تعطرت زوايا غرفة صغيرة حتى تشبعت بعطر الجوري الذي نسقه واختاره وردة وردة ليزين به طاولة عشاء أعدها بيديه لعله يرى شيئا اختفى منذ زمن أو يلتمس من ابتسامتها الباردة دفئا لم يعد موجودا , يحاول بل يجاهد أن يجابه سيلا من وساوس وتخيلات بمقدورها أن تجرف ما بقي من أطلال حب بنياه معا، ينظر في وجهها الذي بدا سعيدا للحظة قبل أن تمحى تلك التعابير والنظرات الشغوفة ليحل محلها وجه مصطنع وضحكات ممثلة تخرج من الجوف متحشرجة تخنقها مشاعر لا يعلمها أحد، ربما كان تمثيلها واضحا له فقط وكيف لا وهو الذي لازمها طوال ذلك الوقت وحفظ تفاصيلها سكناتها ضحكاتها وانهياراتها.
التزم الصمت شاردا يستمع لدقات قلبه التي تزداد شدة وغضبا بعد كل تساؤل يقفز إلى ذهنه،
ترى هل تراني مقصرا في حقها ؟
هل كسرت فيها شيئا لا يمكن إصلاحه ؟
أبها ألم ينخر جسدها ولا تخبرني به ؟
تطن أذناه ويندفع الدم بقوة في أوردة قلبه فتزداد دقاته كلما وصل إلى آخر ما يخشاه ، هل هناك أحد غيره ؟ وكيف لا وقد ولى زمن كانت فيه العفة شرفا تنفس النساء عليه بعضهن وصرنا إلى حال نحنُّ فيه لتلك الأيام الغوابر ، لكن هل تفعلها هي ؟ ولم ؟
هذا السؤال وحده يدخله في دوامة مدمرة لا نهاية لها تبدأ “بمتى؟” وتنتهي “بأين؟”
وتدور حول سيناريوهات يكونها في عقله بربط بعض الأحداث بلا أساس ولا دليل، زادت ظنون وقف خلفها الشيطان نافخا و دافعا فتحرك لسانه قائلا ـ من هو ؟
ردت الزوجة بثقة دون أن يهتز لها رمش ـ من الذي من هو ؟
ـ الرجل الذي غيرك حبه ..
انفجرت الزوجة ضاحكة لظنها أنه يمازحها كعادته، لكنه جاد لدرجة جعلته يرى ضحكها استخفافا به فضرب الطاولة بيده قائلا ـ لست أمزح ولست غبيا لئلا ألحظ برودك.
في تلك اللحظة امتلات عيناها بالدموع ــ أمدرك ما تقوله ؟
ـ أجل
ـ هل لك أساس لترميني ببهتان كهذا ؟
ـ برودك ..نظراتك .. شرودك .. لغة جسدك المرتبكة طوال الوقت .. تجبرين نفسك على تمثيل السعادة فقط
ـ ألم تجد تفسيرا آخر غير هذا
ـ لو كان غير هذا لأخبرتني
ـ هناك أمور لا يمكننا الإفصاح عنها لمن نحب
ـ هل بجعلهم يعيشون في وهم ؟
ـ أراك انجرفت كثيرا … الأمر ليس كما يخيل إليك
ـ أخبريني الحقيقة إذا
ـ تم تشخيصي باضطراب ثنائي القطب منذ زمن طويل
ـ ماذا ؟
قالت بصوت تخنقه العبرات ـ كما سمعت … لست قادرة على عيش هذه اللحظة معك
ـ لماذا ؟ ..وكيف ؟..
ــ أجل أقدر صنيعك هذا من أجلي فلو لم تكن الآن معي لكنت أبكي وحيدة دون سبب … أنا لا أمثل الشغف و الحب أو السعادة لكن داخلي مظلم وموحش، تمر فترات في حياتي تفقد روحي فيها معالم الحياة و يتجرد فيها الكون من جماله.. لكن ماذا علي أن افعل.. أخبرني
هل أفقد إيماني بالله عز وجل ؟
أم هل اعتزل الناس و أبكي كلما تحطمت معنوياتي ؟
ليس لهذا حل غير الصبر وإجبار نفسي على التفاعل مع من حولي
وأن أقف كلما وقعت لأنه علي ذلك
ـ أنا آسف حقا ..لكن لمَ لم تخبريني بهذا ؟
ـ لا أحب أن أكون مثيرة للشفقة .. لم أرد أن تتسامح مع انفعالاتي وعصبيتي فقط لعلمك بحالتي ..أردت أن تحبني لا أن تشفق علي.
ابتلع ريقه بعد أدرك للتو أنه كمن رش على الجرح ملحا أو رمادا بدل البلسم , فسألها ينتظر ردا يرعبه علمه له.. فقد قرأ ما بين سطور كلماتها
ــ هل كنت ستبكين الآن لو لم أكن معك ؟
ــ أجل .. كنت الوحيد الذي يبقي قليلا من النور حين يجن ليلي
ــ كنت ؟
ــ استبقت الظن واحتكمت إليه ولو آثرت أن تصبر قليلا لعدت إلى سابق عهدك بي..
أجفل وقام من سريره يتأمل زوايا خلت من عطرها فاتخذت منها العناكب بيوتا جفت بين أوتارها أجنحة الشك.
شابكا أصابعه تحت ذقنه يلوم نفسه فيما لم يعد اللوم ينفع فيه.. تتكرر ذكريات تلك الليلة وما حصل بعدها كلما دخل بيته المهجور الذي كان حلما ورديا في يوم ما …