تتقدم بخطواتها الرتيبة وقامتها الممشوقة وهدوءها الرتيب، تحيطها هالة من السكينة والوقار وتحمل سيماها الواثقة ومحبرتها المبدعة وهي تعتلي منبري الشعر، وتبدأ بالقاء قصيدتها بصوتها الأجش، تسحر المتلقي بكلماتها كما تسحره بنبرتها حتى تشعره وكأنها تعزف على سيمفونية عذبة، وعندما تقف على المنصة وتبدأ بعزف مقطوعتها الموسيقية تشعر الجمهور وكأنها تلقي قصيدة، وفي كلا الحالتين تنسرب نوتتها ونبرة صوتها وعذوبة كلماتها وحسن قرارها في اذن المتلقي كما تنسرب أشعة شمس في شلال ماء بارد.
وبالتزامن بين دراستها الأكاديمية للموسيقى وموهبتها الابداعية في كتابة الشعر، فقد أوجدت الشاعرة عزة عيسى• تواشجاً دلالياً بين موسيقى الشعر وموسيقى العزف، وقد نجحت في هذا المجال من خلال كل من موسيقى القافية للقصيدة ونبرة الأصوات الموسيقية التي تختارها بحيث تتناغم ومفردات العزف الموسيقي، يضاف إلى ذلك موسيقى الوجد والالهام الصوفي الذي يلف نفسية الشاعرة ويسيطر على وجدانها وكينونتها.
وقد نجحت الشاعرة عيسى في صياغة هيكل القصيدة وبلورة متنها من خلال عملية انتقال الشفرة اللغوية بين ريجستر القصيدة وريجستر الموسيقى، والريجستر هو مجموعة المفردات التي تخص حقل معين من حقول المعرفة الفنية والأدبية والعلمية، وكون الشاعرة تمتلك موهبة الشعر وتحمل مفردات اللغة العربية في ذاكرتها، فإن مفردات الموسيقى لا تأتي إلّا من خلال تخصص دقيق وحسن اطلاع وممارسة لهذه الفن الابداعي الذي يوازي الابداع في بقية الفنون الاخرى إن لم يكن يتفوق عليه، وشاعرتنا تحمل شهادة الماستر في الموسيقى ولها باع طويل في هذا المجال سواء من خلال التنظير أم التطبيق.
وفي الحديث عن اللغة فهي وسيلة الاتصال بين المرسل/ الذات الشاعرة وبين المتلقي عبر الشفرة اللغوية لتكتمل عملية الخطاب، ولهذا فقد قسم رولان بارت العملية الخطابية إلى اللغة والكلام بينما نجد نعوم تشومسكي أشار إلى المقدرة والأداء، والمقدرة هنا تقابل اللغة التي يمتلكها الباث/ الشاعر فيما الأداء تشير إلى التمثيل الصوتي لحروف وكلمات هذه اللغة، وشاعرتنا تمتلك موهبة ابداعية في صياغة الشعر كما تمتلك موهبة في كتابة المقطوعة الموسيقية وقيادة الكورال، وهذا مما يدلل على امتلاك الشاعرة عيسى للغة خصبة وخزين معرفي يساعدها في تلون الأداء عبر قناة كل من الشعر والموسيقى.
ومثلما أشار أغلب النقاد، يشكل العنوان أول صدمة للمتلقي عندما ينظر للديوان في أول وهلة، كما أنه يشكل الخيمة التي تحتضن المتن بين دفتي الكتاب الذي يعتلي غلافه، لذلك سعى معظم الشعراء إلى اختيار عنوان ايحائي ينفذ من خلاله إلى لب المتلقي ويحدث فيه جرساً موسيقياً يلزمه بتلقي النص ومتابعة محتويات الديوان حتى آخره.
وقد اختارت الشاعرة عزة عيسى لديوانها الصادر عن دار همسة في عام 2022 مفردة “تشيللو”، وهي مفردة معربة صوتياً وكتابياً، وفيها انتقالة لشفرة الخطاب بين اللغتين العربية والايطالية (Code Switching)، وهي تقنية خطابية أجازها علماء اللغة دي سوسير وجون لاينز وبالمر ويول، و”تشيللو” هو عنوان موسيقي بحد ذاته يعزف على وتر التلقي من خلال محورين؛ الأول أنه يتكون من ادغام حرفين، التاء والشين ليخرج لنا صوت موسيقي بنبرة حادة، ثم يتبعهما حرف علة ليأتي بعده اللام المشددة لتضفي على المفردة نبرة أخرى من خلال التشديد، وتشيللو بالأساس هي كلمة مشتقة من المصطلح (violoncello) أي الكمان تشيللو في اللغة الايطالية وتم اختصارها إلى (Cello) بحيث يلفظ الحرف الأول (C) بشكل (تش) حسب النظام الصوتي الايطالي، وجرى نقل الكلمة ألى اللغة العربية بصورة التعريب الكتابي والصوتي للكلمة، ولعدم وجود الصوت الأول في اللغة العربية فقد جرى ادغام حرفين (تاء وشين) ليقابل الصوت الأصلي، وتعني آلة عزف وترية من عائلة الكمان ذات حجم كبير نسبياً تصنع من الخشب ولها أربعة أوتار ومجالها الصوتي حوالي أربعة أوكتاف، ولا يحمل جهاز التشيللو على الكتف لثقله، بل يوضع بين ركبتي العازف ويستند على الأرض عن طريق قضيب معدني مثبت في قاعدته، وقد أخترعه الموسيقي الايطالي “أندريا اماتي” عام 1560، ويتميز بصوته الدافئ وقربه من صوت الانسان حتى يسحر المتلقي ويسلب لبه، وقد ابدعت الشاعرة عيسى في موسقة العنوان ليتلائم مع موسيقى متن القصيدة، فهي تقول:
درويشةٌ سَكْرى
على (تشيللو)
كمَنْ هاموا
وقد أمِنوا
وهنا تخاطب الذات الشاعرة نفسها بوصفها شاعرة متصوفة تهيم بالموسيقى لتجد الأمان والراحة النفسية بالوجد الصوفي، ثم تنتقل إلى بناء مقطوعة موسيقية أخرى من خلال انتقال شفرة الخطاب بين مفردات الشعر ومفردات الموسيقى، فتقول:
(صول لا)
وضوءُ الفجرِ
(دو ري مي)
إذنْ
ستظلُّ ستُّ العازفين
تؤمِّنُ
وقد اختارت بداية السلم الموسيقي الذي مثلما هو معروف يتألف من سبع نغمات على الترتيب التالي: دو، ري، مي، فا، صول، لا، سي، ويضاف له علامة ثامنة هي دو1، وتشكل بمجملها مايسمى “أوكتاف”، وقد جاء هذا التوظيف بحرفية عالية لتبين تأثير العزف على الروح البشرية بحيث تنتشي بسماع تهجدات الفجر وتأمين الذات الشاعرة المشار إليها بـ”ست العازفين”، ثم تبين مستوى الهيام بالمقطوعة الموسيقية، حتى وصلت بالمنصتين إلى درجة اليقين، وهي أعلى درجة في الإتئام الصوفي، فتقول في بيت آخر:
صلَّتْ بأوتارٍ
توضأَ سرُّها
حُبًّا
فمن شهدوا الصلاةَ
تَيقَّنُوا
حتى تصل بهم إلى درجة الانتشاء الروحي وهي تنشد المزيد من الهيام، فتقول في منتصف القصيدة:
الله أكبرُ
قلتُها
بل عشتُها
(هل من مزيدٍ)
إن قلبي مدمنُ
وإدمان القلب على الوجد الهيام الروحي من خلال نبرات صوت الموسيقى والعزف على أوتار القلب العامر بالحب، لذلك تقول:
يا بنتُ
صوتُ الحبِّ
تحتَ سمائِنا
عزفٌ ينادي روحنا
ويسلطنُ
والحب هنا كناية عن الوجد والهيام الصوفي، فهو عبارة عن معزوفة تنادي القلب وتنسرب في الروح ويتسلط عليها.
نلاحظ مما سبق، أن الشاعرة في قصيدة العنوان، قد سعت إلى انتقال شفرة الخطاب بين ريجستر الموسيقى وريجستر التصوف بحرفية عالية وابداع مميز لا يجيده إلا من احترف المهنة وسبر غورها بدراية ومعرفية عالية، ونحن هنا نقف أمام إبداع جديد وحرفة جديدة تمازج بين الفن والأدب من خلال التواشج الخطابي والدلالي بين الموسيقى والشعر.