تعد تجربة الأستاذ الدكتور مصطفى لطيف عارف في تتبع منجزات الرواد ودراستهم وفق المناهج النقدية المعاصرة انعطافه مهمة في اشتغالات حركة النقد الجديد والتي انتهجه الباحث الدكتور مصطفى العارف منهجا مخبريا منذ سنتين، تميّزت تجربته بإضافة رؤى بحثية ميّزتها اللغة فقد تجوّل قلم العارف نحوها وحاورها ، سافر بين دروبها بسراج الكلمة.
ومن خلال متابعتنا لبحوث الدكتور نجد انه قد تعمّق في تفاصيل العلاقة المتشابكة بين الشعر والبيئة والحب في شعر الرواد وآخرهم الشاعر قيس لفته مراد . فبقدر ما يحمل الشعر من جمال أخاذ يحمل المكان الأجوبة وهنا يقع التماس الذي ميّز تلك العلاقة من دلالتها الرمزية للغة الشعرية .
هذه المحاورات الجمالية التي أشار إليها الدكتور العارف في أعماله النقدية فتحت فكرة عرض نصوص الرواد على المناهج الحديثة السيميائية وفق اجتراحات معنى التجريب ومعنى دراسة العلامات والنفاذ بين الهدم والبناء وبين الحياة والموت في كل مساحة تعبيرية شعرية.
فصاغ لنا من جدليات التحاور تلك خامة حسية متكاملة مع موازين الترنّم والغنائية المشحونة من الشعر والبيئة التي عبّرت عن الانتماء والجذور والبحث عن الذات في الوجود والتمازج الحسي المتماهي مع الواقع وصداماته فكانت تلك التراكمات كثيفة وهي تعانق المجازي بالحسي في منافذها الرؤيوية وهي تُشرق أبعد في عمق التصورات الشعرية.
لذا يرى الدكتورمصطفى العارف ان الشعر ذلك الوهج الأدبي الجميل، فالشعر هو تشكيل للغة ولأبعادها التخييلية والوصول بها إلى منتهاها. إنّه إعادة كتابة للغة وهي تمشي راقصة في عمقه. فلا تكاد تصل إلى المعنى المقصود إلا وهي متوجة باللهب المزدوج ، الحب والموت معا وقد التحما داخل القصيدة بشكل كلي. متعددة الدلالات وبليغة في لعبة الإيحاءات..
وتبعا لذلك، فغالباً ما يمنحان معنى جديد للمعنى ببعده المضاعف، ويؤسسان للجمال في أبهى صوره الفنية كلمةً وصورةً، واقعاً وتخييلاً. وفق رؤية جمالية شاعرية بامتياز، وفق مقتربات جمالية موغلة في الفنية وتشييد معالمها وفق رؤية مشتركة تجمع بين الشعر من جهة والبيئة والحب من جهة أخرى في إيقاع شاعري يمنح لجمالية التعبير الشعري وهجه المرغوب فيه باستمرار وهو ما يجعل من القصيدة تتحول إلى لوحة تُعبّر عن المعنى وعن معنى المعنى وتبين مدى ولع الشاعر بهذا الفن ومدى تأثره به وهو يكتب قصائده ويتفنن في خلق صور شعرية مذهلة فيها0
إما عن الكتاب قيد القراءة والصعوبات التي واجهت الباحث في تأليف كتابه “المقتربات الجمالية في شعر الشاعر قيس لفته مراد .فقد واجهت الباحث عدّة صعوبات فأعمال الشاعر ليست كاملة، لفقدان بعض الدواوين وبعض القصائد، وهناك الكثير من نتاجه المفقود,الكتاب جاء وفق العناوين الآتية :
الفصل الأول:حياته ,ثقافته –إثارة الأدبية –أساتذته-أراء النقاد فيه –وفاته – المدينة عند الشاعر المكان- الطفولة –الغربة والحنين –البيئة –الرمز-
الفصل الثاني: المرأة في شعر الشاعر0
الفصل الثالث: الرثاء في شعر الشاعر-رثاء الأئمة – رثاء الشعراء –رثاء الأصدقاء –رثاء رجال الدين-رثاء الحبيبة .
الفصل الرابع :قراءة نقدية في مسرحية الضحك ممنوع في المدينة .
الفصل الخامس: القصيدة السير ذاتية0
الشاعر قيس لفتة مراد ( 1929 ــــــ 1995 ) شاعر ستيني ولد في مدينة الناصرية وانتقل إلى بغداد في نهاية الخمسينيات وعاش فيها إلى موته. عَمِلَ مدققا في الإذاعة العراقية، ثم في الصحف كالثورة والجمهورية، كتب العديد من المقالات والقصص ، وكان يميل إلى العزلة الاجتماعية والثقافية، كان أمينا لمواقفه السياسية المعارضة للنظام..عاش قيس لفتة مراد سنوات حياته، قلقاً، صامتاً، معذباً ضجرا، يائساً . يمثّل صوتا شعريا مهمّا، فهو من الجيل الستيني الذي جدّد في القصيدة العربية ولاسيما في المضمون، كاللغة والصور لكن حظوظه قليلة في مرحلة ملتهبة بالتحولات السياسية والانقلابات والايديولوجيات التي دعمت بماكنتها الإعلامية أغلب الشعراء وأهملت آخرين”
من آثار قيس لفته مراد الأدبية: ديوان من أغاني الحلاج وأقصوصة قصيرة بعنوان (عودة إلى طفولتي) وديوان (العودة إلى مدينة الطفولة} وديوان (الفانوس) ومسرحية (الضحك ممنوع في المدينة) و(ديوان من شعر قيس لفته مراد) و(ديوان أحلام الهزيع الأخير) ومسرحية اكازو
صور المعاناة حين يصورها داخل كل قصيدة يكتبها وهو الذي عاش الحب والشعر والخوف والمرض والوحدة والغربة داخل الوطن حتى رحيله المؤلم عام 1995 في غرفة بائسة آيلة للسقوط داخل أزقة البتاويين القديمة، كان الشعر بالنسبة لقيس هو المنقذ الوحيد في أشد وأحلك الظروف القاسية التي عاشها وبخاصة في سنواته الأخيرة حين مات وحيداً! فحين انتقل الشاعر من مدينة الناصرية التي ولد فيها إلى العاصمة بغداد في منتصف العقد الستيني وكان يكتب الشعر والمسرح والأغنية، فهو شاعر متعدد المواهب ويجيدها بإتقان.
الشاعر قيس لفتة مراد من رواد مقهى “أبو احمد” في الناصرية الذي كان يلتقي فيه بأصدقائه وأبناء جيله من الأدباء أمثال عزيز السيد جاسم وخالد الأمين وصلاح نيازي وأسماء فنية وأدبية أخرى.
في صباه كان مسالماً ورومانسياً في هيأته وملابسه البسيطة وهادئ الطباع كما يصفه مجايلوه وكان من أشد المعجبين بشعرية السياب العالية ولم يخل شعره من بعض التأثيرات السيابية في بعض قصائده وعندما نشر ديوانه الأول عام 1966بعنوان “أغاني الحلاج” كتب في مقدمته قائلا: “لم يشدني إلى الحلاج تساميه ولا معاناته ولا نهاياته لذات التسامي أو المعاناة أو النهاية، إنما أحببت في الرجل انه صورة الإنسان المنفرد عن طبيعة زمنه وعن طبيعة أهله”، ثم أصدر ثلاث مجموعات شعرية أخرى وخزينا كبيرا من القصائد لم تنشر ولم يترك شيئاً مرّ في حياته إلا ودونه قصيدة أو بعض الأبيات انه شاعر الألم والحسرة والغربة والفقر، وقد صور الشاعر الغرفة التي سكنها في منطقة البتاويين ببغداد في قصيدته “منفى في زحام الظلمة” فأكد على زيف الغنى الذي سيزول لا محال ويفقد هيبته عند روح الشاعر الذي يسكن في غرفة مكشوفة السقف مستورة بعريه! وعرضة لانتهاكات الريح من خلال شبابيكها البالية والخربة فهي المنفى القسري للشاعر الذي مات في منفاه وحيداً إلا من بعض الأصدقاء القلائل الذين زاروه وهو على فراش الموت.
المرأة في شعر قيس لفته مراد:
كان يحلم بالحب، بمعانيه الطلقة السمحاء الصافية، يسوّغ وجوده ويبني مستقبله ويرسمُ أحلامه، وينفض عنه صدأ القلق والحيرة والضياع النفسي المعتم، لكن أين هذا الحب ؟ لقد كان يحس في محيط مجتمعه أساليب (الالتواء) على مرأى من عينيه ومسامعه، دون ان يقدر على فعل شئ ..
تشرّد الخطأ بقيس لفته مراد في سكون الليل، وهدأة خيمته وحيدا… معه ظلّه ومعه عدّة الكآبة وعتاد الحزن، ومعه جعبة للذكرى .. ذكرى الماضي الجميل في الناصرية .. ومعه حفنة من إعشاب العمر الباقية، وخافق ظل يعتقد انه مازال قادرا على الهوى، مفعما بالشعر، بالفنون، لكنه مجرد اعتقاد واهم، وهنا يستذكر قيس لفته مراد، الزمان وما آل إليه وضعه، ولعل شاعرنا في بداية حياته العاطفية، كان قد أحب حبا أفلاطونيا فتمثل حبيبته من خلاله مخلوقا له مزايا تندر أن امتلكتها امرأة في هذه الأرض، وربما كان مرد ذلك يرجع إلى تأثير البيئة التي نشأ فيها الشاعر، أنه تأثير البيئة .وسواء أكان هذا الحب قد تخيله الشاعر جريا وراء آثار شاعر حالم قرأه، أم قد وقع فعلا، شعر شاعرنا قيس لفته مراد بالعقبة التي تقف في طريق حبه، أنها العادات، والتقاليد القاسية التي لا تسمح له بحبها أو الارتباط بها،وكانت قضية الدين الإسلامي تقف هي الأخرى في طريق حب الشاعر قيس لفته مراد، لأن حبيبته مسيحية، ولا يحق له الارتباط بها، مما اضطرت إلى الهجرة إلى مدينة بغداد، وبقي الشاعر حزينا يتمنى لو أنها تأتي إليه ولو في الأحلام، وبعد مضي عشرين عاما، يتذكر الشاعر قيس لفته مراد حبيبته سوزان التي لن ينساها أبدا، ويبقى يتذكرها في كل حين، ثم يتمنى الشاعر أمنية لو تحققت له لكان اسعد إنسان في الحياة وأجمل الحب ما كان خالصا لا يشوبه غرض، ولا تعوده حاجة، ثم سافر الشاعر قيس لفته مراد إلى مدينة بغداد للبحث عن حبيبته (سوزان) لعله يلتقي بها، ولكنه لم يفلح، لأنها على ما يبدو قد تزوجت بغيره، واختفت من حياته، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن سوزان ما كانت تحب الشاعر قيس لفته مراد، وكان الحب من طرف واحد .
ويكاد يجمع اغلب أصدقائه ومعارفه الذين التقى المؤلف بهم على ان سفرته إلى بغداد، لم يكن غرضها الصحافة، والشهرة كما ادعى بعضهم، وإنما لالتقاء بحبيبته سوزان التي فارقته، مع ذلك فإنني أرجح أن سفرته تلك كانت للعمل، والشهرة في بغداد، وفي هذه الغربة والاغتراب من المدينة الجديدة بغداد، وضياع الحبيبة (سوزان ) فإنه يتمنى الموت، غير أن هذا التمني الذي يسعى إليه الشاعر لم يكن ضعفا يسوقه الخوف من غمار الحياة، بل كان فيضا من الحيوية التي تدفع بأصحابها إلى الانطلاق في عالم مثالي لا يلبثون معه ان يكرهوا ما حولهم من عالم الناس ويضيقون به، فيرى أن الحياة كما يفهمها غيره لا تساوي شيئا فينزع إلى طلب الراحة من جهاد مؤس، وهذا ما يفرق بين تمني الموت على لسان العاجزين، وبين التطلع إلى الخلود، وعلى الرغم مما كان عليه قيس لفته مراد من حال مزرية، فإنه حاول الزواج ليستريح في ما يبدو عليه من التفكير بصدمته البغدادية، وبشكل خاص، ما آلت إليه علاقته بـ(سوزان) أو قل ليتناسى حبها ومن ثم ليتدبر شؤونه، وقد تم ذلك بالفعل حيث تم عقده، غير أن هذا العقد في ما يبدو لم يكن يريحه لأنه يؤمن بأنه بحاجة إلى ينبوع دافق يبرد غلته، وفاكهة شهية تشبع نهمه، وواحة سجواء يستريح إليها، وبعد مدة من الزمن أصيب الشاعر قيس لفته مراد بصدمة كبيرة ألا وهي خيانة الحبيبة، إن الشاعر يخاف أن يواجه حقيقة مرة لا يمكن مواجهتها خصوصا من قبل شاعر حساسْ، وأصبح يعيش بعيدا عن مواجهة الحقائق وخصوصا الخيانة، لم يجد الشاعر قيس لفته مراد مخرجا من هذه الحالة المتأزمة التي عاشها، وقد يكون الرحيل هو الخلاص الوحيد من المكان الذي عاش فيه خيبة أمله العاطفية، ولو أن هذا لن يغير شيئا حتما فالكارثة على ما يبدو كبيرة، وضخمة ولدت جرحا عميقا في ذات الشاعر، وظل نزيفه يحدث البشر الذين لا يحسون ما في صدر الشاعر من حرقة وألم 0عاد الشاعر قيس لفته مراد إلى مدينة الناصرية وقد تغزل بمدينته ويظل الشاعر قيس لفته مراد يبكي عواطفه، ولم يغير سفره عن مدينة الناصرية، وابتعاده عنها، عن مربع حبه شيئا من حاله، فالبكاء هو الرد على خيبته، ففي غربته هناك يحدثه عن ذكريات الألم التي خلفها في مدينة الناصرية، مدينة حبه الأول، سوزان وشبابه الذي قضاه معها، إزاء ذلك الحدث، فإننا لا نشك في أن قيس لفته مراد، قد أضاف خيبة أمله الجديدة إلى رصيد خيباته العديدة، وصدماته الموجعة، ومهما تكن أسباب تلك الخيبة، فإن حبا جديدا في ما يبدو قد نما بساعة، كما يؤمن، فراح يتغنى به، فانشده ألحانا جديدة، الشاعر قيس لفته مراد كتب هذه الأشعار وهو يئن من شدة المأساة التي ألمت به على غير توقع، ولكننا نعتقد بأن هذا لن يغير كثيرا في صورة المحبوبة، ومكانتها في قلبه وشعره، وأخيرا نقول لقد حب قيس لفته مراد سبعا، ولم تحبه واحدة منهن مفضلات عليه المال، والليالي الساهرة، بل أنه يشك في صدق حب زوجه له، وربما عده من قبيل الإشفاق الذي ربما خالطه بعض النفاق، كما يقول فهي غيور من علاقات نسائية عاشها الشاعر قبل لقائه بها ( سوزان، جنان، غصون، ورد ، مجهولة، ليلى، وغيرهن) لم يبق له منهن سوى سوزان، مع كثرة من النساء اللواتي أحبهن قيس لفته مراد، التي يصفها بأنها صوت الألفة والحب.
قصيدة السير ذاتية:
أن حركة الحداثة الشعرية بالذات ابتكرت مساحات جديدة لعمل الذاكرة وتفعيل آلياتها وتثمير طاقاتها الخلاقة ,في الطريق إلى انجاز قصيدة جديدة تتنكب أدوات الحداثة وتستشرف آفاقها الحرة .استطاع شاعرنا قيس لفته مراد كتابة القصيدة ,والملحمة ,والمسرحية, وكل أنواع الشعر في مجاميع شعرية مخطوطة ,ومطبوعة.كتب الشاعر سيرته الذاتية شعرا التي تصور أحاسيس شخصيته, وانفعالاته في أثناء عرضه لتاريخها الماضي ,والتبس الأمر أكثر عندما راح الشعراء يدونون مذكراتهم ,وسيرهم الذاتية المتخيلة شعرا في بناء فني تتداخل فيه الأجناس الأدبية ,وشكل حضور فن السيرة في المدونة الإبداعية الحديثة مسارا جديدا لمعاينة الأجناس الأدبية وفنون الكلام الإبداعي , ونتيجة لصلتها الحميمة بــ(أنا) الشاعر في تجربة الحياة والكتابة وهمومها وشؤونها وشجونها وشواغلها, فقد حظي هذا الفن باهتمام متميز من طرف مجتمع القراءة , وصار الفن الأدبي الأكثر مقروئية تقريبا ,وقد أسهم هذا أسهاما إجرائيا حقيقيا في تطور الأنواع السيرية وانفتاحها الحر على ما هو متاح من الفنون المجاورة ,تغذيها وتتغذى منها في آن معا ,وقادت في الوقت نفسه إلى انفتاح الرؤية النقدية الحديثة نحو التركيز على هذا التطور, وفحص مقوماته داخل النصوص, على النحو الذي أنتج مصطلحا جديدا مهجنا هو مصطلح القصيدة السير ذاتية ,وفي ابسط مفهوم لقصيدة السيرة الذاتية .فهو يسرد لنا معاناته العاطفية بريشته الفنية , ويتحدث لنا عن جذوره بمدينته الناصرية .ولأن التخلص من الحاضر لحظة كتابة السيرة ليس إلا وهما والكاتب ألسيري مهما فعل لا يستطيع التخلص من الحاضر الذي يكتب فيه ليلتحم بالماضي الذي يرويه ,وكأن فن السيرة لا يقوم إلا على هذه الاستعادة الزمنية من منطلق الحاضر وليس من سبيل لتلقيها كفن مستقل إلا عبر فهمها كاستعادة بوساطة الذاكرة التي تعني بداهة أن فعل التذكر يتم من الحاضر ذهابا إلى الماضي بطريقة الانتقاء والاختيار, والشاعر قيس لفته مراد مزج بين الماضي ,والحاضر عبر الزمن الخيالي الطليق ليتحدث عن حبيبته عادلة عبر تسلسل الزمن العمري لها كما أن هذا المفهوم يغفل أيضا مسالة مهمة لابد من توافرها في أي نص سير ذاتي هو التطابق المفترض بين أنا المؤلف , وأنا السارد ,وأنا الشخصية المركزية ,التي أكد عليها لوجون في تعريفه للسيرة الذاتية بأنها قصة استعادية نثرية يروي فيها شخص حقيقي قصة وجوده الخاص, شخصيته بالخصوص , وتمنى الشاعر قيس لفته مراد أمنية لو تحققت له, وهي الرحيل عن هذه الدنيا التعيسة .ولهذا تصبح التجربة المرآوية لفن السيرة الذاتية تجربة تنطلق منها الذات لتجوب العالم ,والآخرين ,ولكن لتراهم من خلال الأنا, فهناك ارتداد باستمرار إلى الأنا ,ووعي بأن الآخر الذي نبحث عنه ليس سوى الأنا الذي يمارس التجربة ,وبذلك يصبح الآخر أشبه بصورة مرآوية للأنا تتحقق من خلال الكتابة, ومن هنا تستطيع مرآة السيرة أن تقدم صورة حقيقية للذات لا تقتصر على مظهرها الخارجي فحسب ,وإنما تتعدى ذلك لتصل إلى داخلية النفس الإنسانية بما يغمرها من مشاعر وأحاسيس , وما يحيط بها من حالات ,فتعكس خيبة الأمل , والإحباط ,والضعف ,مثلما تعكس الفرح ,والأمل والثقة ,
ويرتبط مفهوم السيرة الذاتية عند قيس لفته مراد عموما بمفهوم تأمل الذات فقد تناول الشاعر جوانب كبيرة من سيرته الذاتية في دواوينه الشعرية ,وقد تجسدت السيرة الذاتية عنده من خلال النص الشعري الذي أصيب به بالضعف ,والإحباط , و تشغل الذاكرة عند الشاعر قيس لفته مراد حيزا بالغ الأهمية في فعاليات الإنسان الجوهرية ,والأساسية ,وتكاد تهيمن هيمنة شبه كلية على معظم نشاطاته الحيوية على الأصعدة اللسانية ,والشعورية كافة إذ أن الإنسان ينفق الجزء الأعظم من وقته متمثلا فضاء الذاكرة ومستوحيا طاقاتها الوجدانية وماكثا في منزلها, لأن الذاكرة على وفق هذا المنظور تعاين بوصفها ,مستودعا أو مخزنا يختزن فيه الفرد جميع الصور الاجتماعية والعرفانية والعقلية التي تمر أمام مخيلته خلال حياته في هذا العالم المتطور سريعا نحو النمو والارتقاء , لكنها لا تتوقف بأية حال من الأحوال عند حدود الحفظ والأرشفة والخزن ,بل تتجاوز ذلك إلى تفجير إمكانات موجوداتها, عبر فتح آلية الحفظ على حركة الحواس, وتفعيل العلاقات المتجاورة ,والمتناوبة ,بين غياب الصورة في المحسوس وتحريض آليات الذاكرة على استعادة الشعور بها ذهنيا ,ونلحظ ذلك عند شاعرنا قيس لفته مراد عندما يتحاور مع امرأة جميلة لم تجده بالهيئة المحببة عند النساء , ولم تصدق بشعرية هذا الشاعر الفقير الذي يرتدي الملابس القديمة .
وخلاصة القول، تثير في الكتاب أسئلة متعددة كما تفعل المؤلفات الكبيرة، ولكونها تسرد الأحداث الإنسانية للشاعر وعلى مستويات مختلفة، فهناك من سيقرأها قصائد حب، وآخر سيقرأ فيها سيرة الوطن، أما القارئ المتخصص – فسيجد متعة في كيفية تشابك هذه المستويات ما قام به الباحث الدكتور مصطفى العارف من تفكيك واقتفاء أثر الإرث الأدبي للشاعر من خلال قصائده وتأثير البعد الإنساني على نتاجه الإبداعي. فقد قدم الباحث العارف في كتابه ، تخطيطاً واعياً بقراءة الشاعر وعلاقته بالمكان بالإنسان –العاشقة –الأصدقاء- إبداعاً –إخفاقا – ومن علاقات مركبة ومتشابكة تسمح بقراءات متعددة وعلى مستويات مختلفة، لكنها تتضافر جميعها في استدراج القارئ إلى اقتفاء أثر النص القديم في الجديد أو الماضي في الحاضر. فهناك نصوص حكاية حب غير متحققة، لكننا نجد أيضاً ما هو أعمق، ألا وهو استبطان معنى العشق واحتواؤه لقلب الشاعر المفعم بالوجد الملتهب لينتهي باحتراقه بهمومه.