خلّابٌ ذلك السكون الذي يتقطر من ليل غزة، لولا ذلك الدوي المفاجئ الذي ينبئ بأن هناك غارة جوية على مدن القطاع.
طفلة في الخامسة وحضن أم، هو كل ما تبقى من تلك الأسرة، التي يجمعها ذلك الإطار المُثبت على جدار ظهَر فيه التصدّع، لا من قِدَمٍ، بل تأثرًا بغارة سابقة نالت من مبنى مجاور.
أشعلت الأم شمعة تَبثّ بها بعض الأمان في نفس الصبية، ولتراقب ملامح وجهها على وقْع أزيز الطائرات ومشهد الوميض الذي ينبعث مرةً تلو الأخرى، ويتسلل عبر النوافذ الزجاجية، ليحدث مزيدا من الرهبة.
وكطقسٍ مُتعارف عليه في بقايا تلك الأسرة، ارتَدت الصبية حجابها الصغير، متأسّية بوالدتها، والتي طالما كررت على سمعها أنها ملابس الاستعداد للسفر إلى أبيها وأخويها، الذين سبقوهما إلى واحة خضراء في السماء، بها قصور تظهر من تحتها أنهار خلّابة، يطيرون في عليائها كالحمام الأبيض.
يتعالى صوت الأزيز والانفجارات، يزداد معه الوميض، فتشهق الفتاة ملتصقة بأمها وهي ترتجف، فتضمها والدتها ضمة شديدة، تُواري فيها وجَلَها.
…أمي، هل سنسافر الليلة إلى أبي وأخويّ؟ أم سيمر الوميض دون أن نفعل ككل مرة؟
…ربما نعم، وربما لا، المهم أن نكون على أُهبة الاستعداد يا نور.
…أمي، ماذا لو أخذك الوميض وحدك، وسافرتِ بدوني؟
…ستهتدين إلى طريق السفر، هكذا كل الأطفال هنا، يعرفون طريقهم جيدًا، ما عليك إلا أن تحملي صورتنا وتنتظري الوميض، وأنت تضحكين..
ارتجّ المنزل على إثر صاروخ انفجر قريبًا منه، سقط على إثره الإطار الذي يحتضن صورة الأسرة، واهتزت الشمعة بعنف فسقطت على الأرض منطفئة، بينما التصقت الفتاة بأمها، وكلتاهما تتلاحق أنفاسها.
زحفت الطفلة إلى حيث تقبع الصورة على الأرض بعد أن انفصلت عن إطارها الخشبي، وتحسست المكان حتى عثرت عليها، ثم عادت إلى موضع أمها وأطلقت ضحكات عالية، بادلتها الأم إياها، ثم التقطت الشمعة من على الأرض، وأشعلتها بعود ثقاب، وجعلت تطالع وجه ابنتها، والذي زالت من على قسماته كل آثار للخوف.
…أمي، هل لهم مثلنا وميض ؟
…نعم بنيتي، لكنه يذهب بهم إلى الحفرة المشتعلة
…وهل يفعلون مثلما نفعل الآن أنا وأنت؟
ضحكت الأم وهي تجيب ابنتها: كلا يا حبيبتي، هم يركضون كالجرذان إلى مخابئهم تحت الأرض، توشك قلوبهم أن تتوقف من فرط الخوف.
…ألأنهم أشرار؟
…نعم، ولأننا أخيار.
…ماذا يريدون منا؟
…يريدون منا أن نركع لهم
…لكننا نركع لله.
…ولن نركع لغيره.
توالت أصوات الانفجارات، وارتد الوميض إلى نافذة البيت، فغاصت الفتاة في صدر أمها وهي تقول: أمي، ماذا تصنعين لو أخذني الوميض وتركك؟
اعتصرتها أمها وهي تأخذ نفسًا عميقًا وتجيبها بصوت متهدّج: سأصنع كما صنعت أم نضال، وأخت مازن، وابنة العم فرّاج، وكما صنعتُ أنا عندما أخذ الوميض أباك وأخويك، سأكبّر وأشدّ هامتي، وأدق بيدي على صدري وأقول: أنا أم الشهيدة نور، فداكِ يا غزة، فداكِ يا فلسطين.
أخذت نور بيد والدتها إلى النافذة الزجاجية، وجعلت كلما انبعث وميض في السماء تلوح إليه بيدها، وتبعتها أمها في ذلك وهما تطلقان الضحكات.
في الصباح، كانت فرق الإنقاذ وجموع أهل الحي الذين اشتركوا في رفع الأنقاض، يتحدثون عن أم وابنتها، عُثِر عليهما تحت الركام متعانقتين، وبينهما صورة تجمعهما برفقة رجل وطفلين.