….الظلام يزحف ليعشعش في قلبها ، كل شيء مر بسرعة غريبة…تحسست وجهها بشك
لم تدر إلى الآن هل هي واقعة تحت كابوس مزعج أم ترزخ تحت واقع وحشي متمرد…كانت مخدرة تماما …لا تشعر بأطرافها جلست الليل بطوله تتأمل السقف إلى أن حل الصباح.
بالكاد فتحت عينيها ترآءى لها سقف الغرفة صامتا كئيبا…التفتت يمينا لتجد والدتها إلى جانبها مصفرة الوجه شاحبة الملامح والدموع تملأ مقلتيها
سألتها: أماه…هل رحل حقا أم أنني كنت أحلم وحسب؟!!
ربتت الحاجة على كتفها وأردفت قائلة: لا تقلقي حبيبتي كل شيء سيكون على ما يرام …الآن صحتك هي الأهم يا ابنتي.
ساعتها دخل الطبيب الغرفة وجلس على الكرسي المقابل لها وقال بصوته الهادئ:
حمدا لله على سلامتك سيدة عفاف…كيف تشعرين الآن؟!!
أجابته قائلة: أحس أن جسدي يرتج ارتجاجا غير مألوف.
أردف قائلا: يبدو أن تأثير المخدر بدأ يختفي سأغير لك الضمادات…وأشار إلى الحاجة أن تساعده في إزالة الغطاء عنها.
ظلت تنظر إليه وفجأة انهمرت دمعة حرى على خدها الأيسر أسرعت لإخفائها …استدركت نفسها وسألته: بالله عليك دكتور أبو جاد هل بامكاني الوقوف والمشي مجددا أم أنني سأبقى على هذا الحال طول حياتي.!!
بقي صامتا لوهلة بعدها أدف قائلا: هذا قدر الله سيدة عفاف والحمد لله أنك لا زلت على قيد الحياة فالحادث الذي تعرضت له كان مأساويا جدا….
الله معك…قالها وهو يهم بمغادرة الغرفة .
رفعت أكفها للسماء قائلة: رب أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها ….
….مكثت في المشفى ما يزيد عن الشهرين وحالتها تزداد سوءا خصوصا بعدما علمت من إحدى صديقاتها التي جاءت لزيارتها عن نية أحمد – زوجها- رفع دعوة طلاق عليها لأنها لم تعد تصلح ” وكأنها آلة كهربائية خربت” …فكيف له أن يعيش مع إنسانة مقعدة ويدفن نفسه بالحياة معها….لم تصدق ما التقطته مداركها السمعية حتى دخلت في موجة بكاء هستيرية …كيف له أن يتركها بعد كل هذه السنوات التي قضياها معا….بعد أن أصبحت في عداد المقعدين…رباه أغثني وكن لي عونا….تركض الأسئلة في رأسها كجواد جامح لا يهدأ مرت ساعة ونصف وهي مسمرة في مكانها لم تنبس ببنت شفة من هول الصدمة.
أتى الطبيب فلاحظ شرودها من تعبيرات وجهها وكأنها تحدث ذاتها…أردف مستبشرا: سيدة عفاف ستغادريننا عشية اليوم وأشار إلى الحاجة ” فاطمة” : إن احتجت إلي يا خالة ما عليك إلا أن تتصلي برقمي الشخصي سأحضر في أي وقت تريدين.
عادت للبيت رفقة والدتها وهي في حالة يرثى لها…أغلقت باب غرفتها وبدأت تذرف الدمع تلو الدمع وكأن دموعها تعزف سمفونية الفراق….
ومع مرور الأيام أصبحت حالتها سيئة للغاية خصوصا بعدما حكم القاضي بطلاقها من أحمد.
حاولت والدتها بشتى الطرق الممكنة أن تخرجها من عزلتها تلك…قالت لها ذاك اليوم بعدما رفضت أن تفتح لها باب الغرفة : عليك أن تتعايشي مع فكرة أنك قابلة للترك والنسيان في كل مرة تظنين أنك ثمينة لديه…وكل الذي وقع لك حبيبتي ما هو إلا ابتلاء من المولى تبارك وتعالى فالمؤمن مصاب عليك أن تكوني صابرة محتسبة حتى في الوجع يا ابنتي والحمد لله أن ظهر على حقيقته في نهاية المطاف عليك…ففراق البعض يحتاج لسجدة شكر ….
في إحدى الصباحات الباردة تماما كما حياتها الباردة الجافة …قررت الانتحار هكذا ودون أي سابق إنذار منها…ودون أي تردد قررت أن تضع حدا لحياتها…أن تضع حدا لهذا الموت البطيء الذي ينخر جسدها النحيل يوما بعد يوم ، لم تعد تبالي ولم تعد تخش شيئا. …
وبينما هي تحاول تمزيق وريدها دخلت عليها والدتها على حين غرة منها وانتزعت المشرط من بين يديها ورمته أرضا : استهدي بالله يا ابنتي ماهذا الذي تودين فعله عفاف !!
ردت عليها بحنق: لقد مللت هذا الوضع أماه أنا أتألم بشدة ما عدت أستطيع التحمل أكثر الألم يقطع أوصالي…أشعر بوجع يستحوذ جسدي بكامله أحاول جاهدة تجاهله…لكنني لا أستطيع…لذا يجب علي انهاؤه وانهاء نفسي…
المرض مؤلم والألم قاس جدا…والذكريات تزيد الطين بلة وتتحرش بي في لمحة خاطفة…أنا السبب في كل ما يحصل معي …فمنذ زواجي به وأنا أتآكل من الداخل …عشر سنوات مر فيها الصيف بحره والخريف اصطبغت ألوانه على كياني وجاء الشتاء عاصفا ببروده ولم يأت الربيع بعد….فمتى يزهر قلبي متى!!!…وروحي تعربد بها لوعة السنين أماااه.
ضمتها إليها بشدة وأردفت قائلة: اسمعيني يا ابنتي أنت تحتاجين لعزلة تجدين فيها روحك وتستعيدين نفسك بعيدا عن ضجيج الحياة اليومية…حيث الهدوء وراحة البال…ما رأيك أن نذهب في عمرة الشهر القادم أعتقد أن الأمر سيكون فاتحة خير عليك…
ما أن وطأت قدماها الأرض المباركة بالثلث الأخير من الليل وقت التجلي الإلهي والنزول الرحماني شعرت بالكعبة أمامها تمنحها النور ساعتها غسلت روحها وهدأت نفسها وعاد قلبها إلى بوصلته الحقيقية سجدت هناك سجدات لم تذق مثلهن من قبل إحساس وخشوع فريد أن تسجد لله
أول مرة في حياتها تحس فيها بالانتماء حيث وجدت نفسها نفسها في هذا المكان رغم اختلاف العرق والثقافات والجنسيات واللغة والبلاد لكنهم كانوا يفهمون بعضهم من غير كلام قلوبهم على بعض بينهم تواصل معنوي واضح للعيان الكل يساعد يخدم يواسي مواقف الإحسان والرحمة هناك تركت أثرها الكبير في نفسها
حقا كانت رحلة شفاء وتجديد إيمان وشكر على نعمة الإسلام رحلة العمر رحلة التعافي أحلى أيام عمرها رحلة الحياة التي تبقى محفورة في الذاكرة تذوقت خلالها حلاوة الإيمان في بيت الله الحرام بمكة المكرمة والمدينة المنورة عاشت مناسكها لحظة لحظة تطوف وتسعى وتلبي إحساس رائع أن تكون في بيت الله قريب منه اللهم امنحها لكل مشتاق وزد في إيماننا والتقرب إليك.
بزغت الشمس كقبلة على ثغر الصباح الباسم فأماطت اللثام عن سحب بيضاء تزين كبد السماء …الأرض يكسوها رداء مخملي أخضر فاتح وأصوات العصافير تنساب شجية من بين الأشجار كان الجو يعبق برائحة أزهار الأقحوان عندما جاءها أخوها يوسف واقترح عليها أن يذهبا لزيارة الدكتور أبو جاد
من توها دلفا الشارع بخطى حثيثة السكون يملأ المكان كله وصلت الحافلة فاستقلتها دون تلكئ منها أخذت مكانها كعادتها بجانب النافذة …وفي العيادة لم يصدق الدكتور للوهلة الأولى ما رأته عيناه فقد جاءته تمشي على قدميها بعدما أجمع جل الأطباء بمدينتها أنها لن تستطيع الوقوف مجددا بله المشي لكن يقينها بالله تبارك وتعالى فاق جميع التوقعات وبعد اخذ ورد في الكلام معها طلب منها الدكتور أبو جاد أن تجري بعض الفحوصات ليتأكد بنفسه من أن فقرات عمودها الفقري لم يعد بها بأس خرجت من فورها إلى اقرب مختبر هناك حيث أجرت تلك التحاليل والفحوصات وبعد ساعة تقريبا عادت وفي يديها نتائج الفحوص…
أخبرته حينها أنها حينما كانت تؤدي مناسك العمرة ابتهلت لربها كثيرا أن يشفيها شفاء لا يغادر سقما وأن يعيد عليها صحتها مع كل نفس تتنفسه مع كل سجدة ومع كل تلبية.
أردف قائلا: كرم الله لا حدود له سيدة عفاف…فعلا الله تعالى إذا أعطى أدهش, وأنت إنسانة مؤمنة بقضاء الله وقدره فالحمد لله على نعمه الجزيلة,
وفي طريق عودتها إلى البيت صحبة أخيها يوسف استوقفهما رجل قصير القامة أصلع أملط وجهه دائري وبطنه منتفخة يرتدي سروال جينز قصير التفتت إليه فوجدته طليقها أخذت تنظر إليه بحسرة بعدها استدركت نفسها مدت يدها إلى حقيبة يدها وناولته بعض الدراهم وأكملت طريقها…..