“لا وجود لقاعدة، كلنا اسثناءات لقاعدة لا وجود لها.”
تصدُق عبارة كهذه على رواية “الخلود” لكاتبها و كاتبي المفضل أيضا ميلان كونديرا، نظرا لأن لا هي و لا صاحبها يخضعان لوصايا أو قواعد القراءة المعتادة نقدية كانت مُقارٍنة أو وصفية؛ فموضوعاتها مثلا مبعثرة و متشظية لدرجة يصلح عشرة منها لرواية منفصلة: إذ تتضمن نغمة تاريخية نوستالجية ممزوجة بالسيرة الذاتية لغوته و بيتينا. مرورا بسرد واقعي لقصة معقدة بين أختين يزيدها زوج إحداهن بول درامية، ليصل بنا المؤلف إلى حكايا أنطولوجية عن المجتمع الحديث عبر التعريج عن الشهرة و المجد السياسي و الإنساني الذي تلعب فيه الصحافة دورا جوهريا يراه فقط ذوو الألباب و النظر الثاقب. المالكين لميكروسكوب على شكل قلم.
مع كل هذه الملاحظات، و رغما عنها لا ضير في محاولة تقديم لمحة خاطفة عن مشروع روائي أخاذ وصل مستوى أن صاحبه لم يعد بحاجة للظهور في المجال الإبداعي إلا لماما.
دعونا نتجاوز بعض التفاصيل التاريخية للرواية كسنة كتابتها 1990، دواعي كتابتها أو ظروف كاتبها؛ حتى نستطيع الإمساك بأهم ميزاتها المرتبطة بالقارئ أولا أخيرا. تلك التي تدفعه لمشاركة متعة قراءتها مع الآخرين بدل احتكارها و هو ما يدل على ثقل جاذبيتها و جماليتها.
أول خصلة للرواية- وروايات كونديرا فعلا بها خصال لأنه يبعث فيها حياة الكائن الحي حتى ليصير لها أنا و شخصية. روحا و طموحا- هي اعتماد أسلوب لغوي قائم على صياغة شذرات أي جمل قصيرة مبنية بطريقة شاعرية و في نفس الوقت ذات مغزى عميق و جديد لا يمسك به إلا كاتب متمرس و متفرد خصوصا لأني أعتقد أن التمرس عاجز عن بلوغ مدى إبداعي كهذا. هذا الإختيار الشذري يتيح للكاتب اصطياد أنماط شخصيات و أحداث ليست غريبة جديدة و مبهرة للقارئ فقط بل مستفزة بالنسبة للمعايير الذوقية التي يكتسبها القراء على مدى طويل، بحيث يضطر بحكم وضعه كجامع لعسل الروح لأن يقف مشدوها أمام تلك الشذرات أكثر من الوقوف على الشخصيات و الوقائع التي تحتل صفحات عديدة. و لنأخذ مثالا صارخا على هذا الإمتياز حين يتحدث كونديرا عن تعرض لورا إحدى بطلاته للإعتداء من مشردين في محاولة اغتصابها و نهب حصالتها. فيقول في حق المشهد:”….رغم أنها كانت فارغة تماما، فقد كانت تُمسك بها بقوة كما لو أنها أودعتها شرفها و معن حياتها و روحها”
يعني هذا أن كونديرا لا يصف المشهد بشكل جاف محايد بل يعمل على دمج القارئ المستهتر بمسيرة السرد اللامبالي بمجريات الأحداث كي تصير ذات حمولة نفسية قوية ملتصقة بعقال القارئ لكأنه شاهد عيان رئيسي على فعل السرد الحقيقي و هو أمر طالما ألح عليه الكاتب في تنظيراته عن الرواية عندما أكد أن:”خيال القارئ يكمل خيال الكاتب”.
ترتبط بهاتين المهارة السردية لكونديرا حسنة أُخرى وحيدة في ذمته لا تقبل التعدد: إنها البراعة في السفر الخفيف الرشيق من موضوعة حكائية لأخرى دون إحراج أو ترك فج لإنسيابية الأسلوب. فهو يتحدث في نفس السطر على غوته الذي خاف من الحب و يفضل الأسرة ليتحدث على أناس ناقصي الأنا الداخلي يكملونها بامتلاك أشياء كقطة أو نظارة يعتبرونها امتدادا جوهريا لهم. هذا اللعب المستمر و الوثب السريع من خط لأخر لا يسبب الفوض في مونطاج الرواية لأنه ليس استعراضا متبجحا بكثرة المعارف و خصوبة الخيال بقدر ما هو ضرورية جمالية تأليفية تتيح التذوق الحقيقي للرسائل المرجوة من الرواية، و قد فسره صاحبه سابقا بأن الرواية الأوربية منذ ولادتها مع رابليه و ديدرو و موزيل كانت عبارة عن نشاط لعبي غير صارم بل مهيج لمساحة حرية يحار فيها حتى أعتى الفلاسفة المزهوون برباطة جأش منطقهم.
كي نزيد في تعداد مواصفات الرواية علينا أن نعلم أن كونديرا واحد من المتلاعبين بعقارب الزمن المبتوثة فينا؛ لأنه يدمج بين حِقبٍ تاريخية متباعدة في قالب حكائي واحد فريد و ذلك بفضل خيوط ناظمة تظهر لنا غير قابلة للإلتقاء. بل حتى مجالات في الحياة اعتقدنا طويلا باستحالة تمازجها يجعلنا كونديرين نتوقف أمامها طويلا كي نتأملها.
إننا أمام نهج سردي يكاد يشكل براديغما متكاملا لكونديرا ؛ هو الذي برر هذا الإختيار بأنه قادر على قول أشياء كثيرة ، كثيفة مخفية في ظلال الطبيعة الإنسانية أو التاريخ المعتم للمجتمع و التي لا تستطيع إلا الرواية وحدها التعبير عنها. من قبيل أن تكون خفة الكائن الدالة على انعدام قيمته مؤسسة على نزوعه الجنسي في الوقت الذي ينبني الثقل على الحب باعتباره حالا عزيزا في النفس البشرية.