ريح بها هلكت عاد بما فعلت إلى مدائن روحي الله أرسلها
تقدم الورد في نصل العبير إلى روحي ليبدي لها في الليل مقتلها
ماذا أقبّل ثغري واحد وأنا أحتاج خمسين ثغرا كي أقبّلها
يتخذ الشاعر وليد الصراف في ديوانه الذي بين أيدينا من العراق عموماً والموصل خصوصاً مكاناً فضائياً بزمن مفتوح وحدث معوم وحالة شعورية تعبر عن الأسى في مخاطبته للعراق، بينما تعتريه حالة الحماسة عندما يشير لمدينته الموصل، لذا يدعوها بالعنقاء التي ما أن تهبط إلى الأرض حتى ترتفع إلى عنان السماء، كما يصفها بالناي، وينعتها بالجمال ويتغزل بها في أحيان أخرى، ولكن فضاءه لا يقف عند هذا الحد، بل تجد مدن عراقية أخرى حاضرة في قصائده، مثل بغداد وحديثة والحضر، وكذلك مدن عربية مثل حمص والاسكندرية وشنقيط ودبي.
من هو وليد الصراف؟
قبل أن أبدأ في قراءة الديوان وتحليله، وجدت فسحة للتعريف بالشاعر وليد الصراف وإن كان من الصعب حصر شخصية مثل الصراف الشاعر والطبيب والانسان في عبارات أو جمل، فمن هو وليد الصراف؟ هادئ ومبعثر، رحالة وتائه، ثائر بصمت وعاشق باستحياء، حالم بهدوء ومبدع بصخب، متخيل بعمق وواقعي مضطرب، مأخوذ بعمله متيم بمدينته، فهو مسروق بشكل دائم، يتجنب الأضواء ولا يخش الاحتراق، يسترق الوقت ويتأبد الشعر، يحنوا للقراءة وتضطهده الكتابة، تشهد له المنابر والمحافل أكثر مما تشهد له الأقلام والورق، يروي قصصه على استحياء حتى يعتذر من شهرزاد، يرتجل أشعاره ليخمد نيرانه، يصدح بأشجان أهله ولا ينسى أُمَّتَهُ، يحرص على وزن الكلمة بميزان الذهب لكنه يهضم الأحداث بعشوائيتها، على طاولته تزدحم الأوراق والأقلام، تتواشج مشارط الجراحة وعلب العقاقير مع دواوين الشعر: عنترة وأبي تمام والمتنبي وابو البقاء الرندي والسياب والجواهري وشاذل طاقة.
وأخيراً وجد لنفسه فسحة من الاستسلام، أو قل محاكمة، ولكن أية محاكمة وهو عاقد لوائها ومحاميها والقائم على دستورها، ومرافعته الأخيرة ارتأى أن يبرهنها من خلال “رسالة من قابيل”) ( عنواناً رمزياً يحدد ماهيات النظم المعرفية والاشارات الأسطورية التي يتكئ عليها، كما يسعى الى ايجاد وشائج لمعادلة الكم والنوع التي يصوغها بحدث تام سرمدي يبدأ مع بداية عهد الخلافة البشرية للأرض، ويمتد الى آخر جريمة تحصل على ظهر البسيطة.
عنوان الديوان “رسالة من قابيل” عبارة اسمية تتشكل من ثلاث مفردات الأولى “رسالة” محددة، والثانية “من” حرف جر محدد ثاني، ثم “قابيل” التي شكلت راس العبارة على حد تصنيف كويرك (Randolph Quirk)) ( النحوي، والمحدد الأول عبارة عن محدد صفة، بينما الثاني محدد الجهة المرسلة، في حين كان “قابيل” الفاعل/ المرسل ورد هنا كرمز متناص/ اسطوري مهيئ لعملية التناص/ الأسطرة المتشكلة في بنية القصيدة.
التناص ومفردات القصيدة:
يعد مفهوم التناص من محاور تحليل الخطاب في علم اللغة الحديث، لذلك درسه علماء اللغة والخطاب منذ القدم، وفي اللغة العربية يترادف المصطلح مع عبارات مثل السرقة الأدبية وتوارد الخواطر والتضمين، ومنه تناص الأشياء؛ أي: تقابلَت واتصلَت، وتناص الناس: ازدحامهم، وتَنَاصَّ النَّاسُ: ازْدَحَمُوا، تناصَّ: تَنَاصَّ، يتَنَاصُّ، مصدر: تَنَاصٌّ {ن ص ص}، (فعل خماسي لازم)؛ أمَّا في النقد الأدبي فهو مصطلَح يُقصد به وجود تَشابه بين نصٍّ وآخر، أو بين عدَّة نصوص) (.
وهو لدى علماء الخطاب أمثال جوليا كرستيفيا وباختين وجيرار جينت ورولان بارت عبارة عن تداخل في النصوص، لذلك أشاروا عليه بمصطلح (intertextuality) وحسب تعريف قاموس مريم ويبستر: التناص عبارة عن علاقة داخلية معقدة بين نص وعدة نصوص أخرى تُأخذ بشكل أساس على أنها مرتكز لخلق نص آخر أو تفسيره) (، وأول ما عرف بهذا المفهوم عام 1972، وهو في الأساس مشتق من اللغة الفرنسية (intertextualité)) (، وقد عرفته كرستيفيا على أنه التقاطع والتعدي المتبادل بين وحدات عائدة إلى نصوص مختلفة، ثم وصلت بعد حين الى أن كل نص هو تسريب وصدى لنص آخر) (.
التناص القرآني: وهو عبارة عن اعادة قراءة النصوص المقتبسة في ضوء النص الجديد الراهن، واعادة صياغتها، وقراءتها في إطار جديد ونص جديد، فالنص الأدبي متعدد الدلالة والأصوات فيه صوت الشاعر الرامي ربما إلى التعبير عن اديولوجيا، وموقف من الواقع والواقع والأحداث وتعليقه عليهما من خلال اختيار نصوص محددة) (.
ولكن في القرآن الكريم وردت الحادثة في سورة المائدة، بسم الله الرحمن الرحيم: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}.
وقراءة لنص القصيدة نجد أن الشاعر قد ضمن قصة قابيل وهابيل الواردة في القرآن الكريم في قصيدته:
وكان قرّب قربانا تقبّله منه وردّ عليّ الله قرباني
وكاد لي عند أمّي مرّة وأبي فصدّقاه ولم يصدقْ ولاماني
وأوّلاً كنتُ لكنْ كان يسبقني زوراً ويجعل مني الاوّل الثاني
وظل يهمس حدّ القتل في أذني: من قد تعشّقتَ ياقابيل تهواني
ألقمتُه وهو ساهٍ صخرة وقعت على الجبين فسال الأحمرُ القاني) (
ونجد أن القاتل هنا لم يكن مصراً على جريمته ويتضح ذلك من خلال الندم الذي تملكه بعد قتله لأخيه:
قابيلُ اين أخوك َ؟ االليل يسألني ويغمد النصل في بوحي وكتماني
فأستجير بإيماني وقد وقفت جند من الشك صفّاً دون إيماني
ألم يمت؟ من أعاد اليوم صورته؟ ام خالد هو؟ ياللخالد الفاني
ابي وامي اذا غطّت صنيعهما وريقة التوت من دوح ببستان
فكل ماتنبت الأشجار من ورق في الدهر ليس يغطي عار عدواني) (
وهنا نجد ان الشاعر قد اوجد وسيلة تناص بين قصيدته والنص القرآني في حادثة القتل فقط، ولكن المعالجة كانت من زاوية أخرى بينت شجاعة الشاعر في صياغة رؤية عميقة وبليغة وحداثية في نصه، فهنا نجد قابيل ـ بطل الشاعر ـ يعد بريء من جريمته في مقارنتها مع الجرائم التي أرتكبت وترتكب على سطح الأرض منذ جرائم فرعون وفساد وزيره هامان، ومجازر هولاكو وخيانة ابن العلقمي، مروراً بالحروب وتجار الأسلحة المتطورة، والتي تسعى لإبادة الجنس البشري وتهجيره وتغيبه بشتى الوسائل من حروب وصواريخ بالستية ونزاعات طائفية وأوبئة ومجاعات… الخ.
ياشاتميّ اذا كنتم ملائكة حقا فما خطب فرعون وهامان؟
وهل تسلل هولاكو ومن معه من وجر سرحان أم من جحر ثعبان؟
هل الخناجر والنبل التي اختضبت والسيف والرمح ألعابٌ لصبيان؟
هل صخرتي بلغت صاروخكم وشأى أدنى طغاتكمو في الارض طغياني
البعض يذبح محتجا بأديان والبعض يذبح محتجا بأوطان
كانت جرت قطرات من دماء أخي وها هو الدم بحر دون شطآن) (
الأسطورة والشعر:
والأسطورة (Myth) تعرف على انها قصة شعبية تسلط الضوء على حدث في التاريخ القديم، أو على معتقد سيسيو ثقافي لمجموعة من الناس، او تعطي تفسيراً لحدث في الطبيعة) (، وهي جنس أدبي خاص يقترب من القصة والرواية والسيرة، والعلم المختص بها هو علم الأساطير (Mythology)، والشعر (Poetry ( عالم قائم بذاته يقترب من الملحمة، ويصنفه أرسطو من ضمن العلوم الانتاجية لكل ما يمكن أن ينتجه الإنسان من عوالم ابداعية كصياغة الشعر والخطابة) (، ولا يرى أرسطو أي اختلاف بين الفنون المختلفة من شعر ونثر وموسيقى ورقص وغناء سوى المادة المستخدمة وعملية المحاكاة) (، ولكن مع تقدم العلوم الإنسانية وظهور نظريات التجنيس الأدبي (Literary Genres)، وعلم المناهج (Methodology) أصبح لكل فن من الفنون أساليبه وتقنياته، ولكن مع ظهور الحداثة عادت مرة أخرى ظاهرة تداخل هذه الأجناس فيما بينها من شعر ونثر وسرد، بعد أن ظهر النص العابر للحدود والذي ضرب قوانين حراس الحدود عرض الحائط.
وعملية الأسطرة (Mythologalization) بقدر ما تعني توظيف الاسطورة في النص الشعري، أو السردي أو النثري، الى أنها تشير الى عملية اقحام كائن أدبي وحشره في كائن آخر بعملية فرض من الخارج، فالمصطلح السابق يتكون من ثلاث مقاطع نحوية (Morphemes)؛ الأول (Myth) الأسطورة، والثاني (Logy)، علم مأخوذة من لوغوس (Logos)، والمقطع الأخير (ization) مقطع نحوي ملحق غير ذي معنى، لكنه دلالياً يحمل معنى الإقحام من الخارج، أي تداخل نصين مع بعضهما بناء على معالجة درامية من الكاتب بنظام معرفي وقصدية وغرض يعتمل في نفسه.
لعل من أسباب توظيف الأسطورة من قبل الشعراء العرب هي تحقيق هدفين أساسين: “أولهما هدف سياسي؛ اتخاذ الأسطورة قناعاً وقائياً يحميه من عين الرقابة، ويدع مسافة مجازية بينه وبين السلطة، إذ اختبأ الأديب وراء كنانة الأسطورة، ورشق من خلالها أعداءه أو خصومه بسهام الرفض والاحتجاج) (، وثانيهما سبب فني وهو تحرير النص الأدبي من أسوار البلاغة القديمة التي تقوم على السجع والزخرف اللفظي والمبالغة واختبار الذاكرة في حفظ الغريب”) (، لقد شكلت الأسطورة قناعا رمزيا لدى الشاعر بوصفها تحدياً للتابو السياسي في بيئته التي مازلت تعيش تحت وطأة غياب حرية التعبير، وتعد المساس بهذه المفردة، أو محاولة إختراقها مغامرة محفوفة بالمخاطر.
لذا وجد الشاعر في الأسطورة منجمًا ذهبيا قادرًا على تخزين اللاوعي الجماعي الانساني وإعادة إنتاجه بصوَر وتمظهرات مختلفة، فلا حقيقة واحدة فيها ولا حقيقة مطلقة، مما يتيح المجال واسعًا أمام الشاعر الذي احتاج غالبا للتكثيف والترميز، إزاء تغرّبه عن واقعه حينًا، أو إزاء رغبته في التعبير عن واقعه المشوّه أحيانا مستعينا بالرمز الأسطوري لخلق عالم أقرب للكمال المتخيَّل) (.
وقد استقطبت أسطورة قابيل اهتمام الأدباء خاصة في الفترة الرومانسية، إذ كان نموذج الفرد الثائر المتمرد على لوائح الخير والشر كما نلمسه في مسرحية بيرون (قابين)، كما استثمره الشاعر الفرنسي البرناسي لو كونت ليل “Le conte lisle” ، والشاعر الرمزي الفرنسي شارل بودلير لـ “يعبّروا به عن بعض مظاهر حيرة الإنسان وثورته على ما يراه ظلما وتمرده الميتافيزيقي، وضلاله في سبل لا يهتدي إليها بفكره، في حين هو مسوق إلى السير فيها، ثمّ عن بؤسه حين يتخذ عقله وحده رائداً له، وربَّما يصبحُ التاريخ نفسه أسطورة لدى جيلٍ من الأجيال، كشخصيَّة الحلاج والمسيح عيسى بن مريم مثلًا، هي شخصيات تاريخية لكنّ بُعدَها الإنساني ومدى تأثيرها في الفكر العربيّ يؤخذ بشكلٍ أسطوري يفوق التصوُّر.
واسطورة قابيل وردت في التوارة ” فقام على أخيه هابيل في الحقل وقتله، فقال الرب قابيل أين هابيل أخوك؟ فقال لاأعلم؛ أحارس أنا لأخي. فقال: ماذا فعلت؟ صوت دم أخيك صارخ من الأرض، فالآن، ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك. متى عملْت الأرض لا تعود تعطيك قوتها، تائهاً وهارباً تكون في الأرض.” ) (، وهنا نجد أنها وردت بصيغة نفي قطعي من قايين (قابيل) في ارتكابه لجريمة قتل أخيه ونفيه القاطع لعلمه بالجريمة، وهذا يعني أن القاتل مصر على جريمته، فيما تعد حادثة القتل خطأً فادحاً في الديانة المسيحية، عندما اعتبرها الانجيل خطأ مكملاً لخطأ آدم وحواء وخروجهما من الجنة، وكذلك خطأ صلب المسيح.
الشخصيات التاريخية
يعمد الشاعر إلى استدعاء الشخصيات التاريخية ذات التكوين الملحمي والتي تمتلك السلطة والقوة ولا يدانيها أحد في ذلك، كبديل للترهل السلطوي والاداري الذي نشهده اليوم، وهي تقنية وظفها عدد غير قليل من الشعراء الغربيين وعلى رأسهم الفريد تنيسون (1809ـ 1892م) عندما استدعى شخصية الملك آرثر عندما كتب مجموعة من القصائد الرومانسية بتاريخ 1842م؛ وهو العام الذي شهد فترة الحكم الفكتوري وما شابه من فساد وترهل سياسي واداري واقتصادي، والقصائد الثلاث واحدة عن المدينة بعنوان “سيدة شالوت”، والثانية بعنوان “مقتل الملك آرثر”، والأخيرة بعنوان “الفارس لانسلوت والملكة غوينيفير”.
يقول تنيسون في قصيدة “مقتل الملك آرثر”
وهكذا طوال اليوم رحى المعركة تطحنهم
بين الجبال وعلى بحر الشتاء؛
حتى مائدة الملك آرثر، رجل برجل،
سقطوا في ليون عن ملكهم،
آرثر
ولأن جرحه كان عميقا،
الفارس الجريء بيدور رفعه،
وإلى كنيسة قريبة من ميدانهم حمله،
مذبح مكسور وصليب مكسور،
الذي يقف على مضيق مظلم من الأرض القاحلة:
على جانب واحد يقع المحيط، وعلى جانب آخر
وضع ماءً غزيرًا، وكان القمر بدراً.
ثم تحدث الملك آرثر للسير بيدفير:
“مقاتلوا اليوم ليسوا جنوداً
أفضل زمالة الفرسان المشهورين
حيث يحمل هذا العالم سفراً مثل نوم
لقد نام أولئك الرجال الذين أحببتهم.
أعتقد أننا لن نستمر، وفي أي وقت في المستقبل،
أبهجنا نفوسنا بالحديث عن بطولات الفرسان،
نتجول في الحدائق والقصور
لكاميلوت كما في الايام الخوالي.
أهلك على يد الشعب الذي صنعته، –
ولكن ميرلين أقسم أنني يجب أن أعود مرة أخرى
للحكم مرة أخرى ؛
ولكن، دع ما سيكون، يكون”) (
وهنا نجد أن الشاعر تنيسون قد ذكر عدد من الشخصيات التاريخية ذات حضور اسطوري في القصيدة، منهم العراف ميرلين الذي تنبأ للملك آرثر بأنه سيعود يوماً ما للحكم في حالة حدوث فساد للسلطة وتدهور في شؤون الحكم حسب ما تذكر الأسطورة التي مازالت تروى بثلاث طرق في ويلز وانجلترا وسكوتلندا، ونجد ان الشاعر وليد الصراف قد استدعى شخصية الحجاج والي العراق في العهد الأموي بعملية توظيف اسطورية مع تناص مفرداتي لخطبته الشهيرة عند تسلمه الولاية في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان، يبدأ القصيدة بديباجة التهديد والوعيد لأهل العراق، وهو هنا لا يقصد العراق وحده كمكاناً يعول عليه، بل يخاطب كل البلدان العربية التي تعيش حالة الفوضى والترهل والحروب الأهلية، يقول الشاعر:
أهل العراق أنا كفء لمن حقدا ومن أراق دماً منكم ومن وأدا) (
ثم يبدأ بالتناص في بقية القصيدة مع خطبة الحجاج فيستخدم مفردات وعبارات مثل: “أهل النفاق، أهل الشقاق، أرى رؤوسكم قد أينعت…”، وهنا نجد عملية الاستدعاء الاسطوري لغرض وقصدية كما فعل الشاعر الفريد تنيسون في قصيدته الواردة أعلاه.
الحدث وفرضية الاشتغال
تنوعت أساليب الشعراء والكتاب في أسطرة النص، فمنهم من يسعى الى ايراد الاسطورة كنص مروي بحدث تام داخل نص بحدث آخر مثل ابراهيم الكوني في رباعية الخسوف، ومنهم سعى الى ترميزها بحدث واحد متداخل فيما بينهما فتداخلت الثيمة واشتبكت على المتلقي فلا يدري أيهما يتحدث؛ الرمز أم الأسطورة وأي حدث يلتزم منهما، وخير مثال على هذه التقنية “مصاطب الآلهة” للقاص محمود جنداري، ومنهم من سعى الى الاشارة اليها فقط في العنوان بحدث متصل من خلال اشارة تلميحية لحدث في الزمن الماضي مثل “زانقبا أمورو” للشاعر رعد فاضل والذي وظف فيه مقطع من ملحمة جلجامش بنظام معرفي يشير لعمق الحضارة والثقافة التي ينتمي لها الشاعر، و”سيرة ليست لهولاكو” للدكتور احمد جار الله ياسين، كعملية نفي زمكانية ينأى بها الشاعر عن السلطة، كما فعل الشاعر هشام عبد الكريم في قصيدة يحيى ابن يوغان.
تشير مفردة الحدث الى مفهوم زماني متصل مكانياً عبر مجموعة من الأفعال تشكل الأبعاد الفضائية في سبيل تحديده، وصياغته ومعالجته. وهو كمفهوم فلسفي يقسم من حيث الدراسة المنهجية الى قسمين:
أـ الحدث اللغوي (Aspect):
تعتمد دراسة الحدث في علم اللغة على زمن الفعل وصيغته الصرفية بصرف النظر عن ارتباطه بالفاعل، لذلك فقد قسم علماء النحو الحدث الى ثلاثة أقسام رئيسية:
1. الماضي: ويقسم الى ثلاث أنواع:
ـ البسيط: حدث في الزمن الماضي وانتهى تماماً.
ـ المستمر: حدث في الزمن الماضي وانتهى بعد أن استغرق وقتاً.
التام: حدث في الزمن الماضي وانتهى لكن تأثيره ما زال قائماً، مثال: لقد فقدت نظارتي، وهنا يشير الفعل الى أن الحدث (الفقدان) قبل شهر أو اسبوع أو يوم، ولكنه لا يستطيع القراءة الآن.
ـ التام المستمر، حدث في الزمن الماضي واستغرق مدة زمنية ولا زال تأثيره باق.
2. المضارع: وهو حدث في الزمن الحاضر ويقسم أيضاً بدوره الى ثلاثة أقسام:
ـ البسيط، والمستمر، والتام، التام المستمر.
3. المستقبل: يشير لحدث متوقع في المستقبل القريب أو البعيد.
ب ـ الحدث الأدبي (Event):
الحدث (Event)، فكرة أصبحت ذات أهمية فريدة للفكر الفلسفي في حقل الفيزياء النسبية. ومن المفاهيم الأكثر شهرة ما ورد عن الفيلسوف برتراند راسل (Bertrand Russell)، الذي استبدل الحدث بالمفهوم الغامض للجسد ، بينما يعده ألفريد نورث وايتهيد (Alfred North Whitehead) على أنه مفهوم تتشكل الأحداث فيه من خلال سلسلة من المناسبات الفعلية. وبشكل عام ، في كلا العرضين، يكون الحدث هو الذي يصاغ في وقت ومكان معينين.
وأول من أشار إلى بناء الحدث هم الشكلانيون الروس، وقد اتفق معظم المنظرون على أن بنية الحدث الأدبي تشمل على عدة أنواع من الأنساق هي: نسق التتابع، التضمين، التنضيد، التوازي، الدائري أو الحلقي، ونسق الخلط، بينما اختزلها تيدوروف إلى ثلاث أنساق: المتسلسل (المتتابع)، التضمين، التناوب، ولكن نظرة في الحدث عند الشاعر الصراف في قصيدتيه، “رسالة من قابيل”، و”خطبة الحجاج”، نجد أنه قد عوم الحدث من الماضي إلى الحاضر ومن ثم المستقبل في آلية اشتغال معرفية حديثة، وهي تقنية رائدة تحسب له.
يقول الصراف في نص:
والله ما سل سيف في الزمان ولا رمح تصوب إلا كنتَ من قصدا
والله ما حملت انثى ولا وضعت إلا عدوك فاحمل قبل أن تلدا
حتى اذا ما العراق المستفيض دماً خلا من الناس فأزأر في المدى أسدا
واصرخ انا الناس ولتُرجع _ فتسمعهُ _ كل الهضاب إلى يوم الحساب صدى) (
يتضح لنا أن الشاعر وليد الصراف لديه فضاء شعرياً يتسع لكل الامكنة النفسية في ذاكرته، كما لديه مناورة بلاغية كبيرة ودراية معرفية في التناص والتوظيف الاسطوري، بالاضافة إلى معالجة نصية للحدث بزمن معوم ضمن ثلاثة أزمنة منفصلة بنائياً ـ الماضي البعيد والحاضر والمستقبل البعيد ـ متصلة نصياً، كما نجده رغم التزامه بأوزان الشعر الخليلية، إلا أنه قد نجح في تحديث القصيدة العمودية بأدواته الشعرية وخزينه البلاغي ونظامه المعرفي.
———-
هوامش واحالات:
( ) وليد الصراف، رسالة من قابيل، دار ماشكي للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، (الموصل، 2019).
( ) Randolph Quirk & Sidney Greenbaum, A University Grammar of English, Longman, London, 1973.
( ) المعجم الغني.
( )Merriam-Webster. (n.d.). Intertextuality. In Merriam-Webster.com dictionary. Retrieved September 30, 2022, from https://www.merriam-webster.com/dictionary/intertextuality
( ) Merriam-Webster. I bid.
( ) حصة البادي، التناص في الشعر العربي الحديث البرغوثي انموذجاً، دار كنوز المعرفة العلمية، (ط1، 2009)، عمان، الأردن، ص 20.
( ) الهادي عرجون، التناص القرآني من خلال المجموعة الشعرية “المتضائل” للشاعر خالد رداوي، موقع ديوان العرب.
https://www.diwanalarab.com
( ) الديوان، ص 41.
( ) الديوان، ص 42.
( ) الديوان، ص 43.
( ) Cambridge Academic Content Dictionary, (n.d.) Cambridge University Press.
( ) أرسطو، فن الشعر، ص 59.
( ) أرسطو، فن الشعر، ص 62.
( ) مديحة عتيق: الشيطان في أدب توفيق الحكيم دراسة موضوعاتية (رسالة ماجستير) ـ مخطوط ـ جامعة عنابة ـ الجزائر 2002، ص 54.
( ) مديحة عتيق: “توظيف الأسطورة في رواية “نزيف الحجر” لإبراهيم الكوني”، الموقف الأدبي، اتحاد الكتاب العرب، المجلد 35، العدد 406، (28 فبراير/ شباط 2005)، سوريا، ص ص. 1-4.
( ) حنان فرفور: الأسطورة وتأثيرها في الشعر العربي الحديث، بحث متوفر على محرك كوكل تم الاطلاع عليه بتاريخ 15/6/2022.
( ) (سفر التكوين 4:9 – 12).
( ) https://www.poetryfoundation.org/poems/45370/morte-darthur
( ) الديوان، ص 9.
( ) الديوان، ص 10.