولكن ما أن تبتعد ويغيب ظلها خلف الزاوية الأخيرة لذاك الشارع الأليف حتى تشعر بأنك صرت مخطوف القلب.
أمانك السابق البديهي صار عذابا دائما، ابتسامتك، ثقتك بقربها من خاطرك – ولو لم تصلها بجسدك أو بعينك – كافية لتحرس أحلامك من هول الأيام ونزاع العداوة، وبرودة الأيام، وغرابة البشر.
قدرتك على رؤيتها متى شئت، والصدفة التي لا بدّ أن تجمعكما اليوم أو غدا أو بعد غد تجعل من أحزانك وقلقك واضطراب أقدارك موضوع حديث قادم، أفكارك المتلاطمة والمحيرة ليست بذات شأن، لأنك ستخرج من جلستك القادمة معها وأنت عطش لأفكار أخرى ترويها وحكايات مشوقة تنسجها من أمسك.
رغبتك باحتضانها تهدئ روعك، شبقك القاتل يدفئ قلبك ككنزة صوفية في ليل بارد، لا يكمل جمال السهرة إلا روعة الكلمات، أزعمُ أنها وحدها أدوات العاشقين، وما عداها عرض.
تراها فلا تفكر حتى بلمس يدها، لم يكن خجلا ولا ترفعا ولا زهدا، لكن تدفق الحديث بينكما كان أقوى من احتضان النهدين وتقبيل الشفتين، بل أقوى من امتلاك الجسد للجسد واختراقه.
تهت في عينيها التي تشبهان المروج الخضر التي يغطيها المطر بطبقة من الرطوبة الحامية.
كانت سماح موتك الشهي، فلم تقتربْ منها أكثر، اكتوى قلبك بفراقها لتصبح كمحكوم بالإعدام، تكاد الرغبة بالحياة تضنيه، وتذكره ساعة الجدار الدائرة بدنو الموت، فيغسله الرعب من قمة شعر رأسه إلى أطراف أصابع قدميه.
تسأل نفسك إن كنت فعلا راغبا بوصالها، يحرقك السؤال كشهوة خالصة.
هل تحتاج علاقة حب بين رجل وامرأة إلى كل هذا التعقيد، وهذه الأسئلة الحائرة؟
الفرق بين الرجل والمرأة، وهو ربما سر شقاء كليهما في الحب، يظنُّ الرجل أنه يمتلك لجام العلاقة مع المرأة، يسكنه وهم أسر روحها وقلبها لأنه نال جسدها برضاها ولو لمرة واحدة، بينما تميل المرأة إلى تعقيد الحب وأبعاده، وتحارُ إن كان رجلها معجبا بها كما هي أم أن هناك المزيد لتفعله فترضيه، وتختفي غريزتها خلف أفكار متناقضة حائرة، فيضيع الاثنان في تفاصيل واعتقادات لا تتلاقى إلا نادرا.
نسيتَ من جديد أن تكمل فكرتك عن الوطن والذاكرة، عن علاقة الزعفران بحبك للوطن ولسماح.
لم تكن المرة الأولى التي تسترسلان فيها بالأحاديث المفتوحة بلا نهايات، ربما كنتما قلقين من نهاية الحديث، لم تكن هي شهرزاد ولا أنت شهريار، بل كلاكما كنتما تخشيان طلوع صباح الواقع وعذاباته، وانطفاء شمعة الوجد المجنون.
القاتل الصامت ليس مرض الضغط كما اسماه لك الطبيب قبل عشر سنوات، كان ذاك البوح المخنوق تحت حنجرتك، وأنتما تمارسان كل طقوس الولع اللاواعية.
كان حبا، بل أكثر من ذلك اشتراك في خطيئة القتل الممنهج للمساء، وأنتما تسهران وتتقلبان فوق سرير الجوى دون أن تلمس يدها، بل أنك لم تر أبدا أي ضرورة لذلك.
دخلتْ سماح إلى خلاياك من عينيك، تجولتْ مع الدم، لكن سطوتها الحقيقية كانت على دماغك، راوغتْك و أضعفتْ مقاومتك، أشعرتْك بوهنك، واستخرجتْ غباءك دفعة واحدة، كم أقررتَ به، وهي تفرض عليك وقع الخُطا، بطء الكلمات إن شاءت، وتسارعها الحاد إن غيَّرت رأيها.
رغبتَ مرات أن تعيد لعبتك العبثية معها، استمعت إليها لدقائق طويلة، وقد كنت معتادا على إلقاء الخطب الطويلة، لكنك أمامها كنت لا تجد ضرورة لإثبات أي رأي، كانت غاية أملك أن ترضي سماح.
كنتما تثرثران، لا شيء أقوى من لغوكما في التغلب على الخوف، اللقاء كاف لقتل افتراضي شبه كامل لأي عدو، كنت بحاجة إلى مشكلة بل إلى عقبات ترويها لها، كم أحسستَ بتفاهة المعاناة لولا أنها كانت قماشة تغزلان من خيوطها حديث الليل والنهار.
رأيتَ شبابها وهي ابنة السابعة والعشرين، ولم تر كهولتك أنتَ ابن الخامسة و الأربعين، كانت تذكرك بعمرها لتقول لك أنها شابة بالغة وليست مراهقة، تنسلُ من لعبة الأرقام والأعمار، لم تبالي قبلا بها، ولم تكن تنظر في المرآة أصلا، تحلق ذقنك بعد أن حفظت جغرافيته عن ظهر قلب، آخر صورة لك تذكرها كنت ابن ثلاثين عاما، كان ذلك كافيا ليجعلكما من جيل واحد.
لم تكن تداور ولا تخادع، غرقت روحكَ معها في قلب بحر الحب، كان حبا من طرفين، ولأول مرة في حياتك تقع في هذا النوع من الحب.
شممتَ رائحة الشغف، وأحاطتْ بك حماوته، صرتَ غبيا كأي عاشق حقيقي، بعد أن ظللت لسنوات طويلة رمزا للعقل البارد والضمير الحي.
10/04/2022