حَط الهوى رِحالهُ مُتعَـبًا في فؤادِها، فـسقطَ الجسدُ مُتهالِكَــًا في فَمِ الذِكرى، على يسار رصيف الحياة، هُناك عانقت المقاعدُ الخشبيـة جذور الشجر
اتساءل، كيف هو شعور الشجرةِ التي تنظرُ لِجُزئها المبتور..؟
فهذا جرّدوه من ذاتهِ وغرزوا فيهِ مسامير الوَحدة، ولم يَعُـد بإمكانهِ المساسُ بقومهِ
وتلكَ الجذور مصيرُها قاعٌ مُظلِم، كان السبيل الوحيد لإتصالِهِما هو ذلك التُراب، وهو ذاتهُ سرَق مؤنِـسَ روحها..
أتراهُ استكبر..؟، أم أغراهُ سيلان الفـقـد المتدفـق فستحكم..؟
ثم استقامت بِجلوسِـها في ذات المكان الذي أُحيِيت فيهِ بابتسامـةِ راحِلها وبانتظارهِ شاخَت هي وأحلامُها، قبلَ خمسِ شتاءاتٍ ومـثلَـهُنّ أضرِحَـةً للربيع
وفي لحظةِ اللحظـة بدأت تجري حولها الذكرياتُ ضاحِكـة، وأشدُّها جمالًا تِلكَ التي أتت بِطيفهِ نحوها آسِنَـًا، جَلَس الشوقُ على يسارها مُتأمِلًا طيفَ زائِرِهم، والمحبةُ في أرجوحةِ الشجرة تبتسم، وعلى الغصن الرابع يعزفُ الفـقدان مقطوعـة اللقاء، ثم جاء الوِد مُسرعًا وأرتمى في حُضنها فرِحـًا، ثم أحاطت بِهم صِغار الذكريات وبدأوا يستمِعُونَ لِحكايةِ الرمـاد..
بِلطف المودّعين يبتسم قائلًا: يُحكى قديمًا أنهُ كان هُناك مملكةٌ في أقاصي الغـيـم، يعيش فيها شعبُ الألوان بوِدٍ لا مُتناهي، وفيها كما في كُل الممالك، لونٌ منبوذ؛ بسببِ شكلهِ القبيح..!
وكان فيها لونٌ إتفقَ الجميعُ على أنهُ الأجمل، حتى أنهم جعلوه عنوانًا للفرح، لكنهُ في داخلهِ لم ير نفسهُ مناسبًا لهذهِ المسؤوليـة، كان ضاحِكـًا لهم وحزينًا مع ذاته؛ لأنهُ كلما أقتربَ من أحد الألوان إنطفأ وخبا بريقهُ ولا يعلمُ السبب
مع مرور الأيام إنطوى لونُ الفرحِ على ذاتهِ وأصبحَ وحيدًا، تذروهُ الرياح من مَدينـةٍ لأُخرى، حتى وصل مدينةَ التدرّج، رأى الألوان تَرقصُ مع تدرُّجاتِها وضَحِكاتُهم تملأ الشوَارع، سأل أحد المارة: مالذي يحدثُ هُنا..!؟، أجابهُ بابتسامة: يبدو أنك تأتي للمدينة أول مرة، تعال معي، سأريك ما يحدثُ هُنا..!، ويصدف أن الذي سألهُ كان هو ذاتهُ اللونُ المنبوذ، و هُم يعبرونَ الشارع أخذَ بيدهِ مُسرِعًا مُمتلئًا بالمرح، يقفزُ ويضحك، يكتبُ على الجدرانِ ما حاكَ في صدرهِ لكن بطريقةٍ تُظهِر أن ما يفعلهُ هُراءٌ وإضاعةٌ للوقت..!، و هُما على وشك الوصول للساحة الكُبرى أخبرهُ أن في هذهِ المدينة، تدخلُ الألوان إختباراتٍ عِدة؛ لِيُصبحَ لِكل لونٍ عشرين شبيه، وهذا ما يُطلقونَ عليهِ التدرّج ، كان الأبيضُ مندهِشًا، ليس لِما أخبرهُ بهِ، إنما لأنهُ أشرقَ بجانبهِ ولم ينطفئ،
– هَـَي، لِمَ الصمت..؟
– أووه، آسف، كنتُ شارد الذِهن
وأنت، أين هُم أشباهُكَ العشرون..؟
– لا رغبةَ لهم بِي ،فكيف يرغبون بأشباهي..؟
– لماذا، ألستَ أحد السُكان..؟
– يبدو أنك لا ترى بِعينيك ما يجب..!
أُنظر إلى شكلي هل أبدو لكَ مقبولًا..؟
– و ما بهِ مَظهرُك..؟، أنهُ جميلٌ ومُشرق..
– لطفك هذا سيأخذ بيدك نحو مجزرة القدر،
هيا بنا نتسكع…
مع توالي الشهور، اعتادت أعمدةُ الإنارة على السَهرِ معهُما رِفقةَ الشارع، نشأ بين الأسودِ والأبيض صداقةٌ كما لم تَكُ بين أحدٍ من بعدِهم، كان شعورًا لطيفًا وصغيرًا، وكان الشروقُ مُلازِمًا لِكليهما
الأولُ هادئٌ جِدًا والآخرُ مَرِحٌ للغايـة
يَدًا بِيد سارا معًا حتى الوصول الأخير، في يومٍ نِصف غائم، كانت جميعُ الألوانِ مجتمعـةً؛ من أجل التحضيرِ لِعَرِضِ التدرجِ أمام الحاشيةِ الملكية..
قال الأحمر: أين لونُ الفرح..؟
أجابهُ الأخضر: لا بُد أنهُ في الطريقِ إلينا..
ثم أردف الأصفر: أما عَلمتُم أنهُ يتسكعُ مع ذلك القبيح..؟
يقضي جُلَ أوقاتهِ مع الأسود
وإن لم تفعلوا شيئًا، سيتسبب بِفضيحـةٍ للأبيض، ولن نجد أحدًا نُلقي عليهِ بِفشَلِنا غيره، سَمِعَ صاحِبُنا حديثهم دون قصد، فَفهِمَ أنهُ قد يؤذي صديقهُ بِقبحِهِ، و يشوهُ مسيرتهُ الناصعة..، لهذا قرر اللقاء بهِ بعد العرض، لِيخبرهُ بأنهُ سيرحل للعمل في مدينةٍ أُخرى، جاء لونُ الفرح مبتهجًا، فهو سيؤدي أولَ تجربةٍ لهُ على المسرح، وبدأ يستعد، وعينيهِ تجريان بين الحاضرين بحثًا عن رفيقهِ، وأنيسَ وَحدتِه..
فقد وَعدهُ بالحضور، لكنهُ لم يلبث إلا دقائقَ لِيفهم أن الأسود لم يَحضُر، فَعاد الشعور القديم يطرقُ بابَ فؤادهْ، ذهبَ يسأل عنهُ رُفقاءَ العرض، رأى الأحمرُ لون الفرح مُنغمِسًا في البحث عن صديقهِ، فقال في نفسهِ: هذهِ فُرصةٌ جيدة، عليّ إستغلالها لأتخلصَ من ذلك القبيح وللأبد، أنا أشتاقُ حقًا لأرى أجزاءهُ المُتناثرة..
نسيتُ اخبارَكُم، أن اللون الأحمر كان يُشرِقُ بالألم، يهوى التملُك، ويتعمدُ إغواءَ الناظرِ إليه، لِيستبيحَ دَمَ المشاعِر.
– ياأبيض تعال إليّ.
– نعم، ياأحمر..
– أرى بأنك تبحثُ عن صديقك، هل وجدته..؟
– لا، لقد وعدني بالحضور، لكني لم أجدهُ في أي مكان.
بابتسامَـةٍ أبكت الخُبث، رَد عليه: لا بأس، سأذهب لأحضارهِ، عليك أن تتجهز جيدًا للعرض، إتفقنا..؟
– حقًا، ولكن لم يبق وقت، ربما ينادونني للمسرح.
– وأنت ستفعل ما يجب..!
لا تقلق سيكون رفيقُك هنا، وسيشاهدُ كل حركةٍ تقومُ بِها.
كان الأبيضُ ساذجًا و وَثِقَ بِكلامهِ دون أن يُعقب، وكَـتعبيِرٍ عن فَرحِهِ، رَدَ عليهِ بِعناق المُحِب، وذهبَ عنه.
إشتاطَ لونُ الدمِ غضبًا وقال: كيف لِذلك الأحمق أن يحصُلَ على هـــذهِ المحبـة..؟
سأقضي عليهِ، وأجعلُ لونَ الفرحِ مُلكـًا لي..
فأرسلَ إلى الأسودِ خبرًا، بأنهم يحتاجونَ على وجه السُرعةِ عامِلًا لِتأديـةِ دورٍ خطير على المسرح، لِئلّا يُصيبَ محبوب الجماهيرِ مكروه، بالطبع لن يستكينَ صاحِبُنا في مكانهِ، وفي الوقتِ نفسهِ لن يذهب بِشكلهِ الفاضِح، كما يثرثرون بأُذُنيهِ دائمًا.
حَضرَ الأسود مُتنكِرًا بِزيِ الألوان المُدمجـة،
بِمجرد النظرِ إليهِ تَعرف عليهِ الأحمر، فَسحبهُ جانبًا وأخبرهُ بأن هـــذا الزي مُخزٍ جدًا، واقنعهُ بأن يكون زيـّـهُ مُشابِهًا لهُ، أيّ أحمرٌ للغايـة، كانت خطةُ لونِ الدمِ مُحّكَمـة، بِجعل ثُريا الألوان الحادة أداةً للقتل، كان لونُ الفرحِ أسفلها يشعُ بهاءً وهو يتمايلُ وفي داخلهِ يقينٌ بأن أنيسهُ في مكانٍ ما يُشاهِده، بينما كان هو في الظِل حارسًا، لم يعلم أن هـــذا هو المشهَدَ الأخير الذي سيراه..
بدأت تدرّجات الحَد تُرخي ثُريا اليُتم،
يُراقص الوداعُ الفرحَ أمام العيون
يبكي النسيمُ مع النوافذ
فقد كانت كُلُّ الأشياء ترى النهاية إلا الحاضرين..
دفعَ الأسودُ فرحهُ أرضًا، فما ترك الأبيض يدَ صاحِبهِ، إخترقت شظايا الفقد جسد الرفيق،
الجميع رأى أن الأحمر ضّحى بنفسهِ؛ لأجل لونِ فرحِهم..
ما كان من ذلك المنبوذِ إلا أن يُكمل ما بدأ بهِ..!
تناثرت قطرات الدمِ على الصديقين من اللون الزائف، ولِيُنقذَ فرحهُ كان لا بُدّ من دفع الشظايا عنه وإن فعل، سَيُلطخُ الجميعَ بِسواده، بابتسامَـةٍ آسِـفـة نظرَ للأبيض نظرةَ وداعٍ أخير، فتناثرَ على أجسادِهم سوادٌ نقي، كان نصيبُ لون الفرحِ أكبر من نصيبهم لأنهُ أشدُّهم قربًا إليه..
فأزهرَ الرمـادُ في كُلُّ الأشياءِ التي مَسّها السواد كَذِكرى من قَدرِ الصِدق.
مُذ ذلك اليوم، أصبح الأبيض والأسود عنوانًا للرماد، وأصبح الأبيضُ لونًا يستغني بهِ فقراءُ الفقد، ويستشفي بهِ سقيمُ الشعور…
أما الأحمر، فلم يمسسهُ شيء، ما زالَ يلهو و يعبثُ حتى الآن…
و الأسود لم يَعُـد قبيحًا، لقد أصبحَ مِثاليًا، كما جعلوهُ ذِكرى يفتخرُ بهِا الجميع،
لكنهُ في المقابلِ تركَ لهم لونًا من الوداع الأخير إكتَحلَ بهِ كُلُّ شيء حتى الشعور،
الغيوم حين تبكي، والقلوب حين تفقد، والألوانُ حين تتعب، والفرح عندما يغلبهُ الحزن، والرصاصُ حين يقتل..
كُلها وأشباهُها رماديـة اللون..
وها أنتذا، قد أصبحتِ رماديـة القلب.
اُذكُـرِيِـنِـــي كُلما يَحِلُ الشِتاء، فهو فصلُ الرمـاد المُفضل..
وحين تُراقِص أشعـةَ شمسهِ تجاعيدَ الشجر،
وحين تَـقصِمُ قطراتُ الندى ظهر النمل.
سأنتظِرُكِ عند هطول المطر، وعند ابتِسامات الصِغار الجاريةُ على ضـِفاف الأمل.
في هـــذا الوجود، كُلُّ لِقاءٍ وجهدٍ للنُضج، سيُدفَعُ ثمنهُ…
شيءٌ أخير: مُعظمهم يظنُ أن لون الدمِ أكثرُ تعبيرًا عن الحُبّ، لكنهُ في الواقع ليسَ إلا جنونٌ مُتملك..
أُنظُرِي إلى الوفاء،
لا نستطيعُ عَدَّ تجاعيدِهِ الرمادية ولو بلغنا ألف عام..
وهل أُخبرُكِ عن العجوز الشاب،
ذلك الذي يُطلقونَ عليهِ إسم “الأمل”
نعم، إنهُ أكثرُنا رمـادًا وأكثرُنا حياة،
وهـــذا هو لون الدموعِ والمطر..
أما نحن، نميلُ دون قصد، نُريد ولا نُعطي، نَكسِرُ ولا نرغبُ بأن نُكسَر..
يارمـاديـتي..
فليكُن مَوعِدُ لقائنا عِند وداعِ الأوراقِ للشجر، وعِندما تنهمِرُ دموع الغيمِ مواسِيـةً جذورَ السقم..
ولِتَكُن هـــذهِ الحروفُ تَذكِرةَ السفرِ إلى بقايا الوطن.