فراشة الغياب
(خفة درويش في اللحظة اﻷبدية)
1 آذان
كان درويش على المنصة يصدح في ختام الجدارية:
أنا لست لي
أنا لست لي..
تهاوى الجدار، وهو يُدمدم:
– وكيف أكون أنا لي؟ وقد امتلأتُ بكل أسباب الرحيل!!
2 فراشة
أجلسني بقربه في تكساس، قلت له ستشفى، تعود تماما كالعنقاء إلى الحياة..
شد على يدي بقوة، أشار إلى الورق والقلم:
أُكتبْ وصيتي الأخيرة..
سأصير يوما ما أريد
سأصير يوما ما أريد..
3 سرّ
كان درويش يستريح عند بوابة عبور، الجنود يراقبون كل شيء.. عندما شُددت الحراسة قام ثم عبر.. لم يوقفوه، لم ينتبهوا أبدا! استدار بعد أمتار وابتسم لي، على صدره كتبت جملة بهية:
أنا قصيدة..
4 هدف
هنا الأفق، يتحدث عن جبل “نبو”.. كأيّ مكان مرتفع! نبستُ.
ضحك:
– لا.. هنا وقف موسى، يمد قلبه إلى أرض الميعاد، أشار إلى جهة فلسطين. هنا تبكي الكمنجات وأربت عليها بالعودة.
5 أفق
وضع درويش النظارات، ثم أشار إلى مخيم. قال:
– ماذا ترى؟
استغربت وأجبت: مخيم لاجئين!
أزال النظارات وأغمض عينيّ بيديه، ثم أعاد السؤال. صحْتُ:
– لاشيء..
حدق فيّ بعمق:
– تنظر ببصرك فحسب..
6 دورة
سألته أن أرافقه، لف ذراعه حول عنقي:
– هذه رحلة مختلفة، لا تتسرع.. على هذه الأرض ما يستحق الحياة، عندما ستكبر، عندما ستمتلئ بأسباب الرحيل، ستحس أنك لم تعد بعد لك، حينها لن تخيب ظن العدم. سترحل مثلي تماما. أما الآن: لا تخيب ظن الحياة..
7 وعْي
سرقت منه قصيدة خطبة الهندي الأحمر، جلست القرفصاء عند الجدار أتلوها، بينما بقي عند ملتقى الطرق يفتش عنها في جيوب المارة، في ذرات الهواء، في أصوات البارود، الخيل، الطائرات والدبابات.. في كل مكان..
أخيرا انتبه أنها بين يدي. توقفت عن القراءة وخفتُ عاقبة ما اقترفت. اتجه صوبي، ربت على رأسي:
– لا تتوقف، إنها ما قبل الأخيرة..
8 ذوق
أوقفتُ امرأة اشترت ديوانه الأخير:
– عذرا، هل تعرفينه سيدتي؟
– شاعر أحب تحليقه..
هو فلسطيني: قلتُ.
– لا يكتب الكلمات، بل ينحتها: نبسَتْ
– لقبّوه بعاشق فلسطين، همستُ لها.
– عليك أن تستمع إليه يصدح كبلبل، يرفرف، يحلق بالحالمين عاليًا..
قالتْ وابتعدت غير آبهة بي..
9 تفاصيل أبدية
جهزت أم درويش القهوة، أنهت طهو الخبز. دعاني إلى الفطور..
اللقمة الأولى كانت بمذاق التراب
قلتُ: فرن الطين..
اللقمة الثانية، بطيب الزيتون
قلتُ: الحطبات أغلبها قفصات يابسة
اللقمة الثالثة، بنكهة الزعتر
قلتُ: الزعتر سيد المكان
رشفت القهوة، لم أكد أفعل، وجمتُ..
كانت برائحة الشهداء..
لم أقل شيئا وتتبعت خيوط دخانها تتسابق إلى أرواحهم في السماء..
10 محراب
عانق مارسيل العود، انسابت تراتيل أوتاره صلوات.. خشع الحاضرون، أنشد قصيدة درويش. ندفت الكلمات رهبة وسحرا.. تحول المكان معبدا..