يوم، تكلمت مع الباشا!!
لوصيف تركية /الجزائر
أجلب كل مساء الشموع الملونة لزقاق مظلم، تأتيني الشمطاء العرجاء على عجل تدفع لي وتأخذ ما جلبت تدفع لي بسخاء ،هذا كثير ..
الغواني يردنك أنت ويدفعن لك لأنك تطبق فمك..
أطبقت فمي عن الثرثرة لأن الزقاق الذى يتأفف منه الجميع أجلب منه لقمتي ..
وما نفعي بالثرثرة وقد عرضت بضاعتي على الرصيف، وداستها أرجل الشرطة، سأبقي فمي مطبقا، وأردت تنويعا في مبيعاتي ولكن الشمطاء بدت لي أكثر فطنة وطلبت الشموع ..
كانت زوجتي تثرثر كلما استلقيت وأنا اتابع نشرة الأخبار، لا أرد عليها وكان سؤالها لا يتغير .
ماذا تبيع يا رجل ؟!
أبقيت فمي مطبقا حتى أفتحه متى حضر الطعام ..
مررت على الشباب وتهكموا علي، أنا لا أرتاد زقاق الرومنسية ولكن ..لم أكمل كلامي وأطبقت فمي مخافة ضياع تجارة الشموع ..
أتصور ما يحدث كل ليلة في ذلك الزقاق المظلم الذى انعدم لعمود الكهرباء عند مقتل أنيسة على يد ابنها، بقي الزقاق يعيش الظلام وكل أنواع الرذيلة، ولكن ما يفعل ذلك المسؤول هنا؟!..
شاهدني، وحذرني، من الثرثرة وأطبقت فمي ..
أنا بائع الشموع وهذا ميقاتي الذى أدخل فيه الزقاق ..
اجلبوه..
كما من رمى كيس زبالة، وجدتني داخل سيارة المسؤول وباشر التحقيق معي ..
ما هي مهمتك عدا بيع الشموع؟
هل أنت تتجسس على سولاف !!
هل تعمل لصالح الباشا
يا سيدي أنا بائع الشموع ولا علاقة لي بهذا كله ..
أدمى فمي وكسر آخر سن لي ..
ورماني خارجا..
الشمطاء تأمرني بمغادرة المكان وبعدم العودة وانا الذى اطبق فمه .فهمت ان الشمطاء من تتجسس لصالح الباشا ولكن علي ان أتكلم والآن ..
صحت في الزقاق
أريد الحديث للباشا.. بحوزتي الكثير من المعلومات ..
مثلت أمام يديه..
يا سيدى أنا ابيع الشموع في هذا الزقاق حتى تنعم انت وأمثالك بالرومنسية، اختار الشموع الحمراء الفرنسية ولكن لم اقترب يوما من مدخل البناية المهترئة واريد المساعدة
أحرس لكم غوانيكم وتدفعون لي بدل الشمطاء..
تقصد العجوز ميمونة صاحبة النزل
هل كان نزل ؟
هل ميمونة هي من اخبرت ابن نفيسة عن مكان أمه حتى قتلها بطعنة سكين ..
تسمر الباشا بمكانه وسولاف ،قد تكون في خطر ..
احرس سولاف واخبرني بكل شاردة وواردة ..
يوم تكلمت مع الباشا، صرت لا أطبق فمي وانقل له كل معلومة ،صار لي هاتف وبدلة وسيارة تقلني الى بيتي ..
التحليل النقدي
انبنى عنوان القصة القصيرة للقاصة تركية لوصيف (يوم، تكلمت مع الباشا) بوصفه عتبة نصية على جملة ظرفية بدأتها بـ(يوم) لتعطي ايحاء بخصوصية ذلك اليوم، من خلال تقديمه على الجملة الفعلية، ولتثير انتباه القارئ إلى أهميته، فيتساءل ماذا حدث في ذلك اليوم، ومع أن العنوان يوحي بحدث حصل في زمن مضى إلا أننا نفاجأ بالقاصة لوصيف وقد استهلت قصتها بأفعال مضارعة(أجلبُ، تأتيني، تدفع، تأخذ)، وهذه الأفعال تكاد تكون ديدن القصة وميزتها، بأسلوب جميل، كانت تقصد من ورائه، أن ما سترويه لا يمثل حالة منفردة في يوم ما، وانما هو صورة متكررة حدثت في الماضي، وتحدث اليوم، وستحدث مستقبلا، وهذا ما ذكره بطل القصة(أتصور ما يحدث كل ليلة في ذلك الزقاق المظلم). وهذا الاسلوب يتناسب مع الثيمة التي طرحتها القاصة وتقوم على ثنائية(الثرثرة والصمت)، فعمله يتطلب منه كتمان ما يرى ويسمع، ولكي يحافظ على رزقه عليه ترك الثرثرة وإطباق الفم، وما نفع الثرثرة وقد عرضت بضاعته على الرصيف، وداستها أرجل الشرطة، وهو الذي لم يكمل كلامه رغم تهكم الشباب الذين مر بهم وأطبق فمه مخافة ضياع تجارة الشموع، كما كان هذا مطلب العجوز الشمطاء التي أجزلت له العطاء لقاء سكوته، وهي تقول له:(الغواني يردنك أنت ويدفعن لك لأنك تطبق فمك..)، كما كان مطلب ذلك المسؤول الذي رآه في الزقاق الذي تحدث فيه جرائم القتل، (شاهدني، وحذرني، من الثرثرة وأطبقت فمي ..) حتى في بيته، نراه يقابل ثرثرة زوجته بإغلاق فمه، ولا يفتحه الا عند الطعام، ورغم ذلك نجد الصمت لا ينفع بطل القصة، فيتعرض الى مشاكل متعددة، وكان لزاما عليه ترك الثرثرة والتزام الصمت في مواقف اخرى من الحياة، وكان عليه أن يفتح فمه ويتكلم أمام الباشا، وينقل له كل معلومة، فتغيرت حياته وصار عنده هاتف وبدلة وسيارة.
لقد عالجت القاصة حالة اجتماعية انتشرت بشكل غريب، وصارت مقبولة لدى المجتمع رغم خطورتها، لا بل أن الناس أصبحوا يهابون ويعظمون صاحبها، وتبدلت مقولة (السكوت من ذهب) وصار بدلها التذلل للمسؤول ونقل أخبار الناس الذين يسكنون منطقته، هي السائدة، فعندما أطبق البطل فمه وسكت عما كان يراه تعرض للإهانة والتهكم والقاء بضاعته(الشموع) بالشارع، ومن ثم منعه من البيع وطرده، وعندما صار ثرثارا متملقا للمسؤول وجاسوسا له تغيرت حياته وصار الكل يحترمه.
وجاء طرح الكاتبة بأسلوب تهكمي انبنى على المفارقة الساخرة، ولتعزيز ذاك الطرح نجدها تكثر من الأسئلة، التي بالرغم من أنها جاءت لتكمل متن القصة وتنويعه بجمل خبرية تارة وانشائية تارة أخرى الا أنها تنم على الامتعاض والحيرة ومثال تلك الأسئلة:
ــ وما نفعي بالثرثرة وقد عرضت بضاعتي على الرصيف، وداستها أرجل الشرطة؟
ـــ ماذا تبيع يا رجل ؟!
ــ ما هي مهمتك عدا بيع الشموع؟، هل أنت تتجسس على سولاف؟، هل تعمل لصالح الباشا؟
كما أن ثنائية الثرثرة والسكوت صاحبتها ثنائيات أخرى (شموع ــ ظلام، تأخذ ــ تعطي، أبقيت فمي مطبقا ــ حتى أفتحه، شاردة ــ واردة).
لقد استخدمت القاصة تركية لوصيف اسلوب (السهل الممتنع) ولغة جميلة متسامية ومتنوعة بمفرداتها وهذا ينم عن احترافية واضحة في الكتابة.