يعود متأخرا، يتأبط جريدة وبعض أوراق، يمشي كالسلحفاة، لاشئ يستدعي العجلة، فلا زوجة ولا أبناء يثقلون كاهله بطلبات كل يوم، يأكل ما يريد وينام وقت ما يحب، حياة هادئة حد التوتر لكونها بهذا الهدوء الذي تتجمد بين طياته أي معني للحركة والنشاط، استسلم لتلك الحياة من زمن بعيد، تعود عليها كمن أدمن شرب السجائر رغم إلحاح الكثيرين علي الإقلاع منها، ولكنه أصر علي أن يظل يمضغ أيام عمره بأسنان الوحدة، محافظا بكل قوته علي ماهو عليه، يجلس وحيدا علي المقهى في مكان معتاد يعرفه الجميع دون أن يزاحمه احد أو يتطفّل عليه، فقط كان يقطع عليه صمت وحدته احد المارة عندما يلقي عليه التحية وكان واجباً عليه أن يرد، الجميع يعرف انه يفضل البقاء منفردا علي أن يستأنس بأحد يكدر صفو جلسته بكلمات لا يروق له سماعها , فقط كان يترك مساحة لزيارة أخته الوحيدة إليه , كان يستأنس بزيارتها ولو لساعات قليلة، تفتح فيها نافذة للحياة وتعيد إشراقها من جديد بلمسات حانية، تبدد خطايا الوقت المختبئة بين الزوايا وداخل الشقوق، وتسعده بطعام ينضح بأنفاس امرأة خبيرة بأعمال البيت، تزوجت صغيرة بعد وفاة والدها، تكفل هو بزواجها وإقامة حفل زفافها , فقط كان يطلب منها ألا تفعل شيئا داخل غرفته الخاصة وألا تبعثر الأوراق التي وضعها علي المكتب بعناية شديدة , منذ ذلك التاريخ ظل وحيداً لسنوات طويلة، يتذكرها فتدمع عيناه، حبيبة قلبه الأولى والاخيرة، فتاة ذو أصول عربية ولكنها تحمل الجنسية الفرنسية ، ممشوقة القوام خمرية البشرة تتحدث العربية قليلا كما كان يصفها، أحبها كثيرا وأصبحت جزءا كبيرا من حياته، أو هي الجزء الأكبر فيها، تعوّدت أن تأكل الأطعمة المصرية نزولاً على رغبته، كما أنها بالفعل أطعمة شهية ولها مذاق مختلف عن كل الأطعمة في كل مكان ، إنها بصمة المصري التي لم ولن تتكرر، زيارات متعددة لالتقاط الصور التذكارية بجوار أبي الهول والاهرامات، زيارة للأقصر حيث يقف التاريخ شامخاً وشاهداً علي جمال وروعة المصري القديم , بدأ يتعلم هو اللغة الفرنسية , فاللغة ألام تستطيع من خلالها أن يصل كل ما تقوله بحيويته ونقاؤه وجماله، لذلك حرص هو الأخر أن تتعلم هي اللغة العربية دون كسور، كان يريد أن يستشف منها مدى تعلقها به ورغبتها في كونها زوجة له، توفي والده وكانت هي الرصاصة الطائشة التي قتلت طائراً يحلق في السماء، يحلم بعودته سالماً إلى صغاره ، ويمني النفس بأيام سعيدة قادمة، ترك له والده أخته الصغرى لم تكمل بعد تعليمها الثانوي، فما كان منه ألا أن تنازل كمداً عن كل أحلامه، ويودعها الأوراق التي طالما خبّأ عن الجميع ما تحمل بين طيّاتها، إنها سنوات عمره التي قضاها يحلم بأشياء لم تتحقق.