يميل القاص الدكتور مصطفى لطيف عارف في مجموعة ” غبار الرفوف” إلى جعل بعض قصصه من نوع القصص القصيرة جداً تلك التي تتناول موضوعاً واحداً وتميل الى التعامل مع شخصية واحدة لا تتسع مساحة القصة وهيكليتها لحركة وتفاعل شخصية ثانية وثالثة، وأكثر؛ هذا الى جانب عنصر “المفارقة”، تلك التي تشكِّل صدمة للقارىء تجعله يشعر غب انتهاء قراءة القصة بحذق الكاتب وبراعته في كبح جماح خيال القارىء الذي يريد له التجول في فضاء قص طويل وأطول. فالتكنيك الذي تتطلبه القصة القصيرة جداً يرينا التطبيق الأمثل من قبل القاص في عديد النصوص القصصية التي احتوتها المجموعة. فقصّة “الرابح” تقدم لنا قصة نموذجية في تكنيكها وبالتزامها في المساحة والموضوع، ثم المفارقة التي هي الذروة الصادمة التي تشكل خاتمة للقراءة وبادئة للقارىء في أن يتحاور معها في ذاته، راسماً المدلول أو مجموعة المدلولات التي هدف منها النص القصصي القصير جداً. فالنص هنا يرينا كاتباً أفنى العمر في بيئته يكتب ويقدم للقراء تصوراته عن الواقع ومبعث تغييره وانتشاله من بركة الاهمال واللامبالاة ليدخله إلى بستان القراءة والخلق القويم لم يجد من يقيّم ابداعه ولو بوَردةٍ تُقدَّم له اعترافاً بفضلِه في نشرِ الوعي واعلاءِ شأنِ الثقافة؛ إنَّما يأتيه التقييمُ والتثمينُ من خارجِ بيئته، وذلك ما يُشعِره بالحزنِ والأسى والألم وهو يستلم تقييماً وحفاوةً من بلدٍ غير بلدهِ بينما الأَولى والأصح أنْ تكونَ بادئةُ التقييم والاحتفاء من قِبل القيّمين على الثقافة والابداع في بلده((وقفتُ أمام الأدباء ,وقف الجميع.. قلتُ: شكراً جزيلاً على مَنحي هذه الجائزة الكبيرة, ووسام الإبداع ,وسقطَت دمعتي التي فَضحتني.. وقلتُ: تمنَّيتُ لو كانَ تكريمي في بلدي)).. إنَّ المرارةَ التي يَشعرُ بها المبدعُ والمفكِّرُ والعالِمُ إنّما هي صرخةٌ بوجهِ التعمًّدِ في اهمالِ النجمِ الثاقب، والاصرار على التعاملِ مع العتمةِ على أنّها السلوكُ الامثلُ في جعلِ الحياة تسيرُ على رتابةٍ وايقاعٍ لا ينحوان باتجاهِ تغييرِ الحال والسير نحو هدفٍ أسمى يتمثل بتقييمِ الابداع وتثمينِ المُبدِّع… وسنجد هذا في نصٍّ قَصصي آخر حمل عنوان: “اغتيال بلد” وهي شيفرة متقدمة جاءت كعتبةٍ للنص، ونقصد به العنوان. لنقف بجانبِ المقولةِ الشهيرة “الكِتابُ يُعرف من عنوانِه”. فهذا النص جاء ليسير بتوازٍ مع النص السابق، حاملاً نفسَ الهمِّ، ومشيراً الى الاهمال الذي تعاني منه الرموز العلمية ويتجنّى عليها الروتين القاتل المرتبط بتخلفات ادارية غائرة في الرتابة، ومُصرّة على البقاءِ في قاعِ الجهل وايقاعِ الحياةِ المتعثّرة.. إنَّ بطلَ قصة ” اغتيال بلد” هو استاذٌ جامعي رمَت به أكفُّ الروتين الوظيفي والاهمال الذي يبدو أنَّه مُتعمد في هوَّةِ الحيفِ والقهرِ والجزع، إذ لم يجدَ من يَشكره على جهودِ اربعين عاماً في البحثِ والخلقِ والتوجيه، ويقدّم له راتبه التقاعدي الذي هو حقُّ يجب أنْ يكون ناجزاً وعلى طبقٍ من احترامٍ وتقديرٍ مقرونين بشكرٍ وعرفان. لكنَّ الذي حصلَ هو أنّه بقيَ يراوح في مكانِه ويضطر في نهاية الأمر الى أنْ يتوجَّه الى إعداد رسائلَ واطاريحَ يبيعُها على الفاشلين الذين سيتبوَّؤون المناصبَ بينما يبقى هو يتلقّى النَّقدَ والتعنيفَ لأنه التجأ لبيعِ خبرتِه العظيمةِ لقاءَ ما يسد الرمّق.
وتتبدى المفارقة واضحة وصادمة عند مطالعتنا لقصة أخرى بعنوان ” أبله”، وهي تعرض في مدلولاتها التجنّي الذي يحصل للأنقياء مِمَّن يحترمونَ أعمالَهم والوظائفَ الشريفةَ المُناطة بهم مقابل إبداء الاحترام واعطاء الأهمية لمن يعملون على الاضرار بالإنسان عبر افعال ارهابية هدفها تحطيم مبادىء دولة مهمتها بث السلام وتوفير العيش الهانىء للمواطن. فالناص يتحدَّثُ عن مهمّةٍ بحثيةٍ يقومُ بها نخبةٌ من علماءِ النفس ومنظمةِ حقوق الانسان إلى أحدِ السجون التي تجمع ارهابيين ارتكبوا أعمالاً ارهابية بحقد ورضا ازهقت ارواحاً ودمَّرت مبانٍ ومنشآت من أجل جنَّةٍ مزعومةٍ رسمها لهم من كانوا مسؤولين عنهم ووعدوهم بها في عالم آخر. ولقد اكتشفت النخبة الزائرة أنَّ هؤلاء الارهابيين ما زالوا على قيد الحياة ولم تنفذ بهم احكام الاعدام الصادرة بحقهم. وتنتهي بهم زيارتهم الى زنزانةٍ معتمةٍ وجدوا فيها القاضيَ الشريفَ الذي حَكمَ عليهم بالإعدامِ طبقاً للقانون وشرعِ السماء سجيناً، وقد اتَّهموه بالبلاهةِ والعتَهِ(( سألناه: لِمَ آنت هنا مسجون مع المجرمين؟.. أجاب: لأنني حكمتُ عليهم بالإعدام.. تمَّ سجني هنا سنوات عِدة, واتّهامي بأنّي أبله.)).. إنّها لمفارقة حقّاً؛ تؤكّد الصدمةَ التي هي مِن تقنياتِ القصةِ القصيرة جداً، والتي تجعل المتلقي في حالة من الإعجاب بدلالةِ القصة ومدلولاتها.
واستمرارُ المتابعةِ لنصوص المجموعة القصصية تضعنا على سكة التقاط الصور المؤلمة التي تحمل طابعاً نقدياً للمحيط بصفحاته الاجتماعية والادارية؛ وحتى الاقتصادية المقرونة بانعدام الخدماتِ والابتعاد عن جَعلِ الانسانِ هو الرأسمال الأسمى لدى الامّة والقائمين عليها. فلطاما شكَّل انعدام تقديم الخدمات واظهار الوطن نموذجاً يُتباهى به- بإعماره وعلوه حضارياً وعمرانياً- صدمةً للكثيرين مِمَّن رَسموا في مخيلتِهم بلدانِهم، حين يغتربون عنه لظروفٍ طارئةٍ أو عن تصميمٍ وقصد، كاليوتوبيا التي تصوِّر تحقيقَ حلمٍ تتجلّى فيه المثالية، وتَتحقَّق الامنيات؛ وتغدو لدى الآخرين مَضربَ أمثالٍ واشارةٍ تبعثُ على الفِخار والازدهاء فإذا بهم حينَ يعودون ويضعون أولَ قدمٍ على أرضِ الوطن صورةً رماديةً مشوبةً بالتشوّه والتبعثر وردّة الفعلِ التي يُطلق عليها ” المفارقة” أو الصدمة” في تقنية القصة القصيرة جداً، التي أشرنا اليها. وتلك تقدمُها قصة ” مرارةُ الواقع” وهي تحكي عودةَ مواطِنٍ اغتربَ نتيجةَ شعورٍ بحيفٍ وقعَ عليه وقرَّر تغييرَ حياتِه نحو الافضل.. هذا الافضلُ الذي تمنّى أنْ يشاهده في بلدِه وهو يعود اليه بعد أعوامٍ طويلة؛ لمنه يصدم بواقعٍ متردٍّ كالذي تركه بعد غربة طويلة.
إن قصَصَ الدكتور مصطفى لطيف عارف هي قصصُ رسمِ الواقع والتعاملَ مع صفحاتٍ كثيرةٍ وعديدةٍ من كتابِ الوطنِ والناس والذي يبقى رُغمَ المرارةِ الراسخةِ في اعماقِ مواطنيه الحبَّ الكبير، والعشقَ الأبدي الذي لا يُكفَر به، ولا يُدار له الظهَر.