قد لا يَحق لي التحدّث عن الحب وقد أكون أولى بالتحدّث عنه ولكنني قطعًا أعطي نفسي حقّ فَهمهِ وتفهُّمِه لأنه لم يكن منطقيًّا بالنسبة لي قط والأشياء الخالية من المنطق لا أركنها على جانب الطريق فهي أكثر الأشياء بحاجةٍ للتفهّم وأنا شخصيًا لا أرى الإنسان منطقيًا بالتالي يجب أن أبذل جهدًا في فهمه، وفكرة أن الحب هو سرقة قلب أحدهم فكرةٌ تبدو لي كلوحةٍ تيبّس فيها الوقت وتجمّدت فيها لغات التعبير وتجذّرت في مساماتها ذرّات الغبار وهُجِرَت على مدى ما لا نعرف من القرون، لكن فكرة أن يكون الحب عبارةً عن مكانٍ غيرِ قابلٍ للاحتلال مناسبةٌ نوعًا ما ومُرضيَةً لكل من قُتِلَ وهُزِمَ وشُرِّدَ وظُلِمَ في حرب حبّهِ المليئة بكل شيءٍ إلا العدل، وما وجدت وخُبِّرتُ عن حربٍ اجتمع فيها الحب والعدل، وما كانت النفوس البشرية يومًا بهذهِ الحيادية ولن تكون؛ لأنها تعلم أن العدل دخيل وإذا شُرّعت به حياتها ستبور كل مصالحها وتتساقط على رؤوسها مغازل الخداع التي برمت فيها صوف رغباتها وجمّلتها للآخرين..
إن النظر إلى المشاعر من جبال الوعي يجعل منها شيئًا ثانويا، لكنها في الواقع جزءٌ رئيسي من المنظومة التكوينية للإنسان، فالحب ينزع عنه هذا المسمّى ليرقى إلى التفهّم، وكلما ارتفع معدّل التفهّم بين الحبيب والمحبوب كلما زادت احتمالية الغفران والعفو..
هنا لا أدّعي كرمًا وإنسانيةً في تحوير الحب إلى تفهّم، بل أصوّر الطريقة التي أحب بها هذا الكون وهذه الحياة، أنا التي لم تملك يومًا سببًا للحب، وحين كان قلبي يذوب من شدّة الألم بانَ في عمقهِ مسبِّب الأسباب، أعاد بيديهِ المضيئتينِ جمعَ ما ذابَ مني في إناء لطفهِ فحوَّلهُ إلى طينٍ لينٍ ثم شكّله برحمتهِ ونفخ فيهِ، هذا كافٍ بالنسبة لي لأشعر وأتأكد بأن الحب معجزة، والمعجزات لم تُكتب في قدر الجميع..
الآن بات قلبي يرفّ لشروق الشمس ويضحك مع العصافير ويطير فرحًا باستكشاف الخلق، يُبحر في فضاء الشعر الذي لم يُنصف قائليهِ وقارئيهِ، لكني لا أُبحر فيه بحثًا عن الإنصاف بل لأرى ما خلّفتهُ الآلام من كنوزٍ نادرةٍ وعظيمة..
والأهم من كل هذا أن قلبي أصبح كاتبًا، يصِفُ عوالم الآخرين ويراها ويأمل أن يزرعَ في كل عالمٍ زهرةً لا ذبول في قدرها ولا أسف..
ماء الحزن الذي تماسكت به طينة آدم على الأغلب كان ممزوجًا بقطراتٍ من الحب وما يجعلني أعتقد هذا أن الحب دومًا ما يقود الإنسان للجحيمِ تارةً وللجنّةِ تارات..
وربما بسببهِ أمارس الآن أكثر الأفعال الإنسانية كرامةً وعزّة ألا وهي: “الكتابة” بها أُنصِفُ ذاتي التي كانت في يومٍ من الأيام ضحيّةً لفكرٍ لُقّنتُ إياه، وهي واجبي بعد القراءة التي تُمهّدُ لي الطريق إلى الحقيقة التي لا تكفّ عن مناداة قلبي ..
هكذا هو الإنسان رهينُ رغباتهِ على الدوام، والحب أكثر رغبةٍ متعددة الوجوه في جوفه، وكلما فهم المرء رغبته ووعى أبعادها كلما اقترب من فهم سبب وجوده.