أذا كان الشعر العربي المعاصر قد لجأ في أحايين عدة إلى الأسطورة , أو الدين , أو التاريخ ,أو التراث الشعبي , فان لجوءه إلى الأدب ,وخاصة الشعر من باب أولى,ذلك أن تجارب الشعراء على اختلاف مشاربهم وأجناسهم,وعلى اختلاف أزمانهم, وأمكنتهم متشابهة ,أو هي على الأقل متقاربة ,يحمل بعضها جذور معاناة شبيهة , أو مقاربة لبعضها الآخر,وقد استقر في وعي الشاعر العربي المعاصر أنه ثمرة للماضي كله ,بكل حضاراته ,وانه صوت وسط آلاف الأصوات ,التي لابد أن يحدث بين بعضها, وبعضها تآلف, وتجاوب، الشاعر(واثق الجلبي) قد وجد في أصوات الآخرين تأكيدا لصوته من جهة , وتأكيدا لوحدة التجربة الإنسانية من جهة أخرى, وهو حين يضمن شعره كلاما لآخرين بنصه، فانه يدل بذلك على التفاعل الأكيد بين أجزاء التاريخ الروحي والفكري للإنسان، وقد أدرك (واثق الجلبي ) أهمية الشعر العربي القديم خاصة ,والشعر الأجنبي عامة, وغناهما بالنماذج الشعرية التي تحمل تجارب شعرية جيدة يمكن إسقاطها على الواقع المعاصر، وقد حاول الشاعر توظيف تلك النماذج في شعره، إذ نرى قصائده الشعرية تفيض بتداخلات نصوصية كثيرة مع الشعر العربي القديم، ومع الشعر الحديث، حاكى فيها( واثق الجلبي ) مختلف الشعراء الوجوديين، والواقعيين، كما وجد الشاعر في الشعر الجاهلي، والعباسي على مختلف مراحله تجارب شبيهة بتجربته الشعرية الخاصة، فحكاها محاورا، ومقتبسا، ومستلهما، ولعل هذه التداخلات النصوصية المتنوعة تشير إلى الثقافة الأدبية الواسعة التي يمتلكها الشاعر الجلبي، وانفتاحه الرحب على مختلف الحضارات والآداب,فنراه يقول :-
قد (غادر الشعراء من مُتردم)
مهلا .. نسيتم شِعركم
فتجمهّرت كل القصائد في دمي
حتى حلمتُ
حتى بكى لفراقكم
شعري وضجتْ بالموارثِ انجمي
إذ غادروا .. في عبقرٍ سُكبوا
وراح أميرهم يبكي
ولم يفت الشاعر الجلبي أن يستغل طاقات كامنة في اللغة، لتكريس تناصه مع فكرة الموت، والفراق، والثورة والحرية فطفق يرسم صورة إنسانية تمثل هلعه، وجزعه من المصير المؤلم، فقد توجه الشاعر إلى الشعر العربي القديم، يبحث فيه عما يلائم تجربته الشعرية ذات النزعة الثورية المتمردة، فاستحضر كثيرا من القصائد، وأعاد صياغتها من جديد، وفق سياق خاص، يلائم رؤيته للشعر، وموقفه منه ,فنراه ينتاص مع الشاعر عنترة بن شداد بقوله :-
هَل غادَرَ الشُعَراءُ مِن مُتَرَدَّمِ
أَم هَل عَرَفتَ الدارَ بَعدَ تَوَهُّمِ
وقد اظهر الشاعر (واثق الجلبي ) براعة فائقة في تعامله مع النصوص الأدبية التي استلهمها، أو امتصها في كثير من قصائده، فقد طبعها بطابعه الخاص، وحملها شحنات دلالية خاصة، وهذا ما نجده في قصائده التي عمد فيها إلى اقتباس البيت الشعري مباشرة من عنترة :-
يا دارَ عَبلَةَ بِالجَواءِ تَكَلَّمي
وَعَمي صَباحاً دارَ عَبلَةَ وَاِسلَمي
ويتحه الشاعر الجلبي إلى أهم شخصية شعرية متمردة على واقعها, وهي التي عانت عذابات الروح، والجسد معا، محاورا إياها، ومستحضرا بعض أثارها الشعرية، تلك هي شخصية الشاعر عنترة بن شداد، فنراه يقول : –
يا دار عبلة .. يا دار مي
يكفيك أن تتألمي
في دار سلمى .. في دار زينب والربابْ
في كل دمعة ظبيةٍ يُرمى كتابْ
حيث القصائد كالنساء
في كل حرفٍ صوتهن كمأتمِ
هل في الديار ملامحٌ لدمٍ قديم ؟
حرفٌ بلا صوتٍ عقيم
هل في الديار مقامها
حلتْ بها أوهامها
حظي الأدب العربي القديم باهتمام النقاد المحدثين , فقد أعلنوا ضرورة العودة إليه بوصفه مادة غنية , وأرضية خصبة مليئة بالإيحاءات والدلالات التي تكسب ,وتمنح التجربة الإبداعية الشعرية تمايزا ملحوظا فريدا, وريادة عظيمة نحو الإبداع ,والتميز, والانجاز بيد أن قراءة الأدب العربي القديم في ضوء نظريات النقد الحديث تتطلب ناقدا واعيا، وقارئا مستوعبا لمفاهيم، ورؤى تلك النظريات، والمفاهيم، لذا يجب عليه أن يكون مسلحا بأدوات المنهج المطب، أو المفهوم الذي يحلل بناء عليه، كما يترتب عليه أن يتفهم الجوانب النظرية كي يستحوذ على النص الأدبي كاملا، ومن هنا سيشرع الدارس بقراءة النص الشعري عند شاعرنا (واثق الجلبي ) قراءة تناصية بوصفها قراءة ذات دلالات أعمق، ورؤيا أرحب، وإنتاج لانساق مبتكرة في التعبير، والفكر داخل النص الشعري ,فنراه يقول :-
حلتْ بها أوهامها
أين النساء الحالمات أين الوجوه المشرقات ؟
هل ضاع ما ألقاهُ كالمتوهمِ ؟
نبأتهم أن القصيدة طفلة
كيتيمة تسعى إلى المُتيتمِ
القول قولُ الإنس .. لا جان يُعطي حلمهُ
أو ينشدُ الأبيات
فبذا يكون الإنس لعبةُ جانهم
ويكونُ محض منوّمِ
ويصيرُ محض مُترجمِ
ليس غريبا أن التناص في شعر الشاعر ( واثق الجلبي) يتطلب قراءة فاحصة وتدبرا ,واعيا للمفردات ,ومعانيها, والتراكيب أثناء دراسة الأبيات الشعرية، لان الشاعر قد تشرب، وهضم أشعار العرب، وفهم مقولاتهم,، واستوعب عباراتهم، وصورهم، وخبر طرائقهم في قول الشعر, فنراه يقول :-
أعطيتُ شعري للعفاريت التي
لفّتْ أساريري كوحيّ المُلهمِ
وتناقلتْ أجيالهم
في عبقرٍ رجلٌ يُعلّم جانهم
أن القصيدة من صميم جهنمِ
لا شأن فيها للعفاريت البعيدة
فالشعر والإنسانُ وجهُ الدرهمِ
هو كل هذا فأعلمي
أني بلا وادٍ ولدتُ
نظم الشاعر (واثق الجلبي) هذه الأبيات الشعرية الرقيقة , وهو يعارض فيها قصيدة عنترة الغزلية ,بدءا عنوان القصيدة تناول بعده الاشاري، والايقوني لكونه يشكل بمجمله علامة تتناسل إشارة وإيقونة , ففيما تشير مفردة هل غادر الشعراء إلى البعد الاشاري بوصفها داخل النص الشعري في بعده المساحي فان مفردة غادر قراءة القصيدة في حقلها الايقوني إلى الحب والغزل والثورة والتمرد وطلب الحرية تتحقق الاستمرارية من جراء الحدوث التتابعي للوحدات التي تتصل بعضها البعض واحدة تلو الأخرى فيتاح لكل جزء من الوحدات الإيقاعية فرصة التفاعل والتواصل، حيث تشتمل هذه الوحدات على التتابع الحركي وتأتي الاستمرارية عبر هذا التتابع متجلية بالحركة الخطية , التي تقوم على التكرار المنتظم، وعن طريق التواصل ,والترابط العضوي بين الأجزاء، إذ لايمكن تحققها في حالة الفترات المكانية الطويلة أو البعيدة بين الوحدات المكونة للتكوين ,وبما يتيسر لها من طاقات تدفعها باتجاه الجزء الأخر منها سيتولد تدريجيا شكلا خطيا مترابطا يعمل على جذب الأجزاء إليه فتبدو الحركة في النهاية في وحدة كبيرة واضحة للعيان قد تكشف عن نفسها في شكل منتظم بسيط أو العكس قد تفصح عن نفسها عبر حركة مركبة بالغة التعقيد مدهشة المظهر، فنراه يقول :-
هم كلما كتبوا .. نزفتُ
هم كلما قالوا .. أذنتُ
فالشعرُ ربُ الشاعرين
والربُ لا يلقاهُ مَيتُ
وجدوا وإن جدّوا المسيرة ما أضعتُ
قد غادر الشعراء من مُتردمِ
ما عاد أولهم بشيء فأفهمي
إلا الخيوط القابضات بمعصمي
فهمو همو .. وأنا مجرةُ أنجمِ
ولابد أن نلفت النظر إلى أن التكرار المنتظم للنواة الإيقاعية، وتكرار الخواص المتشابهة ينتج وحده سواء كان (الحتف، الصوت،،الغربة,الجمال,المدى ) وهذه اللوحة توجد شكلا من العلاقات بين العناصر سواء أكانت متماثلة أو متناقضة أو متقابلة , وهذه الفكرة تتجلى بان التقابل هو أيضا في جوهره علاقة تشتمل أساسا على فكرة مفادها أن ثمة صلة قوية، ورابطة بين الأجزاء في القصيدة الواحدة عند شاعرنا (واثق الجلبي ).