بمحيط تلك المدينة الاستوائية ثمة مركز تجاري متواضع يقصده مشترون عارضون ترسلهم بعض شركات التبغ.. هنالك كانت الحياة تتسلَّل في رتابة. وقت أن يرسو أحد القوارب بالميناء كان قنصلنا يحتفي بالحدث بأن يُقيم وليمة في قاعة الموريكسين خاصة فندق بالماس. دائمًا ما يكون القبطان ضيف الشرف، يأتي إليه ذاك الأسود التابع للقنصلية على متن القارب وبحوزته الدعوة راجيًا إياه أن يُرسِلها إلى مجموعة بِعينها، مِن اختياره، تَتشكَّل من ذوي المناصب الهامة والمسافرين. حينها تتراءى المنضدة مُتأنقة بكل ما لذَّ وطاب، ولكن الحرارة الرطبة كانت تُفسد مذاق أكثر طبخات فن الطهي تعقيدًا حَد أن تصبح مشكوكًا بسلامتها، لذا وحدها الفاكهة كانت تحتفظ بمظهرها الشهي، أو بالأحرى الفاكهة والكحول، حسب شهادة مسافرين لم ينسوا مذاقًا نبيذ أبيض غني ولا توابع المشاعر، المفترض كونها مرحة، التي آثارها بِداخلهم. في جولة من جولات تلك المآدب سمع قنصلنا، على لسان سائحة –سيدة لديها العديد من الأملاك، طاعنة في السن، ذات شخصية حازمة، مبعثرة المظهر بملابس فضفاضة إنجليزية الطراز- تفاصيل ما جرى أو الحكاية التالية:
– “أسافر على متن الدرجة الأولى، ولكنني أعترف دون جِدال بأنَّ جميع الميزات اليوم تصُب في صالح مسافر الدرجة الثانية. باديء ذي بدء أشير إلى سعر تذكرة السفر، والذي يُمثل شِقًا مهمًا. تُقدَم الأطعمة، ومن ذا الذي يتجاهل أمرها، لِكلتا الدرجتين من المطبخ ذاته ومن إعداد الطباخين أنفسهم، ولكن دون شك بتفضيلٍ من الطاقم لِلدرجات العامة. أشهى المأكولات الطازجة وأطيبها دائمًا ما تُقاد إلى قاعة الطعام خاصة الدرجة الثانية. وعن تفضيل الدرجات العامة الذي أشرتُ إليه فليس ثمة خداع.. ما بالأمر من شيء طبيعي على الإطلاق؛ تلك الفكرة قد غرستها فئةٌ من الكُتاب والصحفيين، أشخاص يُنصت إليهم الجميع بارتيابٍ وإنعدام للثقة، ولكنهم بقوة المثابرة.. بمرور الوقت تتولَّد بداخلهم القناعة بِما يتفوهون به. ولمَّا يحمل مسافرو الدرجة الثانية تذكرة كاملة تصير الدرجة الأولى خاوية عمليًا، فتكاد سيدي لا تجد نادلين بها، ولِذات السبب يصير الاهتمام فائقًا بالدرجة الثانية ومن يسافرون على متنها”.
هل سيصدقني إن أكدتُ له أنني لا أنتظر من الحياة شيئًا؛ على أية حال يروق لي الحماس.. هؤلاء مَن يتمتعون بالجمال والشباب. والآن سأبوح له بسرٍ: مهما أصرَينا على العكس، فالجمال والشباب هما الشيء ذاته؛ لم يُولَد من فراغٍ ذاك الشعور الذي يجعل العجائز أمثالي يفقدن عقولهن إذا ما لاح شاب بالمشهد. فالشباب جميعًا –لِنعود ثانيةً إلى قضية الدرجات تلك- يسافرون على متن الدرجة الثانية. بالدرجة الأولى تبدو الرقصات، متى مُورسَت، كخاصة جثامين بُعثَت من جديد، كسَتها أفضل الثياب وزيَنتها كامل الحُلي للاحتفال بالليلة كما ينبغي. أقرب ما يكون للمنطق سيتمثَل في أن يعود كلٌ بحلول الثانية عشرة تمامًا إلى مقبرته وقد أصبح نصف مُغطى بالمساحيق. أمرٌ جلِي أنَّ بإمكاننا نحن حضور حفلات الدرجة الثانية، ولو أنَّ ذلك كان يتطلب أن نتجرد من كل ما يمُت للحساسية بصلة، فهؤلاء الذين ينزلِون بالأسفل ينظرون إلينا وكأنما نخال أنفسنا جَمعًا من أسياد الدولة في زيارةٍ للأحياء الفقيرة. وقتما يشاءون يَحضر ركاب الدرجة الثانية إلى هنا، على متن الدرجة الأولى.. ولا أحد ولا سلطة بعينها تعترض تواجدهم بأي عائقٍ كريه، الأمر الذي نبذه المجتمع بالإجماع منذ وقتٍ مضى. مثل تلك الزيارات من قِبل ركاب الدرجة الثانية نقابلها نحن مسافري الدرجة الأولى بحفاوة حَد أننا نحِد من إسرافنا ومظاهر احتفائنا كي لا يكتشف الضيوف العابرون أننا، على الفور، قد تعرَفنا على هويتهم كمسافري الدرجة الأخرى –تلك الدرجة التي بينما تستغرق الرحلة مسارها تروح تُرسي أكثر أصول مُباهاتها تأصُلًا- فيشعرون حينها بالإهانة. تقِل سعادتنا بمجيئهم عندما تجري زيارتهم كغزوٍ أو مداهمةٍ عادة ما تقع قبل مطلع الفجر: وسط جمع من الريفيين الحقيقيين ينكب الغزاة بعادتهم المتأصلة بحثًا عن أحد المُسافرين.. عن أيٍ مِنا!، مسافرٌ لم يُحكِم إغلاق باب كبينته أو تأخر تواجده بالخارج، بالحانة، بالمكتبة أو بقاعة الموسيقى؛ أقسم لك سيدي أنَّ هؤلاء الصِبية يجذبونه جرًا بأدنى صور الاحترام.. يحملونه إلى الجسر أو إلى الممشى السياحي ويُلقون به من حافة القارب نحو الهول الأسود للبحر، ذاك الذي يُنيِره ضوء القمر المُتبلِد حسب مقولة شاعر عظيم، وتسكنه الوحوش المُفزعة لمُخيلتنا! في كل صباح نتبادل نحن مسافري الدرجة الأولى النظرات بأعينٍ تُعلِق بكل وضوح قائلة: “إذن، لم يحِن دورك بعدْ سيدي”. بِداعي التوقير لا يذكُر أحدٌ مِنا المُختفين في حديثه؛ وبداعي التعقل أيضًا، حيث أنه وِفق بعض الروايات التي ربما لا أساس لها من الواقع -ثمة لذة رهيبة تكمُن في إثارة فزع أحدهم، في افتراض أنَّ تنظيم الخصم يتسم بالمثالية- يدِس راكبو الدرجة الثانية شبكةً من الجواسيس فيما بيننا. كما ذكرتُ منذ قليل، فقدَت درجتنا المزايا كلها، حتى ميزة الميل إلى التباهي بكل ما هو باهظ أو مثير للإعجاب ( تلك النزعة التي تشبه الذهب.. أبدًا لا تفقد قيمتها)، ولكنني لِعيبٍ ما، ربما لا علاج له لِمن في مثل عُمري، لا يوافقني أن أصبح مسافرة درجة ثانية..
————
* نجوى عنتر مترجمة مصرية وباحثة في أدب أمريكا اللاتينية، صدر لها أربعة مجموعات قصصية مترجمة عن الإسبانية، عن جخات مصرية حكومية ودور نشر خاصة؛ كما نشرت لها عدة مترجمات قصيرة بدوريات مصرية وعربية.