يهدف المقال إلى توضيح أثر المكان وفلسفته على سيكولوجية الإنسان، وبلورة شخصيته، ورسم معالم ثقافته. ينحدر الناس – بطبيعة الحال – من ثقافات مختلفة، حيث لا يتحدثون لغات مختلفة فقط، بل هو ربما أكثر أهمية يسكنون عوالم حسية (فيزيقية) مختلفة أيضاً. إن الغربلة الانتقائية للمعلومات الحسية تقبل بعض الأشياء في حين تصفي بعيداً أشياء أخرى، بحيث إن الخبرة كما تُدرك من خلال مجموعة من المناخل الحسية المشكلة للأشياء ثقافياً تكون مختلفة تماماً عن الخبرة المدركة من خلال ثقافة أخرى. وكل ذلك بسبب اختلاف فلسفة المكان (المبنى) الذي يبدأ متأثراً بفكر وفلسفة مصممه ثم تتحول إلى مؤثر في العلاقات الإنسانية التي تدور بداخله إما سلباً أو إيجاباً. لهذا هناك توجه يرمي إلى إعادة الاعتبار إلى الجانب الاجتماعي في مساكننا المعاصرة لأن السلوك المكاني شكل من أشكال التفاعل الاجتماعي الناتج عن حياة الفرد في البيئة من حوله.
ظهر مفهوم بروكسيميكس Proxemics (علم المكان) في ستينيات القرن الماضي، على يد عالِم الانثروبولوجيا الأمريكي إدوارد تي هول Edward T HALL (1914-2009)، الذي درس كيف ندرك الفضاء المكاني في الثقافات المختلفة وكيف نستخدمه لإقامة علاقات مختلفة. أي دراسة العلاقات والتواصل التي نؤسسها نحن البشر عبر الفضاء المكاني وعبر المسافات التي نضعها بيننا وبين الأشياء التي حولنا. ظهرت معظم أفكاره حول هذا المفهوم في كتابه ” البعد الخفي ” الصادر عام 1966 الذي كان موضوعُه المركزي البروكسيمي وهو ” الحيّز الاجتماعي والشخصي وإدراك الإنسان له “.
بمعنى أدق، يستخدم إدوارد هول مفهوم بروكسيميكس لوصف المسافات القابلة للقياس بين الناس أثناء تفاعلهم، إنها مسافات بين الأجسام يتخذها الناس بصورة عفوية، كما يحلل هذا المفهوم العلاقات المتبادلة ونظريات استخدام الإنسان للحيز كتطور متخصص للثقافة.
إن الناس من ثقافات مختلفة لا يتحدثون لغات مختلفة فقط، بل هو ربما أكثر أهمية يسكنون عوالم حسية مختلفة. إن الغربلة الانتقائية للمعلومات الحسية تقبل بعض الأشياء في حين تصفي بعيداً أشياء أخرى، بحيث إن الخبرة كما تُدرك من خلال مجموعة من المناخل الحسية المشكلة للأشياء ثقافياً تكون مختلفة تماماً عن الخبرة المدركة من خلال ثقافة أخرى.
إن البيئات المعمارية والحضرية التي يوجدها الناس هي تعبير عن عملية تصفية – غربلة. في الحقيقة أنه يمكن أن نتعلم من هذا البيئات المتغيرة من قِبل الإنسان كيف تستخدم شعوب مختلفة حواسها. لذلك لا يمكن الاعتماد على الخبرة كنقطة مرجعية ثابتة لأنها تحدث في محيط كان قد شُكل من قبل الإنسان.
إن القيام بفحص كيفية استخدام الحواس من قِبل شعوب مختلفة، أثناء تفاعلهم مع بيئتهم الحية وغير الحية، يزودنا ببيانات واقعية حول بعض الاختلافات بين العرب والأمريكيين، مثلاً. هنا في مصدر التفاعل ذاته من الممكن أن تتحرى الاختلافات الهامة في ما يُنتبه إليه وما هو مُغربَل ويتم التخلص منه. وفي هذا السياق يضرب لنا إدوارد هول مثالاً حول هذه الجزئية، فيقول أظهر بحثي خلال السنوات الخمس الماضية أن الأمريكيين والعرب يعيشون في عوالم حسية مختلفة في كثير الأوقات ولا يستخدمون الحواس نفسها حتى لإنشاء معظم المسافات الفاصلة المُحافَظ عليها خلال المحادثة. حيث إن العرب يستعينون بحاستي الشم واللمس أكثر من الأمريكيين (وهذا ما يفسر لنا حب العرب للطيب والعطور بشكل عام). إنهم يفسرون معلوماتهم الحسية بشكل مختلف ويمزجونها بطرق مختلفة. ويبدو أنه حتى خبرة العرب للجسد في علاقته بالأنا الأعلى تختلف عن خبرة الأمريكيين. والدليل على ذلك أن النساء الأمريكيات المتزوجات من عرب في الولايات المتحدة واللاتي عرفن فقط الجانب الأمريكي المكتسب بالتعلم من شخصياتهن، لاحظن غالباً أن أزواجهن ينتحلون شخصيات مختلفة عندما يعودون إلى أوطانهم الأم حيث ينغمسون في الاتصالات العربية من جديد ويتقيدون بمفاهيم الثقافة العربية. إنهم يصبحون أشخاصاً مختلفين بكل معنى الكلمة.
بالرغم من حقيقة، أن الأنظمة الثقافية تشكل سلوك الإنسان بطرق مختلفة جذرياً، فإنها متجذرة بعمق في البيولوجيا والفيسيولوجيا. إن الإنسان هو كائن ذو ماضٍ رائع واستثنائي. إنه يتميز عن باقي الكائنات بفضل حقيقة أنه طور امتدادات لكيانه. فبتطوير امتداداته، أصبح الإنسان قادراً على تحسين أو تخصيص مهام متنوعة. إن الحاسوب هو امتداد لجزء الدماغ، والهاتف يعزز الصوت، والدراجة امتداد للأرجل والأقدام. إن اللغة تُبسط الخبرة في الزمان والمكان في حين الكتابة توسع اللغة. لقد طور الإنسان امتداداته إلى تلك الدرجة التي نميل إلى نسيان أن إنسانيته متجذرة في طبيعته الحيوانية. حيث بيّن عالِم الإنسان (ويستون لا بار) أن الإنسان نقل التطور من جسده إلى امتداداته وبعمل ذلك فقد سرّع عملية التطور والنشوء بشكل هائل. ومعنى ذلك أن الإنسان ابتكر بُعداً جديداً، البُعد الثقافي والذي يكون البروكسيميكس مجرد جزء منه. إن العلاقة بين الإنسان والبعد الثقافي هي علاقة يتشارك فيها الإنسان وبيئته في تشكيل بعضهما البعض. ويدل ذلك بمعنى أدق أن مدننا تُوجِد أنواعاً مختلفة من الناس – على سبيل المثال – في أحيائها الفقيرة ومصحاتها العقلية وسجونها وضواحيها، هذه التفاعلات الدقيقة تجعل مشكلات التحديث المدني ودمج الأقليات في الثقافة السائدة أمراً صعباً أكثر مما يتوقع غالباً.
عندما طوّر الإنسان الثقافة مدّن نفسه وفي أثناء ذلك ابتكر سلسلة كاملة من العوالم، كل منها يختلف عن الآخر. كل عالم له مجموعته الخاصة من المدخلات الحسية، بحيث إن ما يؤدي إلى ازدحام الناس في ثقافة ما ليس بالضرورة أن يؤدي إلى ازدحام في ثقافة أخرى. بشكل مماثل، فإن فعلاً ما يتسبب بعدوان ولذلك قد يكون مصدر توتر لشعب ما، ربما يكون غير مؤثر بالنسبة لشعب آخر. لذلك على المعماريين ومخططي المدن والبنائين أنه إذا كان على هذا البلد أن يتجنب كارثة، يجب علينا أن نبدأ باعتبار الإنسان كمتحاور مع بيئته، بيئة يقوم هؤلاء المعماريون والمخططون والبناؤون ذاتهم بإيجادها بهدف الاهتمام بحاجات الإنسان البروكسيمية.
من هنا تأتي أهمية هذا المجال في كونه دراسة وتحليل موضوع الربط بين العلاقات الفراغية داخل المسكن (البعد المكاني) وتقديم تأثيرها على الرابط الأسري على سبيل المثال (نموذج مهارات الاتصال بين الأشخاص). ويرى إدوارد هول في كتابه ” اللغة الصامتة ” إن ما يقوم به الناس يكون في غالب الأحيان أكثر أهمية مما يقولون، وأن تفاعل الفرد مع بيئته هو علامة للحياة والعكس دليل الموت. وأنماط التفاعل بدأت من أبسط أشكال الحياة وأصبحت معقدة على نحو متزايد في جميع نطاق النشوء والتطور، وفي نفس سياق الموضوع أكد هول على أن الزمان والمكان هي أبعاد لخلق التفاعل، وتمثل اكتساب المعرفة واللعب والدفاع أيضاً أشكال محددة من التفاعل. كما أنه تحدث في كتابه ” البعد الخفي ” عن أهمية البعد المكاني في العلاقات الاجتماعية لأهميته في التواصل فقال ” خلال وجودنا نتعلم حرفياً آلاف العلامات المكانية التي تأخذ كل واحدة منها معنى خاصاً في سياق خاص “، وتحدث أيضاً عن ماهية الفضاء المناسب لنشاطات الإنسان، ولتحقيق هذه الغاية، حدد أربع فئات من المسافات الاجتماعية بين الأشخاص (الحميمية، الشخصية، الاجتماعية، العامة)، وأعطى أهمية للمسافة الشخصية بقوله: إنها الكرة الصغيرة الواقية أو الفقاعة التي ينشئها منذ نشأته ليخلق حوله عازل عن الآخرين. كما اعتبرها المنطقة التي تحيط بالفرد وملكاً له من الناحية النفسية. وتمثل هذه المساحة قيمة خاصة لأغلب الأشخاص بل ينتابهم الشعور بعدم الارتياح أو الغضب أو التوتر حال التعدي على هذه المساحة. لذا يحب الناس أن يحافظوا على مسافات بين أنفسهم وبين الآخرين أو الأشياء. وهذه الفقاعة الخفية من الحيز التي تشكل ” إقليم ” كل شخص هي أحد الأبعاد الرئيسية للمجتمع المعاصر.
خلاصة القول، إن ما نسعى إليه من خلال استعراض نظرية هول توضيح العلاقة القائمة بين الإنسان والبيئة الفيزيائية، التي تندرج ضمن مواضيع علم النفس الاجتماعي الفضائي، والذي يهتم بالآثار النفسية والاجتماعية للتصميمات الهندسية للمساكن والمباني والأحياء والمدن والتغيرات البيئية، لمحاولة تطويعها لصالح الإنسان والتكيف معها، كما تدرس أبعاد المكان وتأثيره على سلوك واتجاهات الفرد نحو الآخرين في البيئة الفيزيائية، فالاتجاهات الحديثة أكدت دور المكان في تشكيل التفاعل الاجتماعي وفي إضفاء صبغة معينة للعلاقات الاجتماعية. فالمسكن على سبيل المثال هو مجال ذو حدين، أولاهما الفضاء الداخلي الذي يأخذ طابعاً خاصاً حيث يقضي فيه الفرد معظم وقته، والحد الثاني عام الذي يمثل الفضاء الخارجي للمسكن فيمكن القول إن الإنسان يتخذ لسلوكيات ودوافع معينة اتجاه هذين البعدين، كما نستنتج أن هناك علاقة تبادلية بين المسكن والأسرة يتأثر ويؤثر ما يدعم الاتجاه القائل بأن المبنى يبدأ متأثراً بفكر وفلسفة مصممه ثم تتحول إلى مؤثر في العلاقات الإنسانية التي تدور بداخله إما سلباً أو إيجاباً. لهذا هناك توجه يرمي إلى إعادة الاعتبار إلى الجانب الاجتماعي في مساكننا المعاصرة لأن السلوك المكاني شكل من أشكال التفاعل الاجتماعي الناتج عن حياة الفرد في البيئة من حوله.
وفقاً لهول، يتم تحديد المسافات المادية التي نؤسسها من خلال المعايير الثقافية التي تخبرنا، على سبيل المثال، ما هي حدود الأماكن العامة وما هي في الفضاء الخاص، أو ماذا تعني كلمة الداخل وكلمة الخارج من حيث الأثاث أو الفراغات الفردية داخل المنزل المساحات التي تتأثر أيضاً بالعمر أو الجنس أو المكانة الاجتماعية لكل شخص.
كما تعتبر قواعد بروكسيميكس، قواعد بالغة الأهمية لأولئك الأفراد الذين يسعون إلى تأكيد أنفسهم على أنهم يشكلون ” جماعة ” تختلف عن الجماعات الأخرى، أي إنها تحدد السمات المشتركة بين بعض الأشخاص، وتعزز مظاهر مفهوم الهوية داخل المجموعة، وفي بعض الأحيان تجعل صياغة الهوية بين المجموعات صعبة. وهذا هو السبب في أن لها تأثيرات مهمة على التواصل الذي ننشئه مع مجموعة الانتماء ومع المجموعات المماثلة، وتسمح لنا بفهم كيفية بناء صورة معينة للعالم، وكذلك قواعد التعايش في سياقات مختلفة.
وهكذا نصل إلى نتيجة مفادها أن لكل منّا إقليم يشكل مملكة كيانه الذي يشعر فيه بالراحة، حيث يمكن لاستخدام الإنسان للحيز أن يؤثر في العلاقات الشخصية وفي علاقات العمل وفي تفاعلات الثقافات المختلفة وفي فن العمارة وتخطيط المدن وتجديد الأحياء الحضرية.
– المراجع المعتمدة:
1- Edward T. Hall: The Hidden Dimension, by Anchor, Second Edition,1 September,1990, First published, 1 January, 1966.
2- إدوارد تي. هول: البعد الخفي، ترجمة: لميس فؤاد اليحيى، مراجعة وتدقيق: محمود الزواوي، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2007.
3- خالدية جاب الله: مصطلح البروكسيميكا وتوظيفاته المكانية في الممارسات النقدية الجزائرية، مجلة القارئ للدراسات الأدبية والنقدية واللغوية، المجلد: الخامس، العدد: الأول، الجزائر، مارس 2022.
4- إدوارد تي. هول: اللغة الصامتة، ترجمة: لميس فؤاد اليحيى، مراجعة وتدقيق: محمود الزواوي، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2007.
5- دلولة صبة: أثر الفضاء السكني على التغير الاجتماعي للعلاقات الأسرية داخل المجتمع الجزائرية (دراسة تحليلية وفق نظرية إدوارد هول المعاصرة)، مجلة التغير الاجتماعي، جامعة محمد خيضر بسكرة، المجلد: الأول، العدد: الثاني، الجزائر، 10-02-2017.
—–
د. حسام الدين فياض الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً