منذ اختيارها شخصية الإهداء تستوقفنا الروائية بسمة يحيى لنتساءل: إلى أين ستذهب بنا في روايتها هذه، فليست أولجا توكارتشوك مجرد روائية حاصلة على جائزة نوبل وجائزة مان بوكر الدولية، بل إنها اختصاصية نفسية، ومفكّرة عنيدة متمرّدة، وهي صاحبة “الخيال السردي الذي يصوّر بشغف معرفي جامح عبورَ الحدود بوصفه ما وصفت نتاجها لجنة تحكيم المسابقة، وروايتها الفائزة «رحالة» كانت مجموعة حكايات لا رابط بينها عدا الراوي، لكنها تدور في أساسها حول كراهة الاستقرار والتصعلك بما يمثله من تمرّد ورفض للواقع وقيمه الراسخة ومفرداته وملامحه، وتستند على الهوية الإغريقية كأصل للغرب فتكثر من الإحالة على شخوص الأسطورة الإغريقية، وتناقش مجموعة من القضايا الجدلية السائدة اليوم، بما يشي بكاتبة تتحرش بالواقع وناسه ونواميسه. ولعل في انجذاب صاحبة روايتنا لها حدّ توجيه الإهداء إليها مؤشر بارز لفكر الكاتبة كما لتوجه الرواية، وربما يجدر بالقارئ وعي هذا التوجه والاهتداء به عبر النص.
وفي فانتازيا روائية لافتة، تدخل الرواية بقارئها منذ الخطوات الأولى للنص عبر متاهة سردية لا تقف عند تداخل حضور الراوي ويتنقل السرد بين شخوص الرواية والراوي العليم، بل تتسع لتداخل خطوط الواقع والأسطورة والخرافة في ميتافيزيقية ترسم بعشوائية أخّاذة مشاهد تتحدى بفلسفتها الفكر ليزيل طبقات الغبار المتراكمة على يقينياته تحميها من التناول والتفكّر، وبذكاء تختار الكاتبة إطلاق نصها يجول سراديب التيه في هلاوس عقل أفلت عقاله الذهان، فانطلق يمخر عباب الماضي والقادم لا تردعه حدود زمان ولا مكان، وترسم شخصياتها بأسمائهم وملامحهم في طرح جريء لقضايا متعلّقة بتلك الأسماء في الواقع، بدايةً العنوان «الشيخ نيتشة» الذي يحمل عرضًا سيميائيًا يرتسم في خيال القارئ منتصبًا جليًا ناطقًا بتناقض عاصف، يحمله لنص تتابع فيه المشاهد مصوغة بانفلات مجنون يجعل حتى الرافض لطرحها مشدودًا لمتابعتها، غارقًا في مشاهدها محاولًا الإمساك بحبل يقوده فلا يضيع بين مشهد التطوّر الدارويني للخلق كمنطلق حكائي يطرح أسئلة البدء والوجود، ومشاهد تستدعي الآلهة الأسطورية وحكايات الأسطورة وتشركها في أحداثها، وتحاورها في الإله والانفجار العظيم وبدء الحياة والموت وقوانين الفيزياء، ومشهد الشيخ نيتشة بالسيجار وصديقه بالشيشة والشاي في رمضان مقابلًا عنيفًا ليس للصيام بل للاختباء أسفل المنضدة ربما في إشارة للتعامي عن حقائق علمية تفرض فتح صفحات الموروث وتشريح محتواها؛ ورحلته بأرض الموت لإنقاذ الزرقاوي والتي تذكرنا برحلات الآلهات الأمهات في الأساطير القديمة لإنقاذ أبنائهم أو أزواجهم من الموت في أولى ارهاصات الثورة الدينية التي أطاحت بالأديان الأمومية لصالح الأديان الذكورية، لكن تلك الرحلات التي قامت بها الآلهات في الأساطير كانت رمزًا يعبر عن دورة حياة الزرع، فما الذي ترمز إليه رحلة نيتشة لإنقاذ ذلك الإرهابي؟
وفي انتصارها للإلهة الأم بما تجسد من تواصل مع الطبيعة والخصب والجمال جاءت بناءات الجمل القصّية في النص أنيقة مترعة بالألوان والوظائف الإبلاغية، ببراعة في توظيف الدوال بشتى أنواعها لتقود المتلقي إلى مراد الكاتبة من النص دون فجاجة المباشرة، وجاءت الصور شاعريّة عبقة بالحياة يكاد يكون صوتها مسموعًا للقارئ ومنها:
«أيقظتني تحية الضباب القاتم بانحناءة نسيم بارد على وجنتي»، «تلتهم عيناي النقوش على الجدران»، «براحتي يدي كفكفت دموع أذنيّ»، «اعشوشبت الروح بالوهن».
وختامًا فقد قرأت في «الشيخ نيتشة»رواية منتظمة في عشوائيتها، مقاتلة عنيفة في خوف بطلها، ثابتة في شتاته، متمردة في ذروة غوصها بعوالم الآلهة، فلسفية حتى النخاع، تسجل اعتراضاتها وتعلن موقفها وتتحدى برأيها فيما أسدلت عليه غلالة المفروض حكمًا، لتقول بمواربة النص الأدبي والتفافاته: أرفض مفروضكم.
—
شاعرة وناقدة أردنية نُشِرَ لها عدة مؤلفات