كانت اللحظات لزجة تمر ببطيء ,لكن الحديث مع المرضى يشحنها بشيء من التسارع يتسابق مع حركة الكرسي الدوار الذي كنت اجلس عليه,كنت اشعر ببعض الغثيان وكأني في دولاب يدور بعنف مايلبث ان يتوقف لحظة كيما اصغي الى اخر كلمات المريض الجالس امامي.
ومن خارج غرفة (العيادة الطبية) كان صوت الريح يتعثر بالصمت بين الفينة والأخرى,محدثا في نفسي احساسا غريبا اشبه بالاكتئاب أو حالة من الشعور بالضياع .. ربما لأني في تلك اللحظة قد داهمني شعور أني غريب في بغداد . انا طبيب في الثلاثين من عمري باشرت بعملي مختصا بالأمراض الصدرية منذ بضعة اسابيع قادما من (الهوير) وهي منطقة ريفيه تقع على ضفاف الفرات في شمال البصرة.
هي بغداد التي تطوق عنقي في تعقيد صورها واصوات اهلها والتي بدأت تغرس في حنجرتي مفرداتها الغريبة , كنت اشعر اني أتتقهقر بين جدرانها وشوارعها وأسواقها وحتى أصوات متسوليها.
انهيت كتابة (وصفة الدواء) والتمست ختمي الخاص لأمهرها بينما كانت المرآة الصافية الملتصقة في الجهة اليسرى من الجدارتعكس صورة مقبض الباب وقد لمحته يتحرك بهدوء, بعد صدى نقرتين من يد تبدو انها يد خشنة,عندئذ ظهرت يدا كاتب (العيادة) الشاب,علي الكردي ,اقترب مني وهمس بعربية سليمة , وبلهجة بغدادية أفصح من لسان ملا عبود الكرخي :
– دكتور ثمة رجل (مصري ) لديه مسالة
قلت:
-هل هو مريض؟
قال:
– لا
قلت
– ادخله….ولكن ما الامر؟
كان المصري بسحنته السمراء وشعرة الأجعد, لاتخطئ بتمييزه من بين ألف عراقي أسمر البشرة مثله , لكن عندما تسمع لهجته تتيقن أنك في فلم مصري من أفلام أربعينات القرن الماضي, وقف المصري منتصبا بقامتة المتوسطة وتحت جبهته العريضة تنزوي في محجرين عميقين عيناه الذابلتان, وقد ظهرت عليه آثار التعب والسهر, كانت سحنته المحتقنة تشي بأنه مدمن على (العرق*), سلم علي بمنتهى الأدب مع انحناءة بسيطة برأسه, مخاطبا إياي بحضرة البيك الدكتور وبصوته المتلعثم كان بريق الذهب يلوح في أسنانه الأمامية قلت:
– تفضل اجلس
قال:
-لا يا باشا جئت لأستأذنك بالذهاب معي الى مريضة تفاقمت حالتها منذ بضعة أيام
– وأين هي ؟
-هنا قريبا منكم خلف هذه العمارة وهي ( عيانة ) جدا لاتستطيع الحركة
قلت :
-انتظرني خارجا إذا سمحت.
دست زر الجرس فدخل علي الكردي وفي وجهه ابتسامة باهتة بعدما خرج المصري
قلت:
– علي !! تعرف إني حديث العهد بهذه المدينة فماذا تقول فيما قاله هذا المصري؟
قال:
– دكتور الأمر يرجع لك ,ولكن كثيرا ممن كانوا غيرك هنا,كانوا يذهبون معه
كنت أقاوم الحيرة بروح وثابة قلت في سريرتي :
– لماذا لا اصغي لبغداد الان فطالما كانت خيالا تسكر حتى من لم يرها في الماضي وهاهي اليوم اقرب من معطفي إلي سأذهب معه, أشعر أن بغداد تبتلعني باسمها وسمائها وفضاءاتها الصاخبة, وأنها تسرق من تفكيري تسلسل كل شيء,بل تنحت في خيالي اسماءها الكثيرة , أشعر أني لا أعيها, أضيع في ساعاتها,حتى اني يئست من لحظة صحو أعيشها بعيدا عن التأمل والدهشة , ففي كل يوم أرى خارطة جديدة تبعث من أجداثها, فلن تتملكني الغرابة إذا ما رأيت يوما ما (مدحت باشا) يقهقه أو جثمان (منصور الحلاج)يسير في (باب المعظم) أو ألمح تمثال معروف الرصافي يهرول بجوار (مدينة الطب) تاركا زوج نعليه على منصة التمثال.
كانت ليالي بغداد مضيئة , أشد من ضياء باقي مدن العراق والسيارات في الشوارع تسير بسرعة جنونية تبعث على الخوف والغرابة.
وبين هذا كان علي الكردي قد تركني و استأذن بهدوء ,والابتسامة لا تفارق وجهه, كنت اشهد على نفسي بهاجس الغربة وتشظي الوقت الى لحظات مرتعشة لا يمحوها النسيان.
كانت ضربات قلبي تلوح امامي مثل ارتجاف صورة مرآة مهشمة يتابعها صدى رتيب مثل دقات ساعة قديمة.
قلت في سريرتي ..لابأس سأذهب .. وان كنت حديث العهد في هذه الزاوية النائمة في أحشاء بغداد انها (باب المعظم) …. كانت كلماتي أشبه بشهادة كافر وقع في حبائل الموت.
في كل يوم كنت أرى لبغداد صورة ,وفي كل يوم تتغير وجوه المارة وتزيح ألوانهاأمامي, لا أدري هل هذه حدة في بصري أم لأنني أنظر بعين القادم من أقصى الجنوب, صحت متجها نحو الباب :
-علي ..دعه ينتظرني .
أعددت حقيبتي ووضعت فيها عدة الطبيب ونزلنا معا على سلمين حديديين تبدو فيها الدرابزينات متعانقة الى قاع العمارة ,ومن ثم وطأنا الأرض, كان المصري يسير خلفي وكان وجهه أشبه بوجه ثعبان ميت فيما بدت وجنتيه مثل غلاف كتاب قديم داكن, حمل حقيبتي السوداء بصمت تحت ابطه وأستأنف السير خلفي وهو صامت
قلت له ما اسمك ؟؟
قال :
-بيومي
قلت مازحا :
-وما معنى بيومي
قال يعني (العتوي) او الذكر من القطط بلسانكم.
ضحكت من جواب لسؤال لم أظفر بمعناه منذ ثلاثين عاما إذن هو هكذا فحل القطط أو بيومي.
لن أجد عبارة لأرسم صورة الشارع وكيف كانت السيارات تتخاطف فيه فقد كان مساء شتويا في حوالي الساعة الخامسة ,وقرص الشمس قارب أن ينزوي في افق غيبته البنايات الشاهقة ذات العشرة أوالعشرين طابقا, كانت وجوه المارة متعبة ,والأفواه تهمس فيما بينها والصمت يتحدث نيابة عن كآبة الوجوه , في الطريق اجتازني أحدهم , وهو يسير سيرا حثيثا توقف فجأة ليبصق على جانب الطريق واستأنف السير , ثمة شاب آخر أمسك عقب سيكارة يبحث عن مكان ليدفنه فيه ,لمحته يحدق بوجه المصري بريبة ,وربما اختلس نظرة عابرة من وجهي وما إن وجد برميل القمامة حتى رمى السيكارة مع علبة سيكاير فارغة
مرة أخرى تستيقظ بغداد في عيني فقامات الرجال تبدو أكثر اعتدالا وبشرة الوجوه تميل إلى أن تكون متوردة و معظم الوجوه تميل إلى السمنة اما الأصوات الخشنة فكانت تنفلت من أفواههم بهدوء ,وتزداد حدة عندما يلاحظون أحدا ليس بغداديا , كان حرف الدال الزائد الذي يتصدر كل (فعل مضارع )يشعرك بأنك أمام لغة أجنبية,لكنها تحمل بعض العذوبة ,كنت أتأمل سحنات الوجوه التي تدعوا لاستذكار الأمم التي غزت العراق في العصور القديمة خصوصا الترك ,المغول ,لترسم علامات استفهام حول مصير الجينات الوراثية التي استوطنت هنا وعملت لسلطة المغول أو آل عثمان لاسيما عند من يحمل لقبا غريبا لم تألفه القواميس العربية, تذكرت ان اكثرهم يتنصل عن التسمي بعشيرته عندما يعرِّف نفسه , بل ربما فيهم كثيرون ممن لا عشيرة له , كانت الملامح خشنة كاللحى الكثة , والشارب الضخم …. تدعوك أن تستبعد من أن أيًّا من (عدنان)أو(قحطان)تركا أي حمض نووي هنا …..,قلت:
– هذه الوجوه لا تشبه سحنات أبناء بلدتي التي تشبه بقرات يوسف العجاف .
عبرنا شارعين , تقدمني المصري وانعطف يحمل حقيبتي السوداء في درب قصير يؤدي إلى شارع ترابي على جوانبه تترنح بيوت قديمة كالحة , لم تعد عيناي ترى العمارات الشاهقة ولا البناء الجميل, ولا النافورات ولا الحدائق , ولا الشوارع المرصوفة , بل كأننا دخلنا الى مدينة من مدن الكوابيس او عالم من الاشباح ….. ثمة أفراد قليلون يسيرون فيها,لم تكن مثل ماكنت اراه من بغداد, مكتظة بالأنوف والعيون , ومن بعد لمحت بالصدفة أحد الاشخاص يختلس نظرة من فرجة ضيقة في باب صفيح , وقد اغلقه بسرعة حالما أدرك أني لمحته ,هنا ثمة بيوت من الصفيح او اكواخ خاوية وبيوت قديمة.
كانت أكوام القمامة ظاهرة للعيان , و بعضا من قناني (العرق)الفارغة ملقاة في قارعة الطريق , والغريب اني دهشت حينما رأيت ثمة حصان اشهب يقف على قوائمه الأربعة ,وبجنبه تناثرت أكوام من العلف والحشائش اليابسة , وأركنت بقربه عربة خشبية قديمة ذات عجلتين.
تركني بيومي المصري لحظة وهمس بأذن أحدهم في قارعة الطريق , ورجع لي بسرعة واستأنف المسير , ربما شعرت بشيء من الملل من الجدران والأبواب التي تستنسخ بؤسها مرارا وتكرارا,ثمة كرسي أمام أحد الأبواب,ربما تركه أحدهم قبيل مرورنا ومن بعيدخرج رجل متوسط العمر يمسح بيده اليمنى فروة شعره الخفيفة وقد ظهرت عليه علامات التعب,بينما كانت عيناه تلتمعان بخبث , وقد أغلقت الباب من خلفه يد أنثوية بضة.
توقف بيومي برهة ودخل بيتاً قديما بابه الخشبي مطلي بدهان تركوازي ذو مصراعين ,دفع مصراع الباب بهدوء وانحنى مرحبا بي للدخول بإيماءة من يده اليمنى.
دخلت , كان للمكان باحة واسعة, انتصبت فيها بمسافات منتظمة بضعة أعمدة حديدية متآكلة كأنها اشباح موتى مصدورين, تحيطها بضعة غرف موصدة محكمة كانت الباحة معتمة..لم ادرك هذه العتمة , هل هي وهن في نورالمصباح الوحيد الذي يتدلى من السقف ؟ أم أنه بصري الذي لم يتعود على هذا المنظر الذي لن أراه في اي طيف بعد ألف سنة من النوم ,سبقني مرة أخرى بيومي,ليفتح باب إحدى الغرف وأشار لي بأدب جم مرة اخرى:
-تفضل يدكتور.
كنت اسمع بعضا من صدى انفاسي , لكن عتمة الباحة رجعت تثير سؤالا في ذاكرتي , هل إني رأيت هذه العتمة فيما مضى ؟لا أدري…ربما في كابوس أو منام ثقيل , لكنني أصر أني رأيتها,قلت هذه الظاهرة تسمى ظاهرةdéjà vu او الشعور بالمعرفة الغريبة لأشياء لم نرها في الماضي .
كانت الباحة واسعة ,جدرانها ليست من المرمر بل جدران قديمة بعضها يبرز منه اثر الطابوق القديم …. تكدست الصور في عيني ,بين الحيرة وبين الخوف ,الضوء الخافت الذي ينسكب من السقف القديم ,عدد من الرجال يتحركون بنشاط غريب , بعضهم,يرتدي ملابس بسيطة مثل سروال يصل إلى حد ركبتيه,منهم مصريون يرتدون ملابسهم التقليدية ,الصداري ذي الأزرار المتعددة والسروال الطويل , فتيات جميلات وجوههن وضاءة بكامل زينتهن وبملابس شفافة , قلت يا إلهي أي ماء آسن وضعت فيه قدماي؟!, أي قبو من الجحيم انزلقت فيه رجلي؟!
أشار لي بيومي بهدء مرة اخرى
-تفضل يباشا
ربما فكرت ان وعيي تبلد
قلت لنفسي :
-لا ..فقط ..أنا في الجحيم , إذا كانت الباحة الكبيرة قبوا واسعا, فإن الغرفة هذه كانت قبوا أصغر.
دخلت الغرفة وجلست على كرسي خشبي أمام امرأة جلست هي الاخرى على سرير حديدي قوائمه طليت بدهان أزرق , كانت امرأة في السبعين من عمرها , ذات بشرة اقرب الى السواد ربما هي زنجية,كان السرير من طراز اثاث ستينيات القرن الماضي , وبجانبها تراصت بضع وسائد صوفية مشطبة بألوان زاهية لرسوم وجوه ادمية ممسوخة اشبه بالحشرات , كانت فطرة الفنان البسيطة قدغيرت ملامح هذه الوجوه الى اشكال عناكب او صور قمل مثل قمل العانة . ومن خلفها تكدست أعداد من السجاد الملون إلى قرابة سقف الغرفة في جهتها اليسرى.
كانت الألوان تشع بوهن في الغرفة , وتختزل الى اشكال سرية غريبة , تذكرني بألوان و مكائد ألف ليلة وليلة , و في أرضية الغرفة كان ثمة سجادة طويلة ,وبينما كانت المرأة تجلس متهالكة على حافة سريرها,كانت عيناها محمرتان , ولهاثها يسمع من بعيد يشوبه شيء من الصفير ,بينما كانت علب التبغ الفارغة تتناثر في أرضية الغرفة, رجلاها النحيفتان تحاولان أن تستقرا على السجادة التي كانت موشاة بصورة فتاة يعانقها فتى في مشهد مثير ,كانت رجلا المرأة تتحركان بوهن وارتجاف واضحين, الى ان استقرتا على رأسي الفتى والفتاة في السجادة …. سألتها عن أعراض تشتكي منها , وكيف تفاقم وضعها , ومنذ متى و ما هذا السعال , وتحريت عن لون البصاق وكمية الأخلاط , كانت بين الفينة والأخرى تنتابها نوبات سعال منهكة لقواها, يصحبه احمرار في عينيها ,لتتحول شفتيها الكبيرتين إلى أشبه بكتلة مطاط زرقاء. كان الصفير ينبعث من صدرها وقد بدا واضحا لي كوني طبيبا للأمراض الصدرية , ثم لاحظت أنها تعاني من تعب شديد في أثناء الحركة , لدرجة أنها تجد صعوبة في تنفسها , حتى في أثناء الذهاب إلى خارج الغرفة .
انتهيت من فحصي لصدرها فوجدتها تعاني من تليف في رئتيها , سألتها عن فترة تدخينها للتبوغ ,فأجابت أنها تدخن منذ حوالي خمسين عاما, أي منذ أن كان عمرها إحدى وعشرين عاما , في هذا الحال دخلت فتاة جميلة ترتدي بدلة قصيرة وجلست على مقربة منها ولم تنبس ببنت شفة , كانت صامتة و تشعر بشي من المرح , ومن ملامحها تيقنت أنها ليس ابنتهاوربما لاتمت لها بصلة قرابة, كانت تحمل طفلا صغيرا في حوالي السنتين من عمره.
أخرجتُ دفتر ملاحظاتي من حقيبتي السوداء التي حملها بيومي ,ودونت وصفة العلاج, سألت الفتاةعن اسم المريضة السوداء فارتبكت الفتاة لتلتفت وتخاطبها:
-عمه ما اسمك؟
دهشت من تسائلها الغامض, كانت الغرفة صامتة وفي الصمت كانت الاشياء تبدو امامي مرتعشة محاطة بهالات صفر وفيما كنت أتأمل هذا المشهد الذي نحته الصمت والغموض,كانت عيناي تبحثان عن اسرار مخبوءة بين استدارة خدها المصبوغ بالأحمر متجنبة النظر الى انحسار الثوب عن فخذين مكتنزين , والحيرة تفاجئني بألف سؤال وسؤال , عن العلاقة بين وجه الفتاة البض , وبشرة عمتها (الحامية*)الشبيهة ببقايا القهوة العربية ,
اعطيت للفتاة وصفة العلاج بصمت ونهضت متصنعا الهدوء , لكني كنت كمن يهرب من شرخ عميق سيقع فيه, كدت أنسى حقيبتي لولا أنها كانت بين ساقي.
تركت الغرفة ووجدت بيومي ينتظرني بالخارج , لا أكاد أن أرى شيئا, قلت له بصوت تميز الخوف فيه بسهولة:
– أوصلني إلى حيثما كنت بسرعة.
أعطاني بيومي مبلغ زيارة المريض وكان ستمائة دينار, تركت القبو بسرعة لا أكاد أن أسمع شيئاً. كانت حركات الأشخاص بالقبو لا زالت نشطة أما انا فكنت كالغريق الذي تعلق بحبل كنت أمسك الحبل بقوة, كي أصل الى السطح اخذت انهب الطريق بسير جنوني من حيث أدري ولاأدري, كان للخوف عيون واسعة كما قال تروتسكي ,خيوط الظلام بدأت تتشابك, أسرعت بالسير أكثر, صور اللحظات الماضية بدأت تتحرك معي و تتداخل معا , بيومي ورائحة الخمر ,المرأة السوداء , المصريون ,الفتاة الجميلة التي لاتعرف اسم عمتها،
الظلام بدأ يخيم على الشوارع وبدأت الانوار ترتجف من مصابيح أعمدة الكهرباء , وصلت على مقربة من العيادة ,وجدت علي الكردي ينتظرني في باب العمارة قلت بصوت من ينتشل انفاسه :
-سحقاً لك .. أين أرسلتني
أجابني ضاحكا
دكتور ….أما تعرف ….الصابونجية؟
…..
•العرق : نوع من الخمور الثقيلة
•الحاميِّة: نسبة الى حام بن نوح الذي تنص التوراة ان الزنوج من سلالته