(الأرض والحب والمكان ….الثالوث الذي نحيا به)
يتصارع الإنسان منذ بداية خلقه مع الزّمن ليثبت كينونته ووجوده على البسيطة. ولأنّ الذّات البشريّة توّاقة للمجد والخلود، فيسعنا أن نضفر في قصيدة الشاعر اليمني عبد الباسط الصّمدي التي وسمها”لعيون امرأة من بغداد”، ثلاثة معاجم جعلت نصّه فريدا ومتميّزا ، وهي كالآتي: معجم الأرض (الانتماء والهويّة)، معجم الحبّ( الأحاسيس الفياضة و الذكريات الجميلة) ومعجم المكان( القلم والتاريخ والحضارة).
فبواسطة المعجم الأوّل اتخذت الأرض لدى ذات الشاعر مفاهيم كثيرة وعديدة: إنّها ذكريات الماضي التّليد، وهي الفردوس المفقود الذي كان يفيض خيرا ونعيما، إنّها مترامية الأطراف في كل الاتجاهات تمنح سكّانها القمح والأزهار والثّمار، وتغدق عليهم بسخاء وكرم عطاياها. وهي الألفة الٌتي تجمع الشاعر بأحبابه وعائلته. إنّها الكرامة والعزّة. و لعلّ وجه الشّبه بين الأرض العربيّة المعطاء وحبيبة الشّاعر هذا السّخاءالنّقيّ بلا حدود ولا شروط. فذات الشاعر تلمح هذه المرأة الاستثنائية في كل شبر على هذه الأرض. و تتجاوز قيمة الحبيبة في عيني عاشقها حينما يستحضر معجم الحبّ والشعور ” العشق، عاشق،الحبّ،القلب، إحساس،ابتسامة…” إنّه معجم ينبض حياة و مشاعر جيّاشة تصف أحاسيس الشاعر وهو يبدي حنينه لامرأة حضورها في مخيّلته ألغى جميع النّساء. إنّها جمع في صيغة إفراد و “وسيلة لتحقيق السعادة وإكمال نقص النّفس والعثور على العزاء من وحشة العالم”. يجعل من الموجودات الّتي تحوم حوله تنسجم وتتّسق لتشاركه فعل الامتلاء. الامتلاء بعواطف بهيجة تكشف عن تجربة عميقة في مستوى الإحساس، كشف عنها استعمال ضمير المتكلّم المفرد ” أنا” في قوله:
” أنا عاشق والعشق
مهارة بركان مغمور”.
وفي أوقات أخرى ورد منسوبا إلى ضمير الغائب المفرد المؤنّث” هي” ممزوجا بضمير الأنا، قائلا بنظرة تفاؤليّة:
” كانت تبتسم على خجل
وكان قلبها الّذي أحبّ
يحفّ قلبي الّذي كان
ذاهب للفرح في فلسطين”.
ولعلّ لفظة ” فلسطين تعمّق الإحساس أكثر. فلم أراد الشاعر اليمنيّ “عبد الباسط الصمدي” أن يبحث عن الفرح في فلسطين تحديدا؟ لم هذا الاختيار ؟!
إنّه اختيار صائب ينمّ عن وعي ذات مبدعة تعرف موطن الدّاء و اسم الأعداء.. إنّ فلسطين الحبيبة التي لاتزال غارقة في الحروب وفي دماء أبنائها الشهداء ألا يحقّ لها الفرح؟ ألا يحقّ لها أن تنعم بخيرات أرضها الخصبة؟ ألا يحقّ للشعب الفلسطينيّ أن يعشق كغيره من البشر، وأن يعيش ربيعه؟؟ استفهامات كثيرة نستشفّها من مفردة فلسطين وهي رمز النضال في نفس كل شاعر عربيّ غيور. وما نضال الذات المتلفظّة في القصيدة سوى جزء من النضال العربيّ ضد العدوّ الخارجيّ. وما استحضار معجم المكان بذكر أسماء مدن عربيّة شبه” قرطاج، بغداد، بئر مدين، جرش..” ومدينة ” قرطبة” الّتي كانت عاصمة الحكم في الأندلس في العصر الإسلامي و تاريخها الضّارب في القدم إلاّ خير برهان عن تاريخ و حضارة هذه المدن العربيّة التي تزخر بأهم المعالم والآثار منذ العصور.
” لعيون امرأة من بغداد” قصيدة لخّصت كل الأفراح والأتراح العربيّة ، كل المشاعر والآهات الإنسانيّة لتحلّق مفرداتها في سماء الخلود كما تحلّق نخلة بغداد في سماء الأوطان العربيّة وكما تغزو المرأة البغداديّة عقل وقلب شاعر أرهقه العشق والحنين فلم يجد سبيلا سوى أن يمتشق حسام الكلمة ليحوّل خلجاته إلى نصّ شعريّ تمتزج فيه الحداثة بالتّراث والشّوق بالوصال و الأنا بال”هي” في فضاء قصيدة جمعت كلّ المتناقضات بأزمنتها وأمكنتها المختلفة.
في الختام أوجّه أعطر التحايا للشاعر العربي واليمني ” عبد الباسط الصمدي” ، وأقول له هنيئا لنا بهذه القصيدة الاستنائيّة.