على تبّةٍ مترامية الأطراف، تأخذ في العلو تدريجيًا، كانت مقابر بلا أسوار، بلا حرّاس، بلا أعمدة إضاءة، سوى نورٍ خافت يُلقي على الشواهد ظلالًا مخيفة، جادت به نجومٌ توسّطها الهلال كالوليد.
صبيٌّ بالكادِ قد جاوز الرابعة عشر خريفًا، يقترب من أطرافها التي خلت من المارّة، في خطوات متثاقلة، وفرائص مرتعدة، يقدم رِجلًا ويؤخر الثانية، ضربات قلبه تكاد تشق صدره.
يصطرع الخوف الفاحش في كيانه مع رغبةٍ جارفةٍ في المرور وسط المقابر في هذه الأجواء المُرعبة.
واصل طريقه بأنفاسٍ متلاحقة، تصطكّ أسنانه، كلما اجتاز مسافة قصيرة داخل المقابر التفت إلى الخلف، وكأنه يستجدي الطريق الموحش خارج المقابر لأن يبقى في مرمى بصره مؤنسًا.
يرتجف بشدة، برودةٌ قد احتلته على الرغم من أنها ليلة صيف، يلتفت في ذعر يمينا وشمالا وخلفًا، تداعت المخاوف التي صاحبت كل قصص القبور التي سمع عنها، عن قطاع الطرق الذين يختبئون بها من الشرطة، عن حكايات الجن والشياطين الذين يسكنون المقابر ويتلبّسون بالبشر الذين يمرون خلالها.
كان يقرأ آية الكرسي مرارًا حتى استعجم لسانه، وتلعثم بها، وخُيّل إليه أنه قد أُنسيها في تلك اللحظات، كان ينتظر أن يطبق عليه الشرّ من أي اتجاه، صرخ فجأة عندما تعثرت قدمه في نبات الصبّار، ثم قام فزعًا وأسرع الخُطى، إلى أن لاح له الطريق المقابل خارج حدود المقابر، فنظر إليه وهو يهرول، نظرةً تحمل رجاءً كأنما يقول له: خذني، أنقذني.
كانت تلك المسافة المتبقية قد بثت فيه الأمل باقتراب نجاح المهمة، وفي نفس الوقت، هو لم ينج بعد، ما زال الخطر قائمًا.
أخيرًا، اجتاز القبور، وهرول مبتعدا عنها لا يصدق أنه نجا، وعندما وصل إلى المناطق السكنية، جلس على الرصيف وهو يلهث، ورويدا رويدا بدأت أوصاله تهدأ، ثم ابتسم، واتسعت ابتسامته، ثم أطلق ضحكات متتالية، لقد نجح.
لم تكن تلك البداية، وإنما بدأ كل شيء في ذلك اليوم المشهود، أثناء عودته من المدرسة، في فترة كانت الدنيا فيها قد أظلمت لوفاة أمه، وفي الطريق اصطدم بشاب يكبره، فنشبت مشادة كلامية بينهما، ليجد نفسه فجأة محاطا بعدد من أقارب الشاب، توالت على وجهه الصفعات، حتى أمره كبيرهم بالركض.
تصلّب في مكانه، فالهروب في هذه اللحظة يعني أنه لم يستحق وصف الرجولة، فلطالما أُسكبت عل مسامعه عبارات: “الرجل لا يخاف”، “الرجل لا يعطي ظهره لأحد”، لكنه شعر بالخوف الشديد، خاصة بعد أن وضع أحدهم يده في جيبه، فأدرك الفتى أنه سيشهر في وجهه السلاح الأبيض.
وجد نفسه يجري بكل قهر الدنيا، ظل يجري حتى بعدما فارق أبصارهم، كان يجري وعبراته تتناثر على جسده، الآن لم يعد رجلا.
شهر بأكمله وهو يعيش حالة من الاكتئاب، يبكي كلما تذكر ما حدث، وظل يلعن الخوف الذي جعله ينسف ما تربّى عليه واختلط بدمائه، ولم يكره شيئا في هذه الآونة كما يكره الخوف، وقرّر أن يبحث عن وسيلة لقتل ذلك الشعور البغيض في قلبه، وكان السؤال عن ذلك هو شغله الشاغل، وفكّر في الذهاب إلى السحرة والمشعوذين عسى أن يكون الحل لديهم، لكنّ أخاه الأكبر قد أخبره أنه أمر من كبائر الذنوب، فعدل عن هذا الاتجاه.
كان يستقصي أخبار الشجعان في الحي، فراقت له الحكايات عن واحد منهم، فذهب إليه، وجلس يستجديه وسيلة لقتل الخوف، أخبره الرجل أن هناك طريقة ما، لكن من هم في مثل عمره لن يستطيعوا القيام بها، نظرا لما يعتريها من خطورة بالغة على حياته، فكان الحل الذي أبداه الرجل: السير وسط القبور ليلا.
أسبوع كامل، يفكر الصبي في الأمر مترددا، حتى اتخذ قراره، وقام بالتنفيذ، وتبعتها مرة ثانية وثالثة، وعاشرة، حتى أصبح المرور من المقابر عادة له، الآن قتل الخوف.
مرت بضع سنوات، وهو يواجه عقدة الخوف، بتحديه، كلما تسرب إليه ذلك الشعور من شيء ما، أقحم نفسه في مصدر الخوف، وقرأ يومًا في إحدى روايات الشباب للدكتور أحمد خالد توفيق عبارة احتفظ بها في وعاء قلبه ودهاليز عقله “لئن فغر الخطر فاه، فأدخل رأسك فيه”.
على هذا النهج سار بكل حماقات الأرض، لا يبالي بما يحدث له، كل ما يشغله أن يدفع الشعور بالخوف، يستاء كلما داهمه، للدرجة التي تعرض فيها لإزهاق روحه، عندما وقف إلى حافة بناية شاهقة مع زميله، لم تكون مُسوَّرة، وهو يعلم يقينا خطورة ذلك نظرًا لأنه كان مصابًا بـ “فوبيا” المرتفعات، حاكى صديقه في النظر أسفل البناية، فقط لأنه شعر بالخوف من ذلك، وما ينبغي أن يكون للخوف مكانٌ في قلبه، دار رأسه، وهمّ بالسقوط، إلا أن صاحبه قد جذبه بعيدا.
الأمور ليست على ما يرام، لماذا لم يمت الخوف في قلبه، رغم جميع محاولاته لوأْدِه؟ هل يزاول عادته القديمة في اجتياز القبور؟ لكنه حقا قد ألِفها، حتى لكأنها طريقٌ عام يمر منه، تبا لذلك الخوف، يأتيه كل مرة بشكل جديد، ويزحف إليه من زاوية جديدة، الخوف على نفسه، والخوف على من يحب.
في هذه المرة لبّى نداء العقل، والتمس فض الاشتباك مع الخوف في الذهاب إلى إحدى عيادات الطب النفسي، وهنالك أدرك ما جناه بحق جبلّته البشرية عندما أراد القفز فوق إطارها، واستئصال ما هو مركوز في النفس الإنسانية.
تصالح مع الخوف، لم يعد يقمعه، لكنه في الوقت نفسه لا يستسلم له، يواجهه أحيانًا، يهادنه أحيانًا، يهرب منه في أحيان أخرى إذا تطلب الأمر، فليست الشجاعة مرادفًا للانتحار، وأن عليه أن يتقبل كغيره من البشر، فكرة أن ينال من الإنسانِ شيءٌ من الخوف.