صامتٌ، نظري تائهٌ، أين؟
أنظر معي..
أقرأ رواية غسان كنفاني، رجال في الشمس.
متربعٌ تحت نافذة غرفتي، وكوب قهوة المساء، دافئٌ كعيون أمي، ارتشفت منه مرتان ونسيته، أكملت الروَاية.
طفقت ببالي، أن أخرج ثمّ أتسكع ليلاً، وأضع السماعات، أدخل يدي في جيبي وأمشي دون غاية. وضعت كتابَ أوراق الورد للرافعي في الحقيبة، وخرجت..
ماذا أقول؟ وما رسالتي؟
يا نَاس، أنا متعبٌ.
اعطوني كتابًا وكوب قهوة، ولن تروني في الخارج.
لا أريد لهذا الصراخ داخلي أن يسمع! أكتمه لكنه يتعبني، ليت شعري! أغمض محاجري، فأرى طريقًا طويلاً، وأرى نفسي مرتين، في أول الطريق وآخرها، الواحد يلوحّ للثاني، أهلا! أهلا! عساك بخير؟
فيصمتان معًا، وجوم غامض، فجأة، يجهشان بالبكاء..
لعمري! لك أن تتخيل إنسان يحمل داخله بكاء شخصين؟
يا جمَاعة! أريد كتَابًا، وقهوة.
نفضتُ رأسي من هذا كلّه، منحت بصري المحيط حولي، دنيا النّاس.
عدت أتمشى! أرمي قدمي بخطى حثيثة، طفقت ببالي أن أقصد مقهى، أُدخل على نفسي المسكينة بعض التغيير من حيطان غرفتي المؤنسة الغالية، أغيرها بهذا! أو ذاك المقهى هناك؟ وقفت كصبيّ أمام حفنة ألعاب وعليه حق اختيار واحدة، فقط!
تنهدت ثم مشيت، دلفتُ المقهى، نظرت أي الطاولات أبعد، في زاوية قصية لا صخب فيها ولا نصب، ابتسمت! وكأني هرولت إليها خشية أن يباغثني أحد ما، ويبتسم في وجهي البشوش! سبقتك يا فتى.
طلبت قهوة سوداء دون سكر، جلستُ أقرأ، زهاء النصف ساعة لم أدرك كيف مرّت، ثم رفعت بصري ونظرت حولي، المقهى مايزال خفيف الاقبال، شابٌ يتكلم في الهاتف ويشير بيديه في الهواء.. وفتاتان تدردشان بلذة، ورجل يقرأ في جريدة ويحمل كوب الماء كأنه تمثال، لا يتململُ البتة.
عدت للقراءة، يقول الرافعي رحمه الله: “ما حيلة الشمس في الحيطان, والأبواب التي أنت تقيمها! افتح لها تدخل إليك.”
حنانيك يا الله! هذا قلبي وأنت تعرفه، مضغة تتعبني لكنها رحمته يا رب، وسعت كلّ شيء. هذا قلبي يا مولانا فارحمه برحمتك وامنحه عطاءك وارزقه طمأنينتك. يا الله! أنا محمد عبدك، فارحمني بما ترحم به عبادك الصالحين.
توقفت وأحسست بخافقي كأنه يتمطى، تا الله لكأنه يتمطى، أغمضت جفوني، وزممت فمي هنيهة، ثمّ قمت وغادرت المقهى، مشيتُ كثيرًا، وإني يا صاح وقتئذ أدفع عني الاستعبار دفعًا..
مررت بقرب محلّ يبيع البقالة، صوت القرآن.. أرهفت السمع فإذا قوله تعالى: وَٱصۡبِرۡ لِحُكۡمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعۡیُنِنَاۖ وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ حِینَ تَقُومُ، وَمِنَ اللَّيل فَسَبِّحۡهُ وَإِدۡبَـٰرَ ٱلنُّجُومِ “.
حينها اغرورقت مدامعي، ونزلت بهدوء..
مشيت ليلتها كثيرًا، كثيًرا يا صاحبي.
وتلك كانت هِجرتي.