النصين – أدغال العقل.
– التاريخ
——
* نص أدغال العقل:
تَسكّعت في أدغال عقلي المجنون
زادتني الفسحة عمرا ماضيا
الجنون فنون
قابلت سقراط ونابليون
اعترضني يوحنّا وذي النون
استسلمت لعملية الربط
كل الوجوه ناظرة ناضرة
تتأبط سلاسل مضيئة
سلاسل تربط الأزمنة والجغرافيا
يلتقفني النزاع ووازع الصراع
كنت في يقظتي أم في المجون
شيء من غدٍ يترقب الخيط الأبيض
من الأسود
يُراوحُ على مَهلٍ على وَجَلٍ
صعد خيالي على سفينة راسية على الجودي
تمخر الصخر والجبل
كأن نوحا لم يأت من قَبِل
كأن الماضي قادم بلا قَدَمٍ
جُزءٌ من دربي سرياليٌ
دربٌ فوق منصّات الخيال
ما الطريق إذن؟
القارب من اللَّدُن
النجاة في جنّات عدن
كتاب المرسى حروفُ مسماريّة
تُشكّلُ الغموضَ للمرة الأخيرة
للعودة الأخيرة
ينسابُ الوقت رمالا في صحراء اليقظة
عند نهاية الجنون
عند غياب الفاصل
ريحٌ صرصر تدكّ حصون العقول
تقلب الطاولة مرة أخرى
خليطُ الأرقام أضاع سنة البداية
الضوء انحسر في زاوية بلا بشر
قاومتُ قبل الخروج من أدغال العقل
لكن تلك طبيعة البشر.
——
* نص التاريخ:
أنا رجل من معدن التاريخ
من مهبط الأولين
أصحاب الكهف
والأخدود
صالح وثمود..
دمي شلالُ ورقٍ مكتوب
بردية من وادي الملوك
جدارية رمسيس
الكاهنة
نفرتيتي
وبلقيس..
أنا رجل أستريح
وسط ذاكرتي
بين الراقدين
حمورابي
سقراط
من بعدهم النبيئين..
أستنير من غمرات الخوالي
من عميق من سحيق
قرطاج والرافدين
قرطاس وكتاب
طقوس ومحراب
ولسان الشاكرين..
خط سيرهم يلهمني
أثرهم عطرٌ للمريدين
دفاترهم نبراس عقول
معاول حقول
مدفنهم شهادة ميلاد
قليل من الأولين
وقليل من الآخرين..
———-
* * التعقيب:**النص الأول: عتبة النص . ” أدغال العقل”
إختيار الاستاذ توفيق لهذا العنوان ينبئك إن الشاعر مهموماً بمسائل وجودية عدة.منها الفلسفية الوجودية و الأخلاقية و النفسية. و هذه هي حياة الشعراء ،و خاصةً المثقفين منهم. فإذا نظرت بيولوچياً إلى تشريح المخ البشري عصبياً ، سوف تجده يشبه أدغال غرب افريقيا أو أمريكا اللاتينية. لكن الشاعر تخطى هذه المنطقة الحسية ، و أسند للعقل هذه المفردة كصفة . فقبل أن تقرأ النص عزيزى القارئ ، ما هى الأدغال الموجودة بعقل شاعر مثقف مهموم بمسائل وجودية ؟
بدأ الشاعر قصيدته النثرية ب ” تسكعت فى أدغال عقلى المجنون.” وهل يحق للشاعر وصف عقله بهذه الصفة ؟
– نعم ، هذا طبيعي جداً ، فهل وجدت يوما إنسان ، عادى ، ساذج ،بسيط التفكير ، غير مثقف يصف عقله بهذه الصفة ؟
– طبعاً لا.
أما الشعراء من هذا النوع المثقف ، و تفكيرهم أحياناً فى مسائل عويصة، تجعلهم يشكّون – حتى لو للحظات – فى سلامة عقولهم.
و من قبل ، فى تاريخ النقد ، تطرق نقاد العصر الرومانتيكى فى أوروبا لهذا الموضوع ، و وصفوا الشاعر بأنه مجنون ، و جاء الاستاذ الناقد المصرى :عز الدين اسماعيل بتخفيف حدة هذا الوصف ، و وصف الشاعر بأنه عصابياً إلى حد ما و إن التجربة الشعرية وليدة اللاشعور ، و كأنها حلم يتخذ من الرموز و الصور ما ينفس عن الرغبات ، و ذلك كان تبنياً لفكر المدرسة الفرودية و ما بعدها فى تفسير التجربة الشعرية لدي الشاعر.
فالنفس البشرية مرتبطة بالادب أو بالشعر فى حالتنا هذه ، ارتباطاً قوياً ، و الادب أيضاً مرتبط بالنفس ارتباطا لا احد ينكره.
قال الدكتور : عز الدين اسماعيل (فى كتاب التفسير النفسى للأدب) “أن النفس تضع الأدب ، و كذلك الأدب يضع النفس”
فسوف اجول على حافة هذه الأدغال ، ولا ادخل كثيراً لغابتها الاستوائية المطيرة.
استخدم النهدى فى نصيه ،اسماء أثرت فيه شعورياً و لاشعورياً.
و هى اسماء ذات تجارب فكرية معروفة ، قابلهم الشاعر فى مقابلة ذهنية . و هذه الأسماء توضح مخزون الشاعر الثقافى ، و ارتباط تجربته الشعرية بقصص هؤلاء العظام.
فقابل سقراط بنظرته العقلية الشمولية فى الآداب ، و نابليون بطموحاته الكبيرة ، و يوحنا رمز الوفاء والاخلاص فى صداقته لمعلمه المسيح عليه السلام.
ربط النهدى بين الأزمنة و الجغرافيا فى رحلته السريالية.
و حسب النظرية الفرودية و ما بعدها ، فالأنا الاعلى عند النهدى
يقارن ظروف الوقت الراهن بصور من التاريخ القديم ، السحيق.
فذكره لنوح عليه السلام ، و قوله “كأن الماضي قادم بلا قدم “
هنا – من وجهة النظر النفسية – يعبر عن عدم الرضا الذى يسيطر على تجربته الشعرية ، و ينتظر فرجاً كبيراً، ربما للظروف الحياتية الراهنة فى مجتمعاتنا العربية ذات التشابه فى مشاكلها المتشابكة . وبعض هذه المشاكل لا ينفع معها حلول مؤقتة ، بل تحتاج لحل جذرى يشبه الطوفان الذى حدث فى وقت نوح عليه السلام لحل المشاكل السائدة حينذاك.
تكلم الاستاذ توفيق النهدي عن العودة من رحلته الذهنية ، سالفة الذكر ،استخدم صورة غامضة إلى حد ما قائلاً:
القارب من اللَّدُن
النجاة في جنّات عدن
كتاب المرسى حروفُ مسماريّة
تُشكّلُ الغموضَ للمرة الأخيرة
للعودة الأخيرة
وهذا الغموض يؤدى إلى إستنطاق النص ، فالبساطة تجعل النص أحادى المعنى كما قال الدكتور شايف عكاشة (فى كتاب اتجاهات النقد المعاصر في مصر)
فهنا ربما النهدى يقصد ، العودة بالانسان بلا سلبيات كما كان فى جنة عدن ، و العودة الأزمنة القديمة.
ايضاً ، ربما انا كناقد و متذوق للشعر ، لم افهم هذه الصورة جيداً، و هذا ما قصدته ب “إستنطاق النص “فكل قارئ أو ناقد سيجد ما يفهمه أو يكتبه عن هذا النص الفذ.
و يقول استاذ توفيق ف اخر قصيدته :
ريحٌ صرصر تدكّ حصون العقول
تقلب الطاولة مرة أخرى
خليطُ الأرقام أضاع سنة البداية
الضوء انحسر في زاوية بلا بشر
قاومتُ قبل الخروج من أدغال العقل
لكن تلك طبيعة البشر.
و هنا ينهى النهدى أفكاره ، بفكرة خلاصية توضح أن العقل لا يكف عن التفكير ابدا ، و هذه هى طبيعة العقل البشرى.
————————–
* التعقيب* النص الثاني. عتبة النص: التاريخ :
هو عنوان شمولى ، جزء من كل بالنسبة لنص أدغال العقل.
فهذا النص لا يحتاج إلى تعقيب أكثر مما سبق ، فهو يعتبر مكمل لنص “أدغال العقل” . و فيه الشاعر استخدم لغة ، سهلة ، بسيطة ، ذات دلالات قوية و جميلة ، و اخذ يجول فى حقب التاريخ ليتعلم من المفكرين و الانبياء ، و رجالات الحضارات القديمة. و وضح النهدى إن راحته فى المكوث بينهم ، حين قال :
أنا رجل أستريح
وسط ذاكرتي
بين الراقدين
حمورابي
سقراط
من بعدهم النبيئين..
و استفاض الشاعر بتوضيح استنارته من الحضارات القديمة ، و حضارة العرب فى زمن من الأزمان ، فقال :
أستنير من غمرات الخوالي
من عميق من سحيق
قرطاج والرافدين
قرطاس وكتاب
طقوس ومحراب
ولسان الشاكرين..
و دلالة كلمتى طقوس و محراب ، و عدم تخصيصها لايدلوجية دينية معينة ، هذا يدل على شمولية الاخلاق لدى الشاعر و اكتسابها من كل الثقافات – ذات الاخلاق الحميدة – السابقة حتى نصل الى حمورابي ، كما ذكر.
و نحن نعلم أن قوانين حمورابي ، هي أول قوانين أخلاقية مكتوبة ، عرفّت، و ترجمّت.
و نعود للعقل مرة أخرى فى قوله:
“دفاترهم نبراس عقول “
يقصد القدماء ، و الحكماء ، و الانبياء.
و هنا اختم مقالى هذا ، بإن هذا الشاعر ، توفيق النهدى ، فى تجربته الشعرية يختذل لاشعورياً كل الحضارات التى قامت و كانت فى الشرق من بلاد الرافدين حتى قرطاج ، فهو لاشعورياً، و شعورياً ينتمى إلى كل هذا التاريخ العريق و القوانين الأخلاقية التى صاغها حكماء هذه الحضارات.
عونى سيف ، ناقد مصرى. ابريل ٢٠٢٣.