فجأة أسلم الروح لبارئها وتركني أهيم في أحداث ذلك اليوم باحثا عن سبب يجعل نفسي تصدق الخبر، وعقلي يقبل الرحيل حتى تنطفئ النار التي تأكل دواخلي.
بقيت تائها بين أحداث الصباح عساها ترتق جرح الشك الذي ينزف ألما. ها أنا أراه جالسا وبين يديه كسرة خبز وأسنانه تلوك قطعة لحم والفاطمي أمامه كأنه يودع وإياه آخر وجبة سيتناولانها سويا. أو كأنه يحثه على أن يسرع كي لاتباغثه المنية دون قتل ما تبقى من الجوع في نفسه، أو كأنه يحثه على إكمال ما تبقى له من قوت دنياه ليلتحق بالرفيق الأعلى.
وها أنا أراه قد أنهى براد شاي، وأخذ يعد آخر ليتناوله وعمر وبإيعاز من ملك الموت الذي ينتظره ليتم ما بقي له من مشروب الدنيا.
لما تلقيت الخبر صفعت مخيلتي آخر نظرة إلى وجهه المشرق والحياة تداعب كل ملامحه، ثم جلجلت في أذني آخر كلمة نطقها فوه حينما ودعته متوجها إلى عملي: “أعانك الله” وهو جالس على كرسيه ويداه بين فخذيه فوق جلبابه الأخضر. لا شيء ينذر بالموت، ولا شيء يبعث بها للوجود. مستبعدة بعد السماء عن الأرض، لكن فقط عن فكري، عن نظري، عن وجه أبي… أما هي فتراقب ساعة معصمها كل حين تأهبا لخطف روحه، والبحث عن روح أخرى مدون اسمها في كناش المبحوث عنهم هذا اليوم …
ذهبت به وتركت أطفالا صغارا بباب المنزل ينتظرون قدومه كأنه مسافر. أعينهم الذابلة تذرف ويدان دمع بسبب لهيب الفراق، وصعوبة التصديق، تقول إيمان: ” لا تقولوا لي أن جدي قد مات، جدي لم يمت، جدي لم يمت… قل لي يا أبي أنه سيعود. ” أجبتها: ” نعم، سنلتقي به إن شاء الله”. تقول ملحة بصوتها المبحوح: ” قل لي أنه سيعود”… أما عمران الذي اعتاد ألا ينام إلا وهو بين أحضان جده، فغفله النوم وهو ينتظرني آتي مصحوبا بجده كما العادة، أما عبد الله فتدرف عيناه – في صمت مرعب – حبات مسترسلة تتكركب على خديه كأنها أحجار كومة.
في اليوم الموالي، وأنا عائد به من مستودع الأموات أزلت الغطاء عن وجهه لمرات عديدة ليتأكد لي خبر وفاته، أو لأرى إن استيقظ حتى يقول لي: “وداعاً” لأستوعب النبأ العظيم.
أخيرا، عاد لحفدته الذين ينتظرونه، لكنه جثة بلا روح، وعيناه اللتان كان الفرح يتطاير منهما مغمضتين في وجوههم. أصروا على رؤيته، فتناوبوا على رسم قبلة وداع على جبينه وأعينهم تفيض دمعا، خلافا لما تعودوا فقد كانوا يقبلونه وثغورهم باسمة وأعينهم تشي بسرور منقطع النظير، وأجسادهم ترفرف من حوله كأنهم فراشات فصل الربيع. أما الآن فهم يتمايلون سكرانين من هول الصدمة الجاثمة على مخاخهم الصغيرة.
خرج النعش وخرج معه الفرح والسرور، وترك النفوس في ظلمة حالكة. ترك الوحدانية تتبختر على قلوب الصغار والكبار. تركنا كأعجاز نخل خاوية منزوعة الجذور، تتهاوى، يساومها السقوط. تجذبها الأرض إليها كما جذبت الجثة إلى جوفها.
وأنا غارق في الدعاء فوق القبر، أخذت كلمات أبي تهمس في أذني “نحن مجرد كتل من التراب تمشي فوق الأرض مصيرها – مهما طال الزمن – للالتحام بأصلها”. رحمه الله لم يكن يتوانى في الدعاء بأن يأخذه الله في جزء من قوته لكيلا يعذب ولا يتعذب. استجاب الله دعوته السهلة على اللسان الثقيلة على الجنان، دعوة أراحت الميت وعذبت آله الذين استعصى عليهم تقبل الحدث: مات؟!!! كيف؟ وبما؟ ولما؟… فالذهن لا يؤمن إلا بما وافق السببية، ودون ذلك يجد نفسه عاجزا عن قبول الحدث، فيضيع جريا وراء سراب أوهام التأويلات التي إن لم تجد سندا يعضدها تتحول إلى وساوس مفتوحة على احتمالات تؤدي إلى نتائج أغلبها كالإبر تخز الذهن كأنها تعاقبه على البحث في المقدور، فيغدو التفكير كبنزين يصب على نار العواطف المتأججة، فيزداد احتراق القلب. يحاول الذهن الفرار بعيدا عن هذه المحرقة متعلقا بأهداب الصبر وبقراءة سورة “يس”، لكنه سرعان ما يفلت العقال، ويشرد فتصبح “يس” حروف بدون معنى…
وضعته في قبره بيدي، لكن عيني أبت أن تصدق ما رأت. فقد اختل ميزان العلاقة بين العينين والذهن. غاب الوعي وترك وساوس الأوهام تتلاعب بي كأني قطعة قش بين يدي الرياح.
هجرني عقلي رافعا عني القلم، فأضحت عيناي تنظران ولا تريان، وأذناي تسمعان ولا تعيان، وفي ينطق ولا يدرك ما يقول. كنت في عالم خاص غير عالم الناس. اسمع لغطا، بكاء، وأرى حركة دؤوبة… كلها تموجات خالية من المعنى.
استمر غياب عقلي ثلاثة أيام وحينما عاد كأنه لم يعد، عاد منهكا عاجزا مثلما مرتخي الأعصاب، وسارح في دروب ظلماء، أو كأنه هائم في صحراء قفراء لا معالم فيها، ولا حدود تحدها، يعوم في فضائها باحثا عن سبب واحد يبرر موت الفقيد.