إبراهيم شاعر بصري من أقاصي الفاو . إستطاع أن يقول لنا من أنّ الإحتراق والحب وجهان لما يكتبه . هناك تشكيلة رائعة في سطوره ، موسيقى منداحة على الشعور ، وجدانية تنبعث وكإنها سيل جارف ، كل وجوه نصوصه بلاقناع بل إنطلقت لنا بوجهها الحقيقي دون مواربة أو إختفاء . نصوص تتفحص أسرار الإنسان الذي يتداعى مرارا ويقف مرة وسط دوامة الحياة التي تلعب بنا على الحبلين . قدرة متباهية في رسم الصور غير المعقولة وتحدي وغوص في المتضادات . وصف إرهاصات الحياة وكإننا نطحن الحصى وننتظر منها أن تكون تينا لينا يثير شهيتنا بأسوده وأحمره ومامن مرتجى لذلك سوى الفشل والفشل . في ديوان الشاعر إبراهيم وهو موضوعة بحثنا هذه ( رفقا بحلمي أيها الصقر) يسقينا من كروم شعره عصيرا عنبيا صافيا . إبراهيم جعل الشعر مسافراً على جناح صقر مثلما قالها أدونيس ذات يوم ( الفكر دائما يعود والشعر دائما يسافرُ ) . في أغلب الأحيان المحب يجد نفسه في غربة الروح ، أو في منتصف صحرائها ، نتيجة عدم الوصال ، والفرقة القسرية التي تفرضها الظروف البيئيةِ أو تفاصيل تأتي على حين غرة ، فلا عزاء للمحب سوى النوح مع النفس الصادية ، نحن شعوب نشعر بالحياء إذا ماتعلّق الأمر بالحب أو رؤيا من بنت الجيران ، لأننا لانملك الثقافة التي تحترم الحب والمرأة . لنرَ ماذا قال الشاعر بصدد ذلك في نص ( حياء) :
عاليةٌ أسواري
عالية أسوار جاري
هويتُ لو أتعرى سابحاً
في نهر البستان
لكني عدلتُ حياءاً
من برحيّة ِبيت الجيران
يتوجب مرور سنوات طويلة لكي نتعلم كلمات حب .. جاك شيردان
نعم هناك من لايتوقف عن النشاط العاطفي وهو الشاعر الذي له من الكلمات البندولية الصارخة . هناك الديالكتيك في كل حلقةٍ من حلقات القصائد الخالدة في الحب ، هناك حبها الذي سار في قلب أوديسوس وحبيبته بيدولوبي وقد مثلت هذه الملحمة في فيلم فنتازي أذهل القلوب من تمثيل ( أرماند أسانتي ، وإيزبيلا روسيلينا ) إنتاج 1997 . هناك أراغون وإيلزا وغيرهم الكثيرون ممن بقي حبهم سائرا في الأمصار حتى اليوم . هناك سحب الحب التي تتصاعد من أنفاس المحبين ، أو السحب المتشكلة من القاطرة البخارية أيام زمان ( الريل وحمد) وتلك الحبيبية الهاربة من زيجة جبرية وصادف أن يكون مظفر النواب على متن القاطرة فتأرخت في أشعاره العظيمة . وهناك مثل افريقي يقول ( أينما نحب لايحل المساء ) ، وهناك ابراهيم اليوسف الذي يتوق للحب الخجول لأنه محاصر بقيود إجتماعية هائلة فراح يقول لنا ( لكني عدلتُ حياءا / من برحية بيت الجيران) . ولذلك يبقى يحلم ويحلم لعلّه ذات يوم يصل الى مايريده في الحب أو في مجمل أمور الحياة القابلة للجدل والإنتفاض على كل ماهو تقليدي يقيّد معاصمنا . لنقرأ إبراهيم في النص الحالم الذي إتخذ موسومية ديوانه ( رفقا بحلمي أيها الصقر) :
قلتُ للعصفور خذني على جناحك
وانزلني على دكة السيّاب
قال : إمهلني موسماً من رطب
إستوقفتُ الفاخته
قالت إمهلني موسماً من هديل
ولأني مستعجل توسلتُ النورس
قال إمهلني موسما من ضباب
توسلت بالصقر
فاشترط أن اطعمه
ثلاث وجبات شهية
من لحم العصفور والفاختة والنورس
فندمتُ
وركبتُ خطاي
الشجاعة لاتعني عدم وجود الخوف بل الوقوف ضده والصمود امامه. بالضبط هذا مما أراده إبراهيم أن يخبرنا عنه في نصه الرمزي عن الصقور . نص على شكل دراما متقطعة فمرة على شكل كوميديا ومرة على شكل تراجيديا . هناك الصقر الشاهين وهو الطائر الحر الذي يمتلك من القوة والذكاء و القدرة على إصطياد فرائسه ويظل يلاحقها حتى يمسك بها . وهناك من يرمز له بالبطولة مثلما صقر قريش الذي مثلت في مسلسل سوري بهذا العنوان عن عبدالرحمن الداخل بالرغم من ان هذا الرجل دموي لايشبع من القتل وحتى أصدقائه لم يسلموا منه . ولذلك راح الشاعر يقول لنا من أن الحلم ينتهي عند هذا الحد أو عند القوة التي أيتلينا بها والتي لاتشبع بل تريد القضاء على كل مؤشرات السلام كما ورد في آخر النص (من لحم العصفور والفاختة والنورس /فندمت وركبت خطاي) . الشاعر ابراهيم يريد الإفصاح بشكل واضح ومفاده : هل يمكن أن نرتجي من النمور المفترسة تلحين أغنية على أفخاذٍ عارية ؟ أنه ضرب من ضروب المستحيل . لذلك يبقى الشاعر إبراهيم يبحث عن نقطة ضوء تخرجه من النفق الذي هو فيه مثلما حال كل شعوبنا التي أبتليت بالظلامية والمظالم فراح يقول لنا في شذرته ( روائح الأضواء) :
عن بعدٍ شممت ُ
رائحة َالشمسِ
فاتاني عطرٌ اسكرني
تمنيتُ ان المسهُ لمساً
وحين رايتُ الضوء
ينبع من قنديلِ الزيت
هجرتُ الكهف واستوطنت البيت
و حين رايت الاضواء تنبع من كهربةٍ
طرزتُ بيتي ..
بمصابيح ٍعابقةٍ بالوان الطيف
انه نص تاريخي للضوء ومعانيه إذا ما إنطلقنا من تأريخ الضوء فبداية من شعلة الأولمب ثم إستخدام الشموع ثم القناديل حتى إختراع الضوء على يد (توماس أديسون)هذا الذي أنار العالم مثلما الياباني ( ميكي موتو) الذي أنار أعناق النساء بإختراعه اللؤلؤ . في مسلسل عربي يقف عاشقان وهما الممثلان ( عابد فهد وديما قندلفت) وهم يغسلون وجوههم برذاذ من ضوء وكإنه دش من ماء للتعبير على غسل الذنوب أو التضمخ بالسطوع والضوء الذي ينير دروبنا وعقولنا إذا ما أتخذ الأمر بشكل رمزي ، أو واقعي حين نخرج من الأقبية الحالكة فأول ما نبحث عنه هو الضوء والشمس المشرقة التي تعطينا الأمل بالبقاء والإستمرار في المضي نحو الحرية والأمان ، نحو التفكير الحر والتشكيك إذا تطلّب الأمر في ماهية هذا الوجود الكوني الشسيع . لنقرأ الشاعر إبراهيم في نصه ( الرائي ) الذي ورد في ديوانه الآخر( تفاصيل الرؤيا ) وماذا قال عن التشكيك :
كان يسبحُ في بحر الشك
حتى جزيرة اليقين
تلمّسها بيديه العاريتين
وحين اشرقت الشمس
ميّز البحر من البر
لكن الى اين ؟
هنا الشاعر يدخلنا في فلسفة الشك واليقين ، أو في المدرسة الشكوكية التي تأسست أول مرة على يد ( بيرون) ، والشاعر غالبا ما يكون مشككا ، أو هو يتأرجح إعتمادا على تفريغه وشحنه ومايحمله من ثقافة متنوعة تجعله لايستقر ولايقر له قرار ذهني . وتبقى هذه الجدلية متأرجحة في المفاهيم والتفسيرات فالإيمان من عدمه عند ديكارت هو إثبات مالايمكن إثباته أو مثلما ذلك الشخص الذي دخل غرفة مظلمة ولما خرج منها قالوا له ماذا رأيت قال : رأيت قطا أسودا وآخر دخل فقالوا له ماذا رأيت قال : لم ار القط وثالث قال : لم أجد شيئاً وهكذا نبقى في الجدلية المثيرة التي لم يتغلب عليها سوى العلم . لكن يبقى اليقين هو الذي يقتل أكثر من الشك . لو سلمنا جدلا أن شخصا ما قالوا له أن زوجتك تخونك ، في الحال سوف يدخل دائرة الشك ، يظل يراقبها فيراها مع أحدهم في الشارع فيقول لنفسه أنه موظف معها ، ومرة أخرى يراها في المقهى فيقول أنه ربما من أقاربها حتى آخر مرة يراها تدخل بيت هذا الشخص فيقتحم البيت ويراهم فوق السرير فهنا دخل مرحلة اليقين وسحب زناد مسدسه فأرداهم قتيلين غسلا للعار ودفاعا عن الشرف . فهنا بالضبط مانقوله من أن الشك لايقتل بل اليقين هو الذي يقتل وهذا مايحصل عند المتشددين في الدين والإيمان ومنهم داعش وكيف يرون اليقين عندهم فيقتلون الآخرين بحجة اليقينيات الثابتة ، ويضعون الشعوب في حالة من الحرب والفقر الناجم من جراء ذلك ، مثما حصل في وطننا وماحصد من حروب أدّت به الى العدميّةِ والعوز . وقد تطرّق الشاعر إبراهيم لماهية هذا الموضوع في فلقةٍ مؤلمةٍ ( دون خط الفقر) :
السائق أهون من الحمال
الحمال أهون من الزبال
والمدلّك أهون من حفار القبور
وحفار القبور أهون من القصاب
وكلهم كمايبدو
أهون من حارس جثث الموتى
في الطب العدلي
يقول كارل ماركس ( معظم تأريخ البشرية هو البحث عن الطعام ) ..
في النص أعلاه نقرأ الحلقات المترابطة بين بني البشر والإستغلالية التي لم تتخلص منها شعوبنا كي تلحق بالعالم المتحضر وهذه الحلقات هي : العامل يعيش من قوته ، رب العمل يعيش عليه ، الرأسمالي يعيش على الإثنين ، المحامي يعيش على خلافات الثلاثة ، الطبيب يعيش على أمراض الآربعة ، السياسي يعيش على الخمسة ، حفار القبور يعيش على الستة وأما الموت يعيش على السبعة . فكل هذه العناصر المكونة للشعوب والمجتمعات إذا وجدت في أنظمة لاتحمي المرء فستكون الحياة بمجملها سرقة بل سرقات تؤدي بنا أن نجد التسلسل الهرمي عبارة عن سرقة إبتداءً من الرئيس الى بائع الخضار الذي يسرقك أيضا بطرق ملتوية حين يضع البضاعة الجيدة فوق ورديئها في الأسفل وبهذا يخدعك وعند وصولك البيت وتفتش عما إشتريته تراه تالفاً رديئاً . شعوب شاطرة وذكية في السرقة لكنها في المآلات الأخرى هي آخر من يصل ركب الحضارة والتمدن . فكل هذه لابد لنا أن نضعها تحت طاولة التساؤل والسؤال عن الحقيقة مثلما نقرأ الثيمة البديعة للشاعر إبراهيم ( الأسئلة ) :
الاطفال يطرحون الاسئلة
والكبار يضعون ادوات الاستفهام
المجد للاطفال
يقولون أكثر من يتأثر في لوحة الرسم ويصيبه الإندهاش والتعجب هو الطفل . وأكثر من يوجه الأسئلة البريئة هو الطفل . في فيلم هوليوودي جميل من تمثيل الشهير ( توم هانكس) وفي مشهد من مشاهد الفيلم تعطي معلمة المدرسة للأطفال أوراقا وقالت لهم اكتبوا أي سؤال تريدونه . وبالفعل كتب أحدهم : يا الله أين أنت ، هل تستطيع أن تكون صديقي فنلعب معا في حديقة البيت ؟. والآخر سأل الله : هل تستطيع أن تشتري لي دمية وأنت قادم في الطريق؟. وهكذا مجموعة أسئلة محيرة وذكية للغاية تربك المقابل وتحفز الذهنية الراكدة من قبل طفل لم يدرك الحياة ومعانيها وأهدافها وغاياتها . أسئلة عديدة جعلت المعلمة في حيرة من أمرها على هذه الذهنية المتقدة لدى الآطفال والتي جعلتها تدور في كل جهاتها منبهرة منذهلة مثلما ابراهيم وكيف وجد نفسه في ( هو من كل الجهات )
هاتف بشبوش /شاعر وناقد عراقي