صدرت رواية “متاهات فريد زمانه ” للكاتب خالد الملاحظ في الآونة الأخيرة . إنها رواية لا تحاكي الواقع ، لكنها تؤرخ لمرحلة هامة في تاريخ الريف . حدث الهجرة ، أو عام الجوع ، أو يمكن أن نسميها “مرحلة ما بعد الإستقلال ” بعامين . من خلال ما كنا نسمعه من حكايات تقصها علينا الجدات ويقصه علينا الأجداد ، والناس الكبار ، لم يكن ذلك واضحا ، ولم نفهم بالتفصيل سبب الجوع ، ولا سبب هجرة أغلب الريفيين للجزائر ، أو لمدن الشمال . ومن خلال ذلك ، السؤال الذي ظل يطرح دائما ، وما يزال يطرح ، ( والسؤال مشروع لأي إنسان يرى الغموض في ماضيه ) هو :
-ماذا حدث بالريف في هذه المرحلة ؟
إنها مرحلة 1958 و 1959، هي مرحلة ليست هامة فحسب ، بل مرحلة غريبة للريفيين . المغاربة إحتفلوا بالإستقلال 1956 . لكن بعد عامين من ذلك ، وقعت كارثة في الريف لم يشهد لها مثيل . ربما الكثير يعرف أن السلطة المركزية هي السبب فيما حدث . لكن الذي ظل غامضا هو ماذا حدث بالفعل . لو ما حدث كان بسبب المستعمر لكان التفكير في ذلك بطريقة مختلفة . العدو لا يمكن أن تنتظر منه سوى الشر ، والإعتداء عليك ، لكن حينما يصيبك الشر من غير عدوك . هنا تطرح أسئلة كثيرة .
كتبت الكثير من الدراسات ، والكتابات التاريخية حول ما حدث . لكن كل ما كتب ، لم يكن له تأثيرا في “الذاكرة الجماعية الريفية ” ، لأن المساءلة حول ما حدث ، ظلت مستمرة . لو ما كتب إنتصر للسكان ، أو للمتضررين ، لما ظل السؤال يطرح . وربما ما كتب كان منصفا لما حدث . لكن لم يؤثر على الناس . الكتابة التاريخية دائما ما يراها البعض هي موجهة للأكاديميين ،أو للنخبة ، وليس للناس العاديين ، القراء البسطاء ، الذين يحتاجون للتبسيط كي يفهموا ما حدث
دخلت الرواية لتسد الفراغ ، أو لتجيب عن السؤال الذي كان يطرح . ربما الرواية كما يتداول ، أنها تنصف المغيبين ، والمهزومين . إنها تعطي الكلمة ليتحدث الذين لم يكن لهم الحق في الحديث ، وسرد ما حدث . لذلك خالد الملاحظ الكاتب ، كتب وأرخ عن هذه المرحلة بجنس السرد
من يقرأ الرواية ، وقرأها يكتشف شيئا فشيئا ، أن الرواية يتداخل فيها الماضي بالحاضر . وربما الذي ركز عليه الكاتب ، وحاول كتابته وإبرازه هو أن الحاضر (الذي يعيشه الإنسان الريفي ) هو يشبه ماضيه القريب . نفس الأسئلة حول الوطن وحول المستقبل . المستقبل غير واضح ، بل مجهول . لذلك الهجرة ما تزال مستمرة إلى الآن . الجميع يعرف حينما تكون الهجرة إختيارية ، لا تقلق أحدا . تصبح حدثا عاديا مثل أي حدث يحدث في مجتمع ما . لكن حينما تكون ضرورية ، ومكرهة ، يطرح السؤال المشروع :
-لماذا أهجّر من وطني ؟
من يغوص في الرواية أيضا يكتشف أن لإنسان الريفي علاقته بالوطن فيها الكثير من الإلتباس ، . الريفي يطالب جهات معينة بالمواطنة ، وحراس المعبد يطالبونه بالوطنية . لذلك الجدال لم يحسم بعد . ما يزال الإنسان الريفي يكره وطنه الكامل ، ولا يحب سوى أرضه ، أو ما يمكن أن نسميه ( المجتمع المحلي ) . نجد في الرواية جوابا عن هذا الإلتباس :
-الوطن هي أمنا الأرض ، حيث نعيش لا حيث نولد
الرواية جسدت ، وفككت إلى حد كبير ما حدث لمرحلة هامة ومغيبة في تاريخ الريف . ربما الإنسان الريفي بسبب هذه الرواية لن يظل في طرح الأسئلة المتداولة :
-ماذا حدث في 58 و 59 ؟
-لماذا تم تجويع الريفين واغتصاب نساءهم من طرف المخزن ؟
-لماذا يهجرون وتتم معاملتهم وكأنهم عالة على الوطن وليسوا جزءا منه ، وهم الذين حاربوا المستعمر الإسباني وأخرجوه من المناطق الشمالية ؟
لكن ما لا أعتقد أنه لن يتوقف عنه الريفيون ، هم نظرتهم للوطن . ربما حقدهم سيبقى كما هو الذي تكون في وجدانهم وأذهانهم منذ سنوات . وعلى ما يبدوا أن السبب الرئيسي في عدم نسيان ما حدث ، هو أن ما حدث فيما مضى ، في السنوات الغابرة ، ما يزال يحدث الآن ، رغم أنه يحدث بطريقة مختلفة .