لعنة المقارنة
تحت ظل الشجرة كان يراقب أقدام المارة ليتأمل ذاك الاختلاف الذي يَسِمُهَا ، بعضها مغلف بأحذية ثمينة وبعضها مكشوف الظهر والأصابع، وبعضها فوق الوصف يُبْسا وبشاعةً، نسي أن ينظر إلى قدميه المحرومتين من الجوارب والنعال مدة طويلة ، لم يستطع أن يشتري حذاء للمرض الذي ألمَّ به وتطلب منه مبالغ كثيرة ، تعود المشي حافي القدمين فلم يعد يفكر في الأحذية ولم يعد يهمه ما يهم زملاءه المتحدثين بصدد أنواع الأحذية المستجدة في الأسواق … حافي القدمين لعب كرة القدم ، حافي القدمين جرى يطارد الكلاب ، حافي القدمين هرب من المعتوه المخيف ، حافي القدمين نام سعيدا واستيقظ سعيدا…من أين له هذه السعادة ، سألت عنه أحدهم فأجاب بعبارة وجيزة “إنه لا يقارن نفسه بغيره” بادرت فاشتريت له حذاء جميلا ، وفي اليوم الموالي كان يجري ويسقط ، لم يعد يعرف كيف يسير منتعلا ، وحين يجري يراقب أحذية غيره غيره فيتعثر ليسقط مؤنبا نفسه التي صارت تقارن الأحذية بغيرها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اكتشاف
لأول مرة يتحقق حلمها، اليوم ستسافر إلى المدينة رفقة صديقتها الوفية “صفاء”. على متن الحافلة كانت التمثلات التي استقتها مما قيل ويقال عن المدينة، كانت تتفرج على ما تتخيله وكأنه الحقيقة التي ستعيشها بالفعل وهي في قلب المدينة، لم تبالي بتعب الرحلة رغم طولها النسبي، كانت مغيبة في عالمها المتخيل الذي لا يبدو لها فيه سوى المحامد والجمال والرحاب الراقية…كانت تقول في نفسها: اليوم وما بعده سأعيش في سعادة عارمة تغمرني من رأسي إلى أخمص قدمي، سأسير كالطاووس، ستتعدل قامتي وأصير كعارضات الأزياء التي أراها على التلفاز في كثير من أيام الأسبوع، سأرتدي قمصانا بحقيبة صديقتي حسب وعدها، وهي الوفية بما تعدني منذ أن عرفتها.
الحافلة تسير نحو المدينة وهي غارقة في الأحلام، أما صديقتها صفاء فقد غرقت في رواية “الليالي البيضاء” لدوستويفسكي…
مساعد السائق أخيرا يقف معلنا الوصول إلى المحطة الاولى للمدينة، وهي المحطة التي ستكون بداية الرحلة في قلب المدينة، صفا ستعيش الأمر عاديا لأنها هنا منذ ثلاث سنوات، أما هي فإنها ستكتشف الكثير، وستتزود بالكثير مما ستحكيه لصديقاتها وإخوانها وأخواتها حين ستعود، وتكون مصدر الجديد من الأخبار والمعلومات…
طان الشارع يضج بالناس، السيارات متلاحقة والناس يتحركون في كل الاتجاهات، نساء كاسيات عاريات، شبان كالفتيات وفتيات كالشبان، ملابس لا عهد لها بها، أضواء ملونة تشتعل بين مسافة وأخرى، مطاعم وفنادق بلافتات جميلة…كانت صفاء تحثها لتسرع كي يصلا إلى المنزل فالتعب يسري في أوصالها، والنوم يدب في جفونها.
في المنزل، ستلقى ترحيبا من قبل عمتها وزوجها، بعد أن تغسل وجهها وأطرافها ستتناول وجبة الغداء بعد احتساء الشاي وأكل حلوى بنكهة خاصة.
ستذهب بها صفاء إلى غرفة نومها، وهناك سيخلدان للنوم إلى ما بعد العصر، وسيخرجان للتفسح، كم كانت تفكر في هذه الفسحة التي ستحمل الكثير من المشاهد التي ستراها لأول مرة.
سلكتا الشارع الرئيسي المعروف وسط المدينة والساعة تشير إلى الخامسة والنصف، لترى العجب العجاب، نساء ورجال يتبادولون القبلات دون استحياء، بنات صغيرات مزينات الوجوه بالمساحيق المتنوعة، ملابس ضيقة تبدي تضاريس الكبار والصغار، شباب يتابعون شابات ويسمعونهن كلمات خادشات لا تقال في البادية حتى داخل المنازل…فجأة شاهدت لصا ينزع من فتاة حقيبتها بعد أن أشهر في وجهها شفرة حادة، بعدها بقليل شاهدت رجل كبيرا يضم فتاة صغيرة ويقبلها بعنف، الشرطة تخلصها وتقبض على الجاني…
قررتا الاستراحة في مطعم جميل، وجاء النادل كي يعرف ما تريدان من مأكل أو شراب، قررتا شرب عصير، جاء بكوبين جميلي الشكل واللون، وضع بجانبهما وريقة تحمل ثمن الشراب الباهض…
وهي تشرب العصير، تذكرت نسيانها صلوات اليوم فاحمر وجهها وكأنها تعاني من ضيق ما، سألتها صفاء: ما بك يا صديقتي؟
أجابتها: لاشيء، غدا سأعود إلى حيث كنت، فالسكينة خير من المظاهر المعذبة.
لحسن ملواني
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
أسف
في يوم مشمس يلفحُ الوجوهَ ، ويُسيل العرق على الجباه والخدود، خرجت تنضح شوفا، تبحث عن خطيبها العائد من السفر منذ يومين..كانت تسأل عنه الغادين والرائحين على أرض القرية التي يسكن بها.
اهتدت أخيرا إلى منزله ،كان يقع على ربوة مشرفة على نهر تجري مياهه بين صفوف شجر الصفصاف والأرز..كم كانت تتمنى أن تصير له ويصير لها فيسكنان معا هذا المكان الجميل..قبل قرع الباب أعادت النظر في هيئتها ،نفظت الغبار على حاشية قفطانها، حدقت في وجهها على مرآة دائرية صغيرة ، رشت عطرا على جنبيها ،ومرَّرت يدها على خصلة شعر ممتدة على جبهته…كانت تتخيل استقباله الحار بعد أن يفتح الباب.
ويقع ما لم يكن في الحسبان ..فهاهي تقرع الباب ،وبدل أن يستقبلها الخطيب المزعوم ، خرجت امرأة مخيفة الملامح ، وبلا مقدمات سألتها عن حاجتها ، وعمن تسأل ..تلعتمت ، وقالت : أريد مقابلة عمر ، خطيبي ، تراجعت المرأة ثم اندفعت نحوها فأسقطتها أرضا وهي تقول : من تكوني أيتها المخادعة ، يا سارقة الرجال …
نهضت الفتاة ،وعادت أدراجها ، وحين ابتعدت أمتارا عن منزل عمر ،التفتت لتراه واقفا ينظر إليها من الشرفة وقد وضع يديه على خديه مظهرا أسفه.
ـــــــــــــــــــــ
عبرة
كلهم صاموا إلا هو ،قال في نفسه أتركهم ، قطعان بلا عقول ، يقومون بما لا يفهمون…ها أمعاؤهم تئن من الجوع ، وها وجوههم متغضنة يظهر عليها التعب..
ذهب يتجول في السوق، ولا أحد يعلم أنه الوحيد الذي خالف رمضان فلم يأبه بتعاليمه ولا مطالبه…
تميل الشمس للغروب ، ولا يهمه غروبها كما لا يهمه شروقها، الناس يحملون قففهم إلى منازلهم منتظرين مشتاقين إلى حلول وقت الإفطار …أما هو فكان يعيش خارج وطأة الزمن .
في المساء دخل أفراد أسرته الصائمون كبارا وشبابا ،ووجوههم متهللة ، وصدورهم مفعمة بفرحة الانتصار ،كانوا يتناولون الحلوى، ويشربون الحليب وكأنه في جنان الرحمان ، أما هو فقد كان يقول في نفسه ما أقبح أن تصير عبدا لبطنك !.