تقديم :
يعرف الإنتاج الروائي العربي دينامية فــي التحول و التكون ، و اجتراح أساليب و مسارات جديــدة فــي التعبير و البناء الفني ، فالرواية العربية حـــالة تعبيرية ، تنطلق مــن أسئلـة التحولات الاجتماعية و إكراهات الوجود ، ساعية إلى تقديم صياغة أو جواب عنها مـــن خلال اختيار جنس الرواية لأسباب فنية و معرفية و إيديولوجية أيضا . هــذا الاختيار يسعف الكاتب فـي عرض تصوره للقضايا و الموضوعات العديدة من موقع التخييل السردي و فلسفة عوالم الإمكان و قدرة السرد على الإقناع و عرض وجهــات النظر …ليس مــن موقع المنطق العلمي الذي يربط النتائج بالأسباب ، و الأعراض بالشروط، بــــل وفق منطق التخييل السردي حيث يربــط المبدع تصوره مــن خلال تسريد مادة حكائية و صوغها أو تشكيـلها فنيا و جماليا ، دون حصر الجواب في صيغة نهائية .
التجربة السردية وجــه من أوجه المقاربات الفنية لكثير مــن الظواهر و القضايا التي تخص الإنسان و تشغل ذهنه فــي مختلف أبعاده النفسية و الاجتماعيــة و الثقافية و السياسية و الدينية …و مــن بين أكثــر الظواهر شأنا عند الإنسان عبر التاريخ قضية الموت .
لقد تناول الإبداع العربي ، سواء كــان شعرا أم مسرحا أم رقصـة أم روايــة ظاهرة الموت ، السؤال القديم الجديد ، و الذي لا ينتهي بالجواب عنه ، بقدر ما يفتح آفاقا للتفكير فيه و تجديد التأمل في آثاره ، و تمثيل مختلف أشكال الوعي به .
إن سؤال الموت لا ينتهي بمعرفة السبب و المصير الذي يصير إليه الميت ، و لكنه يظل حيا ، مؤثرا ، ملغزا ، ملتبسا ، مادامت الحياة مستمرة و هي العنصر الأكثر إغراء و فتنة للإنسان .
الموت يصنع التاريخ و التاريخ يصنع المــوت ، و الإنسان محكــوم بهما وجودا و عدمــا ، لهـذا يظل سؤال الموت مرافقا للإنسان و يتعمق السؤال أكثر كلما تقدم في تحـدي الطبيعة و تسخير العلم و التقنية و الاجتهاد في تجــويد الحياة ، و كــأن الموت سبيل إلــى إفساد تلك الجودة و المتعة التــي حصل عليــها الإنسان إن المتغير في هذا الأمر ، هـو طبيعة الـوعي المتشكل حول الموت ، و تمثل ذلك فنيا من طرف الإنسان الموغل فــي القدم أو المتقدم فــي الحداثة أو المشبــع بالميثولوجيا أو المحكــوم بالدين و المؤطـر بالمقدس …
هنــاك نصــوص سرديــة عربيا و غربيا انتظمت حول ظاهــرة الموت ، و اختلفت فــي تظهيرها أو تمثيلها سرديا ، و من بين تلــك النصوص ، رواية ” رائحــة الموت ” للكاتبة المغربية : ليلى مهيدرة
– كيف تم تمثيل سؤال الموت في الرواية ؟
– ما هي صورة الموت في هذا النص ؟
العنوان و تنوير العتمات :
أكدت كثير من الدراسات الأدبية و النقدية أهمية عتبة العنوان كنص مواز في تجذير دلالة النص أو الأثر الفني و جعله يتداول في سوق القراءة و النقد .
يتركب عنوان هـذا العمل من ترطيب لغوي يتماشى مع عناوين السرديات العربية القديمة التي تستهل ذلك بتركيب لغوي إضافي أو وصفي منزوع الخبر :
– رائحة : جمعها روائح ، و هــي النسيم سواء كان طيبا أم نتنا. و تدل رائحــة الشيء علــى أثره، أي ما يدرك عــن طريق حاسة الشم ؛ جــاء في الأثر : مــن قتل نفسا معاهدة لــم يرح رائحة الجنة أي لــم يشم رائحتها . و الرائحة مــا ينبعث في الهواء لشيء مادي و يدركه الإنسان أو الحيوان . كما أن الرائحة هي أحد أبعاد الأجسام أو النباتات أو الحيوانات ، و هي قد تكـون طبيعية أو اصطناعية ،ناتجة عن تركيب أو مزج كيماوي بين أكثر من عنصر …
– الموت : أو الموتان ضد الحياة . من فعل مات يموت موتا و المــوت زوال الحياة عــن كـل كائن حي ( إنسان أو حيوان أو نبات ) . وفــي القرآن الكريم ذكرت أشكــال للموت مثل الموت ضربا أو خنقا أو غرقا أو سقوطا …و هناك تصنيف آخر للموت حسب رمزية اللون :
– الموت الأبيض : أي الموت الطبيعي .
– الموت الأحمر : زوال الحياة قتلا .
– الموت الأسود : أو الموت خنقا
– الموت الزؤام : الموت فجأة …..
كمــا يحمـل الموت دلالات و معان سياقية مثــل السكون و الركود و الجمــود و الجهــل ، قــال تعالى : ” أو من كان ميتا فأحييناه ” أي كــان جاهلا كافرا . و يلاحظ أن المداخل المعجمية أو الدلالية السياقيــة المختلفة التي يـرد فيها لفظ الموت تميل باتجاه الخلو من الخير عامة و ترسيخ المعاني السلبية سواء أكان الروح بالنسبة للإنسان أو الزرع بالنسبة للأرض أو الجنون بالنسبة للعقل ( المــوتة بالضــم جنس مــن الجنون و الصرع يعتري الإنسان . )
و من حيث التركيب ، أضيفت الرائحة إلى الموت فكان الموت حدثا أو معنى يدرك من خلال رائحته. أي عندما تزول الحياة مــن الكائن الحي أو عــنه ، تخبر أو تــدل عليه الرائحة . كمـا أن هذا التركيب أو الإضافة مــنزوع الخبر : كيف هي رائحــة الموت ؟ مــا الصفة التي تأخذها ؟ كيف نميزها ضمـن نسق الروائح ؟
المـوت فعل ناتج أو ناجم عــن سبب، و يخلــق أثرا أو آثارا عــلى الجسد أو الكيان الذي حــل بـه ، و انتزعت الحياة منه . جــاء في النص :
” أنا هنا حتى أموت ، و ساعتها قرروا أن تدفنوني أو تتركوني أنشر رائحة الموت بالمكان ….”
فأولى آثار الموت : تحول الجسد إلــى جثة ، و ثانيها تعفن الجثة و انبعاث رائحة نتنة …فمــن مـات ؟ و كيف مات ؟ و ماهي رمزية أو دلالة الموت هنا ؟
هذه أسئلة تقتضي أجوبة محكومة بسياق النص و موضوعه ، و بثقافة القارئ أو المؤول لدلالات النص و خاصة العلامات النصية التي تنتظم حول ثيمة أو فكرة الموت .
التظهير السردي في النص :
اتبعت الروائية صيغة خاصة فــي تمثيل مادة الرواية الحكائية و تظهيرها ، أي منح موضوعها بنية و شكلا يدرك من خلالهما الموضوع ، و ذلك بتوزيع النص عامة إلى مسارين أو صيرورتين :
أ – خطاب الجثة أو مسار الجسد بعد الموت
ب – خطاب الذات قبل الموت أو سيرة بلقايد .
بهذه الصورة يكون القارئ أمــام بناءين سـرديين للحكاية أو مسارين مختلفين لموضوعين يبــدوان في الظاهر مختلفين ، و يحتمل أن يكونا متماثلين .
يقترن المسار الأول بحديث جثة : أي سرد وقائع جرت و انتظم مسارها بعد الموت . هذا الحديث تميز فـي “رائحة الموت ” بعناوين خاصة : المسودات و قد جاءت مرتبة من المسودة الأولى إلى التاسعة . هذا المسار يمكن أن نصطلح عليه تسريد الموت و يمكن أن نضبط تمفصلاته كالتالي :
1- ما قبل الانتحار
2- الإعداد للانتحار و التفكير فيه .
3- التنفيذ و الإعلان : الخبر ـ رائحة الموت
4- التوثيق : توثيق الحادثة من طرف الشرطة و الطب الشرعي ثم القضاء
5- التشريح : نقل الجثة إلى المستشفى و وضعها في غرفة الموتى استكمالا للتوثيق .
6- التصريح بالدفن : بعد إصدار شهادة إدارية تسمح بدفن الجثة.
ينتظم السرد في هذا المسار حول عنصرين ، الموت و الكتابة . فكيف ذلك ؟
يدرك القارئ ذلك من خلال الثنائيات التالية :
أولا :- المــوت حدث فاصل بـين عالمين ، عالــم الحضور أو عالم الشهود و عالــم الغياب أو الاندثار . الموت حدث تام و مكتمل سببا و نتيجة.
– المسودة في الأصل كتابة أولية أو محاولة بدئية لمشروع أو عــمل قبل أن ينقح أو يصحح بشكـل نهائي . المسودة نسخة مبدئية تقبل الحذف أو الإضافة و التغيير . المسودة دليل على فعل لم يكتمل بعد .
ثانيا : – الموت إبدال تحويلي ، تحـويل الجسد إلى جثة ، إبدال الحركة بالسكون ، تعويص للمتعة و اللذة بالألم . إلغاء لــكل إحساس طبيعي و مــألوف ، تعطيل للسان و إسكـات للنطق و بعثرة للنظام . الموت تحويل للطيب إلى نتن و الزكي إلى عفن …
– المسودة بذرة أولى للتفكير ، تعبير في حالة طفولية ، حركة في صيغة حَبْو ، نهوض بعد سقوط ، وقــوف بعد كبوة ، نقص يسعى إلى اكتمال . المسودة ذاكرة قبلية تقاوم جرثومة النسيان ، تذكـــير للنص بأرومته ، وجود يبحث عن استقامة و اعتراف و إقرار .
ثالثا : – الموت حاضر و المسودة ماض، لكنها في النص غدت مستقبلا و الموت ماض ، جاء في النص: ” لم يوهموننا بأن الموت يأتي بعــد أن تضع الحياة نقطة نهايتها ، فهــل الموت نقيض للحياة أم
يتماهى معها ؟ و هل نموت مرة واحدة …..”
” كلما تملكه هذا الإحساس إلا و غادر بيته مخترقا العالم الخارجي هاربا من هواجسه ….متأبطا حقيبته المتهرئة و قد جمع بها بعض مسوداته التي جعل منها بديلا عن صداقات لم يجد بها
واقعه ….”
رابعا : الـموت سؤال يواجــه الإنسان، عقبة كأداء تقلق وجوده ، كأس علقم يتجرعه كــرها . و المسـودة حيــاة لم تتضح معالمها بعد ، حياة تبحث عــن الاكتمال و الاستواء، أخطاء تسعى إلى أن تكون صوابا.
المسودة فــي اقترانها أصلا بالكتابة ، و الكتابة تعبير و تجذير للأفكار و الخيالات المقلقة .كمـا الكتابــة تجذير لثقافة المــوت سواء كانت حبـرا على ورق أم نقشا علـى حجر أم وشمــا على جسد أم تمثيلا على ركح أو شاشة …
تكشف ملفوظات النص و خاصة في الشق المتعلق بحديث الجثة أو استيهام الموت عن طبيعة المسودات و علاقتها بالموت :
الموت هاجس و مبعث قلق و سؤال يدفع الذات إلى البحث عن جواب أو أجوبة ، ليس بالضرورة أن تكــون منطقية أو علمية أو موضوعية…و الجواب هنا فـي هذا المسرد لم يكن علميا و لا دينيا و لا طبيا إكلينيكيا ، و لكن الأمر هنا اتخذ شكلا تخييليا و تعبيرا استيهاميا . هذا التخييل السردي جاء خارج المدار البشري و لم يقف عـند حدود الطبيعة البشرية . لقد جاءت المسودات تعبيرا عــن مشروع روايـــة عن هاجس الموت لدى الشخصية الرئيسية ( بلقايد ) . جاء في النص :
” كلما تملكه هذا الإحساس إلا و غادر بيته مخترقا العالم الخارجــي هاربا من هواجسه حتـى و إن كان الهروب نحو عالم لم يستطع حتى الآن أن يستوعبه بالشكل الذي يجب ، متأبطا حقيبته المتهرئة و قد جمع بها بعض مسوداته التي جعل منها بديلا عن صداقات لم يجد بها واقعه ……و بالرغم من ذلك كـان إحساس الوحــدة لا يفارقه ، كثيرا ما كان يسخر من نفسه و هــو الذي تخلى عن حريته و قرر أن يسجن نفسه محاولا إتمام رواية حول الإشكالية التي تسكنه .”
” و مع ذلك يوهم نفسه أن هذا الكتاب الذي يستجمع فيه مسوداته الآن قد يكون سابقة في عالم الكتابة رواية أدبية بمحور موضوعي صرف . “
– تسريد الحياة أو خطاب الذات قبل الموت :
تم تبئير الحكي في الشق الثاني من الرواية حول شخصية مرجعية تاريخية : بلقايد . و قد تكفل السارد بعرض سيرة ذاتية لها أي كتابة تاريخ حياتها : الميلاد و النسب و الأصول ثم العلاقات و المصائر …و كأن الأمر هـنا شبيه بتسريد حياة بلقايد و توثيقها . و يلاحــظ أن المنطق الذي يحــكم هذا المســار شبيــه بالمنطق السردي فـي أدب أو ترجمة السير الذاتية . و المتأمل في مسار سيرة بلقايد يدرك أن يتوزع بين آليتين :
– آلية الإخبار : إذ تكلف السارد بتقديم معلومات عــن هذه الشخصية و تتبع مسار حياتهـا منذ الولادة أو ما قبلها و ما تعرض له من معاناة و مـا عاشه من تجارب بصمت وجدانه و فكره و ضاعفت من معاناته و عمقت عزلته و وحدته .و هذا يتوافق و السرد التقليدي في تخيييل الذات أو أدب السيرة :
” لا يعرف له اسما غير بلقايد، و لا مدينة غير هــذه التي يقطنها ، كهل خمسيني ….خطيئته هي أنـه يحمل اسما وسمه العار منذ الصغر و جعله منبوذا ، …..”
– آلية الاعتراف : في كثير مــن مواقع التلفظ في هذا المسار ، نصادف بلقايد يحكــي عـن ذاته و كـــأنه لا يكتفي بأهلية السارد فـي الإخبار عــن حياته بكل صدق ، بل يتسلم الكلمة ليواصل السرد عــن تجربته و خاصة في المواقع الأكثر حساسية و حميمية أو تلك التي تأخذ بعدا وجدانيا :
” أنا بلقايد و سأظل بلقايد ما دمت لا أملك القدرة على تغيير ذلك ، مرارا تخيلتني أحاول و أفشل ، فتغيير الاسم في حالتي مرتبط بتغيير المكان ….”
” أبي يا أبي ، أيها الذي اختارته الطبيعة ليزرعني فـي رحم زينب ثم يموت بعدها ، هل ألومك لأنك لم تصمد أكثر ، أم أعتذر منك لأنني أرغمت علــى حمل اسم غير اسمك و لــم أتمرد ؟ إن كــان عذرك الموت فما عذري أنا المكبل بالحياة ؟ ….”
إن الإخبار و الاعتراف إجراءان متبعان في تقديم سيرة بلقايد أو تسريد حياته عبر تقنيات الاسترجاع و الحوار و التذكر و المناجاة . و يلاحظ أن السرد هنا انتظم حول عنصرين أساسيين :
الذات : شخصية تامة العناصر أو مكتملة الهوية ، بيولوجيا و ثقافيا و اجتماعيا ….
المرجع : مـن حيث الفضاء و الزمن و الشخصيات ، هيمــن البعـد الواقعي علــى التخييلي حرصا عـلى إثبات حقيقة هــذه الوقائع ( مغرب الحماية ، ما قبل الاستعمار ، الحــركة الوطنية ، الاستقلال ، القيـاد و فترة السيبة ، المثقف و السلطة ، الكتابة و الممنوع …..)
الآن ، ما العلاقة بين الخطابين : حديث الجثة و سيرة بلقايد ؟ أو كتابة الموت من جهة و كتابة الحياة من جهة ثانية ؟
يدرك القارئ أن نص المسودات و إن كـان مؤطرا بالتخييل و الاستيهام ، فإن سيــرة بلقايــد مؤطــرة بالواقعي و التاريخي ، و هما يتقاطعان في كثير من النقط :
أولا : الموت
تقترن سيرة بلقايد بالموت و تتعدد صور الموت في سيرته ، فقد توفيت والدته زينب ( ص24 و 19 ) كما تأثر بموت والده المختار ( ص 34 ) و مات جده القايد حمو ( ص15 – 20 و 119 ) و كان لموت صديقه الاثر البالغ في حياته ( ص 66 ) .
و في المسودات ينطلق السرد من حدث الانتحار باعتباره شكلا مـن أشكال الموت أو صيغة تحقق مــن خلالها .
ثانيا : الوحدة و العزلة :
بلقايد عاش وحدة و عزلة ، بعــد أن فقد أمه التي كانت رفيقته في الحياة ، لا خلان له و لا أصدقاء، و الشخصية الروائية فــي المسودات عاشت بدورها عزلــة حيث اختطفت و عزلت عــن أسرتها و عاشت بعيدا عن محضن أسرتها .
ثالثا – الانتساب إلى الريف و التعلق بالمدينة :
الشخصيتان معا تنتسبان إلــى البادية ، إلى قرية مطلة على المحيط الأطلسي ( ص 23 ) و حرما معا مـن ذلك الفضاء حيث نفيا عنه و أحرجا منه قسرا أو غصبا ( ص 137 ) ناهيك عن تعلقهما بالمدينة و دروبها و حاراتها و بحرها ….و العلاقة بين الفضاءين تكـمن في أنهمـا مرجعين لسيرة كــل من بلقايد و الشخصية الورقية : العربي بلقايد
رابعا – الحوار مع الأموات :
بلقايد يتحاور في مواقع كثيرة من الرواية مع أمه زينب ( ص 34 – 117 ) و تحاور أيضا مع صديقه الميت كما جرى حوار مع المرأة الغانية في اللوحة ( ص 111) و أجرى أيضا حوارا مع جده ( ص 112)
خامسا – الوعي بالموت
أو التفكير فيه و جعله مادة للتأمل على أساس أنــه هاجس و سؤال مقلق ، مصير و منتهى ، حدث و نهاية ..
سادسا – الانفصام :
ظاهرة الانفصام متحققة فــي النصين معــا و لدى الشخصيتين كلاهمــا من خلال وجود قرين أو شبيه ( ص 87)
سابعا – العصيان و التمرد :
خاصة على المواضعات الاجتماعية من خلال الخروج عاريا أو الجولان منزوع الملابس كتحد للرجولة المبتورة أو الذكورة المخصية ( ص 138 )
من منطق الموت إلى استيهامه
الموت إبدال قرباني مــن زاوية ميثولوجيا الموت ، و هو أيضا إبدال وجودي للحياة ، و بالعودة إلــى الروايـة ندرك أن الموت حدث مؤسس للســرد ، و مصدر للتخييل ، و باب للاستيهــام ، و مصير مهـدد لمجتمع الرواية . هكذا انبثق السرد في ” رائحة الموت ” بسبب هواجس أثارها لدى الشخصية المحوريـة بلقايد، فجاء تفكيره فيه في صيغة بناء سردي و إمكان تخييلي :
” كتابة رواية تكون أحداثها و وقائعها ، زمانها و مكانها ، شخصياتها و مصائرها …..
استجابة لهاجس أو سؤال الموت ”
إن التفكير في الموت شأن إنساني ، بغض النظر عــن مستواه المعرفي . و يتعمق هذا البعد مـن خلال النسق الثقافـي و الطبيعـي المؤطرين له، و هذا مـا نلحظه مـن أدبيات أو ثقافة المــوت عند المجتمعــات الاجتماعية . من خلال ما تقدمه المدونات الأسطورية و الدينية و ما يطرحه المقدس عامة من تمثلات و ترميزات للموت . و بالعودة إلى الرواية ، نلاحظ أن مسارها الســردي تحقق بدايــة و انتهاء بالموت : العنوان ( رائحة الموت و تصريح بالدفن ) ناهيــك عن تمظهرات نصية كثيــرة للمــوت أو صوره . و خاصة ما اصطلحنا عليه بحديث الجثة أو تسريد الموت .
لقد كان الانتحار مؤشرا على الموت ، و فعلا أقدم عليه العربي بلقايد راغبا و قاصدا إياه ، للعبور إلى عالم الأموات ، و مفارقة المــدار البشري . هكذا كان الانتحار نواة للتخييل و إمكانــا من إمكانات كثيـرة لبناء عالم روائي مترامي الأطراف و متعدد الأبعاد …
الموت فــي الرواية حدث مؤسس للحكي و نواة للتخييل ، سواء فــي المستوى الأول ” المسودات ” أو توثيق سيرة بلقايد . هــذا الإجراء يرتبط بفترة تاريخية مـن تاريخ المغرب المعاصر ، يتعلق الأمر بفترة الحماية أو الاحتلال ثم الاستقلال و مــا بعده ، و انطلاقا من الاسم أو الكنية ” بلقايد ” يتبادر إلــى الذهن فترة القياد و ما تميزت به من شطط في السلطة و خدمة المستعمر و ظلم للعباد و اعتداء عليهم …
هذه الكتابة التخييلية ذات البعد التاريخي تتأسس في عمقها حول تيمة القتل أو الموت :
– موت الأب المختار من طرف القايد حمو
– موت الأم زينب
– موت الجد / القايد
موت الصديق رفيق الطفولة …
ما تبقى من هؤلاء هو رائحة موتهم ، و قــد اختلفت تلك الروائح ، فرائحــة الأب غير رائحة الأم . لقد حفلت الروايــة بتشييد متخيل الموت مــن خلال تركيب مصفوفــات سردية و صياغــة بناءات و قوالــب رمزية للموت جاءت كالتالي :
أولا : التطبيع مع الموت
تحقق هذا الأمر من خلال تجربــة حديث الجثة أو الخــروج من الجسد و العودة إليه ، حيــث استأنس القارئ مع الموت ، و لم يعد ذلك الحدث المرعب المخيف ، بل أصبح مثل العالم العادي المألوف ، و أن هناك حيــاة طبيعية بعد الموت ، إذ ترجع الروح إلى الجسـد و يستعيد وظائفه مثل الكلام و الانفعال …و أن الأمر ليس كما تصوره أدبيات الموت الميثولوجية أو الدينية : إما نعيم أو جحيم .
ثانيا : جدوى الموت
في مستهل الرواية ، يتخذ الموت صورة طقس احتفالي ، احتفل المنتحر بموته : تطهير الجسد و تزيينه و انتقاء وسيلــة الانتحار ” ربطة العنق ” التي تحمل دلالة المــوت من خلال معنــى الربط و الخنـق و العقدة .ثم الموضــع الذي توضع فيـه .إن الموت هــنا فعـل مبارك لــدى صاحبه ، عكس طـقس الميــلاد الخاص ب”بلقايد ” الذي كــان ميلاده لعنـة ، و جسـده خطيئـة ، و اسمـه نحس يتبرم منـه النــاس و يتطيرون منه ، و يسعون إلى الابتعاد عنه أو منه .
الرواية عامة صورت ثنائية الموت و الحياة تصويرا تطبعه المفارقة :
– الموت مقدس و الميلاد / الحياة ملعون
– الموت طهارة و الميلاد نجاسة
– الموت نعيم و الحياة جحيم
-الموت سعادة و انتشاء و الميلاد عذاب و شقاء …
ثالثا : الموت تشيئ للجسد
بعد الموت يصبح الجسد شيئا عاديا و متلاشيا ، يخضع لبرنامج تحويلي في طبيعته و وظيفته : ينتقل أولا مــن الحرارة إلــى البرودة ، و ثانيا مــن المرونة إلى الصلابة ، و ثالثا مــن الطهارة إلـى التعفن و التحلل، فتكون الرائحة آخر ما ينبئ عن الجسد ، و هذا منطق الأشياء عامة و خاصة الكائنات الحية بعد الموت ، ليصل في النهاية إلى الاندثار و التلاشي .
رابعا : الموت و الفرجة على الجسد
إذا كان الميلاد يقتضي مشهدا و احتفالا أو فرجة على الجسد في ظهوره أو قدومه إلى هذا العالم ، من خلال طقوس الميلاد كما ترسخت اجتماعيـا بواسطة إجراءات وتدابيــر استقبــال المولود والاحتفــال به، فإن المــوت فـي الرواية جعل جســد الميت / المنتحر أو جثتــه موضوع فرجـة و مشهدا يتطلب حفاوة و احتفالا خاصين في الزمن و المكان ؛ هنا تتأكد المفارقة التي انبنت عليها الرواية :
في ميلاد بلقايد تبرم الناس منه و ابتعدوا عـنه خوفا من أن تلحقهم لعنة جده ” القايــد حمو ” . و عند الموت / الانتحار تحلق الناس حول الجثة و صاحبهم الفضول ( ص 26 ) للتعــرف و الاطلاع على جثة المنتحر . في الحياة كان الإهمال و التهميش و النفور ، و بعـد المــوت أصبحت الجثة موضــوع كـلام و عناية ، و كأن الموت قضية الأحياء جميعهم بينما الحياة قضية صاحبها فقط .
خامسا : عمرانية الموت :
إذا كان العمران إشارة إلى الحياة و الحضارة في الوجود و العبقرية في الإبداع ، فإن المــوت لم يتخل عــن نصيبه في هذا الإرث ، فهــو حاضر و دال فــي مختلف المظاهر العمرانية ، و قـد تجلى هذا في الرواية في المقبرتين في المدينة .
المقبرة فضاء يتربع الموت على عرشه ، يقف في بابه ، يحضر في كثير من أنشطته و رموزه : الدفن مثلا و هو سلوك ثقافي و شاهــد على تطور فـكرة الموت عند الإنسان ، ثم هناك الخطــاب أو أشكال و عبارات الكتابة في هذا الفضاء مثل القرآن و الأدعية و التلاوة …ثم صلاة الجنازة .
إن المقبرة فضاء يقترن بتصريف حدث الموت ، و تأكيد حضوره رغم الانهمام بالحياة و بهرجتها .
سادسا : استيهام الموت
انطلاقا مــن حديث الجثة أو تسريد ما بعد الموت ، و كما أبانت عنــه المسودات ، يتضح أن الكاتبــة اعتمدت تقنية الاستيهام كإنتاج خيالي يمثل فيه الموضوع داخل سيناريو محدد:
المسودات كتابة تخييلية تمثل موضوع الخــروج من الجسد أو عودة الــروح إلى الجثة ، و هذا إمكان تخييلي يندرج ضمـن عوالم الإمكان أو يمكــن لنا أن نصيغه فــي العبارة التالية : مــاذا لو : تخيلنا عـودة الروح إلى الجثة و بالتالي عادت إليها الحياة.
لقد عادت الروح إلى الجثة و رجعت الحياة إلى الجسد ، و هذا إمكان يمكن أن نتخيله كاستيهام من بين استيهامات كثيرة ينتجها الإنسان و يفكر فيها ليس كتحد للموت أو إلغاء له و بعثــرة لنظامه ، و لكــــــن رغبة منه في التعبير عن عمق تمسكه بالحياة و أن الرغبات و مشاريع الإنسان في الحياة لم يسعها الحيز الزمني ” العمر ” و لم يبلغ فيهــا الإنسان مرحلــة الإشباع النهائي ، فيكون الاستيهام في مثل هذه الحالـة فعلا تعويضيا من الحــرمان الذي عرفه الشخص في حياته و سبيلا إلى تحقيق بعض الرغبـات التي كان محروما منها ، و لدينا في الرواية بعض مظاهر تحقيق الرغبات المؤجلة مثل :
– اعتقاد المنتحر أن موته نجاح يعوض تجارب الفشل التي عاشها في حياته ( ص 11 )
– بموته انتزع الاعتراف من المدينة التي يعيش فيها ( ص 25)
– بموته أصبح مشهورا بعد أن كان مغمورا ( ص 32 )
– حديثه بعد موته كان فرصة لقول الحقيقة دون نفاق أو كذب
– كان موته سخيا و كريما حيث أتاخ له فرصة الاستمتاع بغواية المرأة / الطبيبة التي كانت تفحص جسده ، فأيقظت بذلك ذكورة جسده المتعطشة لأنثوية المرأة من خلال الصوت ” الهمس ” و اللمس ” الأنامل ” و النظرة ” العين ” و الحركة و الرائحة ” العطر ” ..
بهذه الأمثلة و غيرها يدرك القارئ استيهام الميث كان تعويضا لمظاهر كثيرة من الحرمان عاشها في حياته .
خلاصة :
” رائحة الموت ” نص سردي ينضاف إلى خزانة النصوص الروائية التي انتظمت حــول الموت ، إذ قدم هذا النص رؤيته للموت و الذي يبقى حدثا غامضا و غير قطعي الدلالة عند الإنسان على الرغم من حتميته ، فجاء تمثيل هذا الوعي بالموت و التفكير فيه من خلال حكاية ما اصطلحنا عليه بتسـريد الموت أو حديث الجثة الذي يوازي تسريد الحياة ” سيرة بلقايد ” . كما تميز هذا النص بخصائص فنيــة و بنائية تكشف عن انخراطه في تيار الرواية الحديثة مثل : المفارقة حيث جمعت الكاتبة بيــن الموت و الحياة في مسار سردي واحد ثم التوازي بين المرجعي الواقعي و التخييلي الفني ، بين الموضوعي و الغرائبي ، إذ سيرة بلقايد تنشد إلى المرجعي التاريخي و حديــث الجثة ينتظم وفق منطق التخييل أو الاستيهــام ، ممــا خلق استيهامات و إمكانات و صور تخيييلية للموت .
إن قراءتنا لهذا النص ليست إنهائية له و ليست تجفيفا لمنابع الدلالة فيه ، بل هي خطوة من بين خطوات كثيرة نحــو مغالق هذا النص الذي ينطلق مـن قضية جوهرية تمس الوجــود الإنساني ، أي قضية الموت الذي يحدث تحولا ليس في وضع الفرد وحده بل الجماعة أيضا .
—
1 – ليلى مهيدرة : رائحة الموت . رواية . مؤسسة الرحاب الحديثة . ط1 . 2018 .
2 – هناك تحققات نصية كثيرة لموضوع الموت في الإبداع العربي و خاصة في الشعر القديم تحت مسمى غرض الرثاء .
3 – يمكن العودة إلى فكرة الموت في الميثولوجيا عامة و العربية خاصة و كذلك في النصوص الدينية مثل القرآن و الحديث و النصوص الحافة .
4 – لسان العرب ، مادة موت و روح .
5 – سورة الأنعام 122 .
6 – رائحة الموت : ص 26.
7 – هناك تشابه كبير بين المسودات في رائحة الموت و حديث الجثة للكاتب المغربي محمد أسليم ، يمكن العودة إلى هذا النص :
محمد أسليم : حديث الجثة . نصوص سردية . 1996.
8 – رائحة الموت : ص 47 .
9 – رائحة الموت : ص 47.
10 – رائحة الموت : ص 47
11 – رائحة الموت : ص 50 .
12 – رائحة الموت : ص 13.
13 – رائحة الموت : ص 14 .
14 – رائحة الموت : ص 34.
15 – رائحة الموت : ص 47- 120 .
16 – د لحسن رضوان : مقاربة أنتروبولوجية لمقبرة سيدي السنوسي بتلمسان . دراسة ميدانية . مجلة أنتروبولوجية الأديان . مجلد 18. عدد2. تاريخ 5-6- 2022 .ص 977 .
مراجع :
1- القرآن الكريم .
2- ابن منظور : لسان العرب . دار صادر . بيروت .
3- ليلى مهيدرة : رائحة الموت . مؤسسة الرحاب الحديثة. بيروت . لبنان .ط1. 2018.
4- محمد أسليم : حديث الجثة . نصوص سردية .1996 .