“من المؤكد أن التركيز على بداية العمل الابداعي لا يأتي هكذا مصادفة، وإنما عبر تدريب طويل على إيجاد بداية جيدة، وغير تقليدية، وأنا شخصياً أعتبرها العقبة الكبرى التي تواجهني، حين أكتب، ويمكن بسهولة أن يضيع مني نص لأن بدايته لم أحسها ترتقي لمستوى ملائم.”
أمير تاج السر
كاتب وروائي سوداني
ليس من السهل بمكان كتابة النص وصياغة حبكته ومفرداته وابتكار أحداثه، ومداخل النص تشكل مفتاح النص بينما أنساق السرد تشكل العمود الفقري للكتابة الروائية، وهي التي تحمل الحدث والشخصيات والصراع القائم والثيمة، كما تفيدنا برؤية الكاتب بالاعتماد على ثقافة الروائي وسعة اطلاعه وصقل موهبته، كما لا يمكن فهم هذا النص دون الرجوع إلى ثقافة الكاتب والبيئة التي نشأ فيها، يضاف إلى ذلك قراءة متأنية لنصوصه وفهم الأنساق الثقافية الظاهرة، كي تساعدنا في إستقراء الأنساق المضمرة وقصديات الكاتب والمغزى المراد من تأليفه، وماهي الأنساق المهيمنة على مرجعياته السردية وكذلك الرسالة التي تحملها تلك الانساق، فهناك الكثير من الرسائل المخفية خلف أقنعة المتعة وجمال الاسلوب وبلاغة المفردات، فالنص هو لغة قبل كل شيء وهي التي تشكل وسيلة التواصل بين المرسل/ المؤلف وبين المتلقي عبر شفرة الرسالة/ النص، لذا يجب أن تتوفر شروط التواصل الثقافي والمعرفي بين المؤلف والمتلقي في سبيل تحقيق فك شفرة الرسالة.
لذلك اقترح رومان ياكبسون منظومة التلقي من ستة وظائف والتي تشمل على الوظائف: الوجدانية للمرسل، الاخبارية للمرسل إليه، المرجعية للسياق، المعجمية للشفرة، التنبيهية لأداة الاتصال، وأخيراً الوظيفة الجمالية للرسالة( )، وبحسب مفهوم ياكبسون نحن أمام منظومة متكاملة من العلاقة القائمة بين المؤلف والنص والمتلقي، والعلاقة التي تربط بينهم هي المداخل والمرجعيات والمهيمنات.
يقترح لوسيان غولدمان( ) آلية التحليل الخطابي للنص السردي عبر مرحلتين: الاستيعاب (Comprehension)، والتفسير (Explanations) لبنية النص الروائي، ويتم ذلك من خلال الترابط الحاصل بين رؤية العالم التي يعبر عنها النص في الواقع وعناصره الداخلية شكلية كانت أم فكرية، وعملية الوصول اليها يتطلب بحثاً جدياً ومفصلاً ودقيقاً للأحداث الواقعية، ومعرفة معمقة للقيم الفكرية المنبثقة عنها، ضمن ثلاث محاور: الحياة الفكرية؛ الحياة النفسية والعاطفية؛ والحياة الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها المجموعة التي يعبر عنها الروائي في نصه( ).
وعملية حصر مداخل النص ودراسة أنساق السرد بحاجة إلى منهج نقدي يلم بتفاصيلها ويغوص في أعماقها ويكشف الظاهر والمضمر من معانيها، فكان النقد الثقافي هو خير من يلم بهذا الموضوع الشائك كونه يتعلق بالثقافة أولاً وعملية تبادل المعرفة بين ثقافة الكاتب وثقافة النص، وثانياً يهضم هذا المنهج التنوع المعرفي للأنساق الثقافية للنص وتحليل بنياتها ومعرفة دلالاتها وتبيان قصدياتها.
ويتداخل مفهوم مداخل النص السردي مع مفاتيح النص (Keywords) وهي تشير إلى كلمة أو جملة أو فقرة، تعمل كمفتاح ، وتخدم معنى آخر( )، وهي تسبق عمل مداخل النص السردي (Narrative Text Entrances) والتي تشير إلى الاطار العام الذي يشكله المتلقي والذي من خلاله يستقرأ معاني بنية النص، جنباً إلى جنب مع المعرفة الشخصية، والتعليم السابق، والعواطف والنظرة العالمية، وهي تعمل كما لو دخل زائر الى معرض فني وراح يختبر لوحاته حسب معرفته السابقة( ).
وقد تناولنا في دراستنا هذه المنجز السردي للكاتب والروائي عبد الله السالم الجبوري والمتكون من ثلاث روايات؛ هي:
1- الخانم وآخر مقامات العشق( ).
2- أعتقني حتى أقول كلماتي( ).
3- حكاية صائد الذئاب( ).
وقد اشتغل الجبوري على عدة مداخل للنصوص الروائية، بناء على بيئته التي نشأ فيها، ومصادر ثقافته، وخبراته الحياتية المكتسبة، ويمكن حصرها بما يلي:
أ- المدخل الايديولوجي:
يعد مفهوم الايديلوجيا من المفاهيم القديمة، فالمصطلح يعود إلى اللغة اليونانية القديمة (Ideology)، والمصطلح مركب من مقطعين نحويين (ideo) أفكار، و(logy) علم، ويعني علم الأفكار وهذا ما أشار له العالم الفرنسي أ ال سي دستوت، ويشمكل على مجموعة من الآراء التي توجه مجموعة من الأشخاص أو حزب سياسي معين( )، وقد تشكل هذه الأفكار والمعتقدات مذهباً في عصر ما، أو طبقة اجتماعية كالايديولوجيا البرجوازية والثورية، وعموماً فهي مذهب مثالي وهمي( ).
ويرى كارل مانهايم أن الايديولوجيات( ) تلك الأنظمة الفكرية التي تهدف بصورة رئيسية إلى الدفاع عن تلك الأوضاع القائمة بالفعل، كما تسعى إلى ايجاد التبريرات اللازمة لحماية مصالح الفئات الحاكمة( )، ومن الروايات التي وظفت الايديلوجيا في أنساقها: “شرق المتوسط” للروائي عبدالرحمن منيف، “حدائق الرئيس” محسن الرملي، “وليمة لأعشاب البحر” حيدر حيدر، “مصحف أحمر” محمد الغربي عمران.
والروائي عبد الله السالم الجبوري يحمل مؤهل في القانون وعمل في مجال السياسة لحقبة طويلة، كما أنه مطلع على سير كعظم القادة والمناضلين الثوريين في العالم، لذلك جاءت أنساقه الايديلوجية متنوعة ومكثفة ومباشرة أحياناً ومرمزة في أحايين أخرى، ويظهر النسق الايديلوجي في رواية “الخانم وآخر مقامات العشق” من خلال شخصية البطل “مثنى الحادي” الذي يهجر قريته ويستقر في بغداد لممارسة النضال في سبيل نيل الحرية وتحقيق العدالة، ولكنه سياسي مستتر خلف أقنعة الاحزاب: “… صار بحكم قوة شخصيته اللامرئية، أحد واجهات القيادة المخفية، لحركة مبهمة، تبحث عن الخلاص من الطغيان…” ( )، بهذا المدخل قدم لنا الروائي شخصية البطل لتبدأ مسيرته النضالية المخفية وتبدأ معها معاناة السجون والمطاردات والاعتقالات التعذيب، وما أن تقوم الثورة التي حلم بها البطل، حتى يتم زجه ورفاقه في السجن ويجبر على توقيع تعهد بعدم ممارسة السياسة والاقتراب من السلطة مقابل اطلاق سراحهم، ولكنه حتى رغم ذلك تتم تصفيته بطريقة بشعة خارج حدود السجن، وهناك حوارات وفقرات في معظم صفحات الرواية عن الهجرة والتغيير الديموغرافي لعدد من المدن والمناطق في العراق بأهداف سياسية وعقائدية مبنية على ثقافة المؤلف وسعة اطلاعه في هذا المجال.
وفي صائد الذئاب كان النسق الايديولوجي يتمثل في صراع البطل مع الآخر الذي يسعى إلى محوه من الوجود نهائياً: “هذا الفتى سيفنيكم قبل أن يموت وأنه آخر جذر من شجرة الشعلان التي تيبست تماماً، اقطعوا هذا الجذر قبل أن تعود وتنمو شجرتهم مرة أخرى،…”( )، وهنا نجد الصراع عبارة عن صراع أجيال متوارث منذ الاجداد إلى الأحفاد وهو ما شكل النسق المسيطر على معظم أحداث الرواية: “قال في نفسه: هذه القرية تموج فوق بحر من الدماء، تعوم على بحيرة من صليل السيوف، لا شيء فيها يشي بأنها جاءت من رحم السلام!!” ( ).
وهنا عمد الكاتب إلى ايجاد نسق ايدولوجي يحمل القص من بداية الرواية إلى نهايتها بما يشد المتلقي إلى القراءة، وبنفس الوقت يجد محتوى حكائي قابل للسرد والنقاش، ونفس الشيء نجده في رواية “حكاية صائد الذئاب” وفيها قد استخدم الكاتب رمزية البطل الذي يمثل المواطن الذي يدفع ثمن ما ارتكبته حكوماته السابقة من مغامرات وحروب ضد الآخر، لذلك نجده الوحيد الذي يصارع من أجل استرداد حقوقه المسلوبة من مجموعة كبيرة تتربص به، كما يسعى للفوز بحبيبته هو الآخر أمام منافس قوي له حتى يقع فريسة بيدهم ويتم قتله ودفنه بعيداً عن الأعين، وحتى في رواية “أعتقني حتى أقول كلماتي”، نجد أن البطل على الرغم من هدوءه وصبره وعشقه العذري، إلّا أنه نتيجة طول الانتظار الغير مبرر واللامبالاة يتحول في الأخير إلى انسان ثائر بوجه الأنا/ الهو للآخر المستبد بساديته ونرجسيته.
ولكن لماذا هذه النهاياة المأساوية للأبطال؟ وما الرسالة التي أراد أن يوصلها لنا المؤلف من خلال تلك الأنساق السردية؟ لعل قراءة للتاريخ تفيد أن معظم الأبطال يقعون فريسة بيد أعدائهم وتنتهي نهايتهم بشكل مأساوي مثلما حصل لكل من وليون تروتسكي وجي جيفارا وعمر المختار ونوري السعيد وغاندي وعلي بوتو، والأهم من هذا أنه حتى شعوبهم التي ناضلوا من أجلها تتنكر لهم…
ب – المدخل العاطفي:
شكل المخل العاطفي وتمثلات الحب والغرام حبكة لمعظم الروايات العالمية، ولكن مع اختلاف المعالجة، وأول هذه الأنساق جاءت مع الروايات الرومانسية في الفترة الكلاسيكية والتي عرفت الرواية العاطفية على أنها: “الرواية التي تغلب عليها قصص الحب والمثالية، ولا تلفت إلى مشكلات المجتمع أو الحكم أو المشكلات السياسية الأخرى. وتقوم عقدة الرواية على المغامرة العاطفية، وتتابع الأحداث فيها يعبر عن القلق الوجداني الذي يحيط بأبطال الرواية لكي يتم الوصول إلى تبادل العلاقة المثالية من الحب والغرام.”( )، ولعل هذا التعريف يتوافق فقط مع الروايات التي شكلت الثيمة العاطفية العمود الفقري للرواية، كما في رواية “مرتفعات وذرنج” لشارلوت برونتي، وشجرة اللبلاب” محمد عبدالحليم عبدالله، و”أعلنت عليك الحب” غادة السمان، وقسم منهم تعمد اضافة هذا النسق من أجل عنصر التشويق فقط، كما في معظم الروايات التاريخية والتي لعب المتخيل التاريخي دوراً كبيراً فيها، وقسم آخر في سبيل معالجة فكرة أو رؤية تاريخية أو ايديولوجية من خلال الصراع القائم بين شخصيتين كل واحدة منهما تنتمي لتيار فكري أو ديني أو عقائدي مختلف عن الآخر في سبيل الحفاظ على الهوية، كما في رواية “نادية” للكاتب يوسف السباعي، و”ذهب مع الريح” مارغريت ميشيل، و”في قلبي أنثى عبرية” لخولة حمدي.
وفي سرد الروائي عبد الله السالم، نجد أن المدخل العاطفي بين شخصية البطل وحبيبته مرتكزاً أساسياً في الروايات الثلاث، ولكن من الملاحظ أن رغم العلاقة الحميمة التي تربط بينهما إلا أن الجميع لا يوفق في الارتباط بحبيباتهم، ففي رواية الخانم تنتهي حياة البطل على يد غريمه في حبها، “فجأة وقع المثنى منكباً على وجهه دون حراك، مودعاً حياته للأبد، بدون سابق إنذار، وسط دهشة الخانم التي هرولت إليه مسرعة، وهي تصرخ بقوة، بصوت شق عنان الآفاق، كأنها شعرت أنهم تآمروا عليه، لكن الأوان قد فات.” ( )؛ وفي رواية “اعتقني حتى أقول كلماتي” يفشل البطل في الفوز بحبيبته التي عانى من أجلها واغترب وتحمل المشاق من أجل الارتباط بها بسبب لهاثها وراء العلم والمرتبة الاكاديمية: “لا تريد أن يتعارك لقبها العلمي، مع حبيبها الشعر، تريد أن لا يتقابلا مطلقاً، تخجل أن يعرف الناس أمل العاشقة في طيات الحروف، تريد أن يبقى ستاراً كثيفاً من الظلال على معنى كلماتها…” ( )، حتى تصل الحبكة لذروتها في نهاية حدث الرواية عندما تطلب منه أن يستمع لتبريرها في حوار بينهما:
– قال لها: إلى بلدي… انتهى كل شيء… صرتِ ذكرى، أمنية تلاشت…
– ركضت وراءه، اعتقني حتى أقول كلماتي… أنتَ لم تسمعني بعدُ…
– دفعها برفق، وهو يقول: يكفي انتهى الأمر،…( )
وهنا نجد تزامن الذروة مع النهاية مع تدوير العنوان كتفسير جاء متأخراً كان القصد منه حمل أحداث الرواية وتعبئة أنساق السرد حتى آخرها، وفي رواية “صائد الذئاب” كذلك البطل يتبادل العلاقة العاطفية مع حبيبته التي آثرته من بين كل معارفها، ويغدق عليها عبارات الحب بتحفظ: “قال لها وهو يلتهمها بنظرات الاعتزاز:
– أنتِ من شكل وجدان حمدان الصغير، أنتِ من أعاد خلقه معنوياً… ، لولا ما قمتِ به لكنتُ فارساً منكسراً، وقائداً خسر آخر معاركه…” ( ).
وقراءة عميقة لثيمة الروايات الثلاث نجد هناك نسق مضمر وهو البعد الاجتماعي الراقي للنوع الاجتماعي، فقد أعطى الجبوري دوراً سامياً للمرأة الأم والحبيبة وارتقى بها إلى مصاف متقدمة، فهي الحبيبة والعاملة وربة العمل والقيادية والاستاذة الاكاديمية والمستشارة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
ج- المدخل التاريخي:
يعرف التاريخ على أنه ذلك العلم الذي يبحث في الانسان ومجتمعاته موضحاً كلما يتعلق بالاقتصاد العام والأنماط الفكرية والعلمية، كما أنه عملية وصف لأحوال المجتمعات وتطورها بوصفها مجتمعات حية، وبذلك يصبح التاريخ مسيرة عامة للإنسانية منذ أقدم العصور إلى يومنا هذا( ).
شكل التاريخ بكل حولياته التعاقبية وأحداثة التزامنية مادة خصبة لكتاب الرواية في كل اللغات الانسانية، ولكن بطرق مختلفة من حيث المعالجة والتوظيف، فكتاب الرواية التاريخية أمثال ليوتوليستوي (الحرب والسلم)، والتر سكوت (وايفرلي)، والكسندر دوما (الكونت دي مونت كريستو) و(الفرسان الثلاث)، وجرجي زيدان (شجر الدُّر) و(فتاة القيروان)،… وهنا جاءت الكتابة عبارة عن توثيق تاريخي للشخصيات والأحداث؛ أي قبول التاريخ كما روي، أما الروايات الجديدة التي وظفت التاريخ في نصها فقد كانت عبارة عن قراءة جديدة للتاريخ وفق رؤية الكاتب.
يقول جونثان كولر: “إن التاريخ لا يكشف عن نفسه إلّا في شكل سردي، وفي قصص صممت لتُنتِج المعنى من خلال التنظيم السردي، وهذه الفكرة اعتمدها كل من بول ريكور وهايدن وايت، كما احتفى بها التاريخيون الجدد وكتاب ما بعد الحداثة، فالتاريخ انشاء نصي للماضي وهو انشاء ذو طبيعة سردية وتخيِّلية”( ).
وقد فسر جورج لوكاش( ) العلاقة بين الرواية والتاريخ بقوله: “إن أي مؤلف أدبي أو روائي لا يظهر من العدم، بل تفرزه ظروف تاريخية وسيسيلوجية ملموسة، ولفهم هذا العمل لا بد من دراسة الفترة التاريخية التي شكلت السياق التاريخي لانتاجه كعنصر، وفهم العلاقات الاجتماعية التي عالجتها والتي سادت في تلك الفترة( ).
وتجلت المداخل التاريخية وأنساق السرد في روايات الجبوري الثلاث من خلال استدعائه الرمزي للشخصيات التاريخية والتي اختصر فيها الكثير من الكلام في اجبار المتلقي على الرجوع إلى سيرهم وتفاصيل حياتهم، وقد كان هذا الاستدعاء مرةً اسطورياً مثل شخصية حمدان الجد في رواية صائد الذئاب، ومرة ايديولوجياً كما في شخصيات تشي جيفارا وجون كيندي وجميلة بوحيرد وغاندي وفيدل كاسترو في رواية الخانم، وأحياناً بقصد فني أدبي كما في شخصيات مدام توسو ولورنس ووليم شكسبير وصموئيل بيكيت في رواية أعتقني حتى أقول كلماتي.
“ظلت تتمشى بطيئاً، في أرجاء المتحف، سلمت على شكسبير بحركة من رأسها، لم تتوقف كثيراً، عند بعض الشخصيات، أطلت على ونستون تشرشل وهتلر، وأتاتورك، وبعض الفنانين، توقفت أمام تمثال الأميرة دايانا، لعنت في سرها الأمير جارلس،…”( ).
د – المدخل التراثي:
ورد في القرآن الكريم: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ﴾. الأعراف: الآية 169، كما ورد في الذكر الحكيم: ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ آل عمران: الآية 180.
مادة (ورث) الورث والميراث في المال، والارث في الجاه والحسب( )، وهو في اللغة الانجليزية (Heritage) وتعني ارث، و(Legacy) ميراث، وفي اللغة الفرنسية (Héritage)، و(Patrimoine) ( ) ويعني مجموعة الأملاك الموروثة عن الأب والأم والتي تشكل أملاك العائلة، فهي ارث وملك جماعي للمجموعة( ).
ويعرف التراث على أنه كل ما خلفه الجداد للأحفاد، وما ورثه الخلف عن السلف من مفردات العلم والفن بما فيها مفردات الحضارة والتي تشكل الجذور الحية المتأصلة في ذاكرتنا وتاريخنا( ). ولا يمكن تفعيل التراث والاستناد إلى مرجعيته فكرياً وفنياً الا بربطه بالحاضر ونفض الغبار عنه، لذلك يقول سيزا قاسم: “كي يخرج الفنان العربي من الأزمة التي يعيشها عليه تمثيل التراث تمثيلاً حديثاً، أي أن عليه استخلاص البنيات التراثية واستيعابها ومن ثمة اعادة صياغتها في قالب جديد، بحيث يصبح التراث مصوراً للاستعارات والرموز، والنماذج العليا التي تعبر عن الحاسية العربية الحديثة وتشكلها في آن واحد”( )، وقد استفادت الرواية منذ نشأتها بالتراث من خلال نسقين: الأول هو عملية توظيف مفردات التراث في أحداث الرواية، والثاني من خلال أنساق النص المستمدة من ثقافة المؤلف وسعة اطلاعه، ومن الكتاب الذين وظفوا التراث في سردياتهم: نجيب محفوظ، واسيني الأعرج في (الغجر يحبون أيضاً)، والطاهر وطار في رواية (اللاز)، الطيب صالح في (دومة ود حامد)، بيات مرعي في (زقاق الجمجم).
والروائي عبد الله السالم لم يرجع إلى كتب التراث ومصادره المحلية، فهو ابن بيئة تراثية ريفية، لذلك نجد أنساق التراث حاضرة على طول خط الحبكة الروائية، كما تتجلى أيضاً في هيمنها على شخصية البطل (مثنى الحادي) في رواية الخانم.
وقد ظهرت المرجعية التراثية من خلال الأغاني التراثية الريفية، والعادات والتقاليد، والمعتقدات الريفية، وفي نسق تراثي يقول المؤلف على لسان حال البطل: “آهٍ أيها السارية … آه وألفُ آه … ثم غنى لها الأغنية التي كانت تحبها وهي على فراش المرض والموت: عاين يدكتور .. إلحالي يدكتور، والروح ماتحمل بعد لا سكم لا نوح…” ( )، وهنا كأن البطل يتنبأ بموت حبيبته ليلى أو “ليله” كما يلفظونها في القرية، والتي كان موتها احدى دوافع الهجرة إلى بغداد وترك القرية، ولكن رواسب القرية مازالت متجذرة فيه: ” تعلم أنني امرأة سافرة وحينما قابلتني كنت أمشي وشعري فوق متوني .. ومن أجلك لبست الحجاب .. ومن أجل كبرياءك صرت أمشي خلفك لأنني أفهم أن كبرياءك الريفي يمنعك أن تكون المرأة صنوا لكم .. “( )،
وهنا نجد أن نسق التراث المتمثل بالعادات والتقاليد الريفية قد لعب دور المهيمن السردي على شخصية البطل؛ بينما نجده قد انسلخ من شخصية الخانم بعد أن تمردت على الأعراف والتقاليد القبلية: “هي تقول عن والدها أنه يفتخر بي حين يتصل بها ويقول أنها بألف رجل، وحين يخلو مع أقاربه يسبها ويمقتها ويقول أنها متمردة على قيم العشيرة لأنها تعيش لوحدها”( ).
ه- المدخل الصوفي:
عندما نتحدث عن الأنساق الصوفية في الرواية نعني بها مقدار ثقافة الكاتب في توظيف الدين ومدى التعامل معه في النسق الأدبي، ومن أهم الأنساق الدينية هي التيارات والتوجهات المذهبية للمجتمعات والأشخاص بما فيها العبادات والطقوس المختلفة وطرق ممارستها، وكيفية التوظيف الدرامي للحدث من خلال الترميز والاحالة وزاوية المعالجة ومدى قناعته في التمثيل النسقي للدين في النص الروائي.
والتصوف هو نظرة دينية مثالية للعالم عبر مجموعة من الطقوس تسعى للاتصال بين الله والخالق والإنسان، كما يدعي المتصوفة بحدس الكشف، وهو أسمى أشكال المعرفة، وفيه يتم ادراك الشخص للوجود بشكل مباشر( )، وقد وجد له مكاناً في كل الديانات السماوية والمتقدات الأرضية، وهو في اللغة الانجليزية (Mysticism) معتقد يشير إلى المعرفة المباشرة بالله أو الحقيقة الروحية أو الحقيقة المطلقة التي يمكن تحقيقها من خلال التجربة الذاتية (مثل الحدس أو البصيرة)، والتصوف كنظرية تفترض إمكانية الاستحواذ المباشر والبديهي على معرفة أو قوة لا توصف( )، وقد اشتق المصطلح من اللاتينية (mystes) بمعنى “الغموض” التي حددت في الأصل منشئًا لعبادة سرية أو دين غامض، ففي اليونان في الفترة الكلاسيكية (القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد) وأثناء العصر الهلنستي (323 قبل الميلاد – 330 م)، كانت طقوس الديانات الغامضة سرية إلى حد كبير أو كلي، ومصطلح الغموض (mystes) في حد ذاته مشتق من الفعل (myein) (“يغلق”، وخاصة العين أو الفم) ويشير إلى الشخص الذي يحتفظ بسر( ).
وتتداخل الأنساق الصوفية في رواية الخانم بنسق الحب والتعلق بالحبيب، ونجد هذا التداخل من العنوان “الخانم وآخر مقامات العشق”، فمن المعروف أن المقام مكان مختص بمشايخ التصوف، ولكن الجبوري شاء استبداله بفعل الحب بعد أن بدأه بالحبيبة، يقول الروائي على لسان البطل: “وعلمتها متى تعزف مقامات العشق، … وقرأت لها كل حروف الغزل التي أنشدها الحلاج، وابن الرومي، وابن الفارض، وابن عربي، ورابعة العدوية”( )، وقراءة للرواية نجد أن المؤلف أعاد أصول التصوف إلى اصول هندية( ) عندما حدثنا عن محلة الشيخ بهاء الدين والتي هي عبارة عن عالم مصغر اتخذه الروائي مكاناً مركزياً لأحداث الرواية:
– “أتعرف الشيخ غريب، يا مثنى الغريب؟
– هز رأسه نافياً!!
– كيف !!… انه أحد كبار الأولياء، مدفون في الهند، … انه جدي، وحفيد الشيخ بهاء الدين جدنا الأكبر”( ).
ونجد نسق التصوف والحوارات والأحداث الخاصة به من بداية الرواية حتى نهايتها، عندما شكل شخصية الشيخ هاشم صاحب المتجر الصغير والذي اتخذه واجهة مخفية لإدارة أملاك عائلته في بغداد، والذي جمع شخصية مثنى الحادي الذي عمل معه شريكاً في المتجر ليخفي هو الآخر نشاطه السياسي ونضاله مع رفاقه بهدف نيل الحرية على حد تعبير المؤلف.
شكراً جزيلاً لمجلة بصرياثا الإبداعية وهي تحتضن الكتابات الجادة، وتطالعنا بكل جديد، والشكر موصول لكادر المجلة وعلى رأسهم الأستاذ المبدع البهي عبدالكريم العامري وهو يستقبل النصوص ويهتم بها ويتفاعل معها وهذا ما يعكس ثقافته العالية وفكره النير وجمال روحه.