1
تأتي جنّات بيدها قلم ملون، ترتدي تنورتها الزرقاء عليها رسم طيور بيضاء وأشكال من الورود، تطل عليّ من باب الحجرة الدراسية فرحة تتطاير الفراشات من بين يديها كالضوء الهارب. تزرع الحب في كل مكان.. تقفز فوق مربعات الزليج الأرضي؛ الأبيض والأسود، إسفنجة مملوءة هواء..
– عمو..عمووو…
وحين لا أنتبه.. تكرر..
– أستاذ… هاني..!
تمد إصبعها الصغير ناحية السبورة السوداء، تخط بالطبشور الأبيض فراشات لا حدود لها، ترغب أن أكمل الرسم وحين ألونه تطير فرحا… وتضحك…
– عمو.. هاذو فراشاااات اديالي ..بغيت طوطو..
أرسم لها طائرات وسيارات بعجلات ورودا، أشجارا، ألوانا.. بالسرعة التي تجعلها تتابعني واندهش للأثر الجميل الذي تحمله تعابير وجهها الصبوح تحضر أمها.. وتشير إلى امتداد شكل الفراشات وما ولدته وأنا أضحك وهي تضحك..
تطلب أوراقا وتمضي إلى نهاية الحجرة ترسم وحدها.. أشكالا، مربعات تخلط الألوان تمزجها وتضحك.. تصرخ .. ولا أحد يكلمها… لأني منشغل ببقية التلاميذ.. تمضي إلى الحجرة الثانية تضع يدها على رأسها، تخرج لسانها، تحاول أن تثير ضجة مفتعلة، تصرخ اتجاهي..
– عمو..عموو … أنت خااايب..
2
في الغد تحضر باكرا تقبلني وكأنها تتصالح معي، تحيلني إلى صورة رسمتها البارحة مشيرة.. بلهجتها ..
– مووممو..
أقول ضاحكا..
– مومو هي أنت..
تبتسم ابتسامة ملفوفة بعطر باذخ وتخطو خطوات صغيرة قرب أقرب تلميذة لتجلس، ترنو إلى صور الكتاب المفتوح.. عو عو… هاو هاو..
مقلدة أصوات الحيوانات، يتضاحك التلاميذ تسكت فجأة. تعيد جملتها مما يجعلها سعيدة بأنها أثارت ماء الشغب وملل الدروس الثقيلة على جو القسم المكهرب تنتفض بهدير محرك صغير تجاه السبورة وتتخذ وضعا مستقيما أمام التلاميذ..
– سا.. تتوا (اسكتوا).. واضعة إصبعها الصغير أمام شفتيها.
3
غابت، في يومين وعادت يدها على الباب الموارب، رأسها مائل كرمانة وعينيها العسليتان تشعان فرحا، مطرا هائلا يصلني شحنات مكهربة.. تسرع بالتقاط أنفاسها وهي..
– هااانا… جيييت.. عمووو.. ثاني..
من بين الأماكن التي تحبها وتختارها الظل، لم يكن شجرة وارفة أو ما شابه ذلك، قضبان النافذة هي المجال الذي تحبه، تدلل نفسها وهي ترغمني أن أضعها وراء قضبان النافذة، يدي على الشباك وعلى يديها أخاف وهي تضحك، تضحك تأمرني أنْ أتركها وكأنها في قفص تفرح أكثر وهي تمسك لاهثة.. مسرورة بهذا الوضع بين الشباك تلوح لكل المارين والجالسين تلوّح، تكاد تسقط والكل يخاف عليها. متى تنهار وتنفلت هذه القضبان..؟
كل العالم من أجل جنّات إلا جنات نفسها..
4
تدلف القاعة بخطوها السريع الشفاف، سمكة تتهادى في الماء مسافة غير طويلة تقف، تشتت نظرها هنا وهناك باحثة عن شيء.. أتابعها تنط من مربع إلى مربع ومن صف إلى آخر كأنها تبحث عن فراشات تشبهها..
أنهمك في قراءة نص الاستماع وبعدها تصحيح الدفاتر الملونة للتلاميذ ولا أعيرها انتباها…
بعد فترة صمت أسمع ضحكات التلاميذ.. وقوفها الغريب جنب الباب يدها وراء نصفها وهي تتمنع تتصنع الاهتمام.. تنظر مرتجفة هذه المرة إليهم وإليّ … وما تحتها… مطرٌ هائل.
5
بعد عشرين سنة تكبر جنات، يكبر عمو ويشيب.. في حين تصبح جنات أستاذة وتتعين في نفس المدرسة التي كانت فيها تضحك وتلعب في الساحة وراء الشباك وفوق مربعات الزليج .. حيث يصبح عمو مديرا للمدرسة..
يفرح حين تناديه بعمو المدير، أريد أن أتغيب، وحين يرفض تقول له بلكنة طفولية… أنت خااايب..!
وبسرعة على غير العادة يضحك الجميع.. يحمر كحبات طماطم، يرضخ لطلبها.. ويمضي على أوراق..
تتزوج جنات بأحد أساتذة المدرسة وتسمي بنتها الحلوة الصغيرة نجاة.