أتذكر مِرارا، و الذكرى حين تتكرر تصير أكثر من مجرد ذكرى؛ أبعد تجذُرا في المدى داخل دهاليز الخاطر؛ ما يجعلها عصية عن الإنكار و الاندثار؛ إلى أن ينساها النِسيان في واحدة من زلاته القليلة.
عَشيتها، و الشمس آفِلَةً إلى عُشها الأخير بِحُمرتها كخدين خجولين خالدين في الوجود؛ نزلتُ مُسرعا، مُتجملا ما استطعت إلى ذلك سبيلا لِلُقياك في مقهانا المعتاد “فضاء الطبيعة”. كانت تلك اللحظة من أجمل مواعيدي خلال يومي الحافلِ أنا الذي أقابل الكثيرين. دخلتُ منشرحا إلى رُكننا المُنتظر. فوق كرسي بلاستيكي برتقالي ترائيتَ لي غارساً عينيك إلى تحت، مُنغمسا في قِراءة ما تيسر من الذكر للحكيم الروسي دوستويفسكي….أمامك مُباشرة كانت شاشة التلفاز تعرضُ مهزلة برشلونية كروية كاطلونية للإسبان في مواجهة استعراض لعضلات الألمان ، بطلها اللاعب “ليفاندوفسكي” هذه المرة.
ساعة ههممتُ بالجلوس قُربك؛ مُلتصقا بك لا يفصلنا إلا فج لمرور شرنقة ريح تسعى لِتخيطَنا معا، رفعتَ فرحا بمجيئي حاجبيك داخل نظارتيك السميكتين بابتسامة شافاقية لا تُفارق محياك. بدا لي أنك تُجسدُ ما تقرِأُه لتلك الحسناء التركية الوحيدة؛ في مقابل جحافل الرجال الأتراك الملتحين؛ الذين لم يتركوا قلب امرأة مغربية إلا أغروه زورا و بهتانا، تاركين شوارب رٍجالنا المفتولة أرضا مهجورة، مأهولة هباءً منثورا.
أما أنا الذي كنتُ مُلْتحيا وذا شارب لأناسب جميع الأذواق و المشارب، فكنتُ أفكر فقط متوجها نحوك بأن كل خطوة إليكَ من مدخل المقهى إلى مجلسك كانت بعشر حسنات.
حين أَخذتُ مكاني أخيرا بجانبك، تركتَ كتابك الثخين يرتخي من بين أصابعك، ثم قُمت دون سابق إنذار بحركة ستبقى خالدة في وجداني مثل بصمة ثانية أصبحت من نصيبي: ذلك أنك طَبْطَبْتَ على كتفي الأيمن، ذلك الذي تلقى الثِقل الأقصى من حِمْل الحياة. فركتَهُ، ثم مسدتَهُ بباطن كفيك الشريفتين فيما شفتاك المَسْكِيتين كانتا تخاطبني: “مرحبا بالشاب الجميل”، فسكَنتُ في مكاني مصدوما في جمود مُتصلبا؛ صامتا مثل ممسوس همد و سقط خامدا بعد نوبة صرع عنيفة.
أُنْبِئك الآن بخبر عاطفي عاجل: -باستثناء كسال الحمام- منذ تلك اللحظة إلى اليوم لم يُهدهدْ أحد علي كما فعلتَ ساعتها؛ في جلسة المساج تلك التدليكية، التدليلية و التدليعية التي كلفت سبعة دراهم و ثروة قارونية بل و إيلون مَاسْكيِة من المحبة إزاءك. انقطعت عني تلك العادة، ذلك العُرف الذي كان ينبغي أن يصير سُنة في حكم المؤكد أو حُكما غير قابل للإستئناف و النقض. لكن قرارات البيروقراطيا متحالفة مع الجغرافيا كان لهما رأي مغاير، بعدما خطفتني من قربك رامية إياي في دواليب مسالك لا طبطبة فيها و لا مَسَاج.
بدل ذلك و على الأرجح بسبب لمسة اليد تِلك على كاهلي، كان لا بُدَ لي – تحت وطأة ذاك الفِطام غير الطبيعي- البدء بِمعركة عاطفية أولا و قانونية ثانيا لكي أتبناك أبا ثانيا لي. حتى تصيرَ الأب الذي لم تُنجِبْهُ لي جدتي كما يحدث حين نلتقي بإخوان لم تلدهم لنا أُمهاتنا، فنعَضُ عليهم بالنواجد كأننا رُضع نخشى ضياع حَلَمة الثدي الذي نمسك به. لهذا بدأتُ تنفيذ القرار متوجها إلى دواليب وزارة الداخلية حتى أستفسر عن الوثائق اللازمة لعملية التبني المقلوبة تلك. داخل دهاليز الإدارة المعنية التقيتُ موظفا أنيقا برتبة شبح يتبوأ منصب إداريا كسمسار في مثل هذه العمليات الإدارية العجيبة. اعتقدتُ أني جزء من دياجير الحكي في رواية المسخ لكافكا حيث يتحول موظف إلى صرصور يقوم بكل المهام. رغم أني متعود دائما على أعاجيب الألاعيب في كل الإدارات التي مررتُ منها.
تيقَنتُ بأني في مؤسسة ضخمة حين أفصحتُ له عن موقفي منُتظراَ أن يشرح لي أن تبني الأطفال حرام دينيا معدوم قانونا، فما بالك بتبن أبٍ، لكن “الصرصور” أصر بثقة المسؤول الواثق من عصاه السحرية أن ما يلزمني هو وثيقة بسيطة عبار عن شهادة الحياة للشخصين المعنيين بالتبني رغم أنهما أحياء، واثنا عشرة شاهدا على تلك الطبطبة التي حدثت في المقهى.
أجبتهُ: ما رأيك بأحد عشرة لاعبا لبايرن ميونخ الألماني الموثوق شهادتهم و سنضيف عليهم دوستويفسكي الميت الذي سيحتاج فعلا لشهادة حياة من مقدم الحي.
بُهتَ الذي تعود عل إيجاد الحلول لجميع المعضلات الإدارية؛ ثم هز رأسه هازئا و هو يغادرني مستغربا من هذا البروتكول الذي لم يصادفه قبلا أو دار بخلده يوما. أما أنا فتراجعتُ عن القرار، لملمتُ وريقاتي و كفكفتُ أمارات خيبتي عازما على الإحتفاظ بالطبطبة مجرد ذكرى مُنعشة، منقوشة في الروح أفضل من حِفظها في أرشيف الإدارات. خشيتُ عليها أن تكون صيدا ثمينا لصرصور يمزقها أو يزورها فأر يفسدها بقضمات أسنانه الحادة، و هي كائنات متواجدة بكثرة و تتكاثر بوثيرة كبيرة في إداراتنا الموقرة؛ فتُنغصُ على الناس ليس حياتهم اليومية فقط بل ذكرياتهم الجميلة أيضا و هو أمر لا يقوم به حتى النسيان بجلال قدره.