يجري .. يجري , فلتجر ايها النهر الابدي طافحا بمخلفاتهم وملغّزا بعضها في قاعك ..تتغير عليك الظلال .. تتغير اشكالها كل يوم وانت تتقبل تحولات اغصانها وجذورها …الرسائل المعطرة الحميمية مطبوعة او مكتوبة بخط يدوي مع زهرات وقلوب حقائب السفر التي تهرات…. درّاجات الصغار الهوائية , بوقات الجيش , حبات المشمش التي قاومت قسوة الامواج وشجيرات مشوكة و وشجرالغرب والكالبتوس على ضفافك بدلا من الحمضيات واشجار الرمان والتوت والعاقول والطرطير بدلا من الريحان والفلفل واللوبياء .
اختفى الهدهد من على ضفافك الغربية فتحسر السحرة الباحثون عن عظمه الذي يجري ضد التيار ..وابو الزعر وعرموط القصب والغراب بلون اسود وابيض والطيور الحرة ,ودجاج الماء .والبغيلي الاسود النهم المختص بصيد الاسماك ونعاج الماء الذي يخزن صيده بكيس في رقبته والمهلهل زاهي الالوان بصوته كصوت الهلاهل الذي يبني اعشاشه في شقوق جدران النهر قريبا من الماء .. وكم حطمت قوة الموج سدودك التي كونها حمارون نقلوا الحجر والتراب على ظهورها .
.لقد استقبلت هموم الطلاب وأمالهم وهم يجتازون شرقك أمنين بالعبارة يقصدون الحرم الجامعي مرددين القصيدة الشهيرة < زغيرة وما تعرف اتحب > ويهمسون باخرى اباحية نسجتها طالبة متمردة على غرار < ماذا اقول له لو جاء يسالني .. ان كنت اكرهه او كنت اهواه >. ومدمدمين < هذا ديداج يا هيلة من غرورج ما صحيتي … > او (جانت ثيابي علي غرية كبل جيتك ومستاحش من عيوني ) …وكم احتضنت من مناشير تمهد للثورات ( ايها الشعب العظيم // ستقوم فئة ثورية طليعية بثورة عارمة تتطيح بالرؤوس العميلة العفنة >..وكم استقبلت بيانات برقم واحد فانتعشت الارواح قبل ان تكتشف بانها ستقضم العاقول والخيبات ..وكم سال اليك دم من حروب الجمال ووقعة الشذا حين تعب الدفانون من قبر تلال الرفات ..توضأ في مياهك الفراهيدي ونظرك البيان والتبيين بعينين جاحظتين وشرب من مائك سيبويه قبل ان يقصد الصحارى ويصغي لبدويتين (يا اختاه لولا العرجون لغسقني الغاسق ).. وانشغل على ضفتيك شبان يافعون محاولين فرز الناسخ عن المنسوخ ومفسرين < همت به وهم بها >..
ارى بعمقك صايات الدومينو التي هجرها الاجيال والرقم 27 حيث كان يصرخ احدهم | دنبلت -.. وسروج جياد الريسزوحدواتهم المستقرة في طينك الملوث وبقايا الدلو من الصفيح وبنود الخصوص التي تهشمت …الرسائل المعطرة الحميمية مطبوعة او مكتوبة بخط يدوي مع زهرات وقلوب حقائب السفر التي تهرأت .. دراجات الصغار..عروق السدر التي كشفها انهارك الصغيرة بعدما غادرها الغرين .. بوقات الجيش حبات المشمش التي قاومت قسوة الامواج .. واين السفن الصغيرة التي تنقل للملكة بالات السوس الذي وضعوه الان على اللائحة الحمراء فهو يحتضر بملوحة الماء .. قصع الجنود من الالمنيوم وزمزمياتهم .. جذور صغيرة وبقايا اغصان تحورت لشبه اقنعة افريقية وآلهة لم يعبدها احد , اطارات العجلات التي غرقت والمزمجرات التي قصفت واوسمة انواط الشجاعة التي صدئت .. بدلات الاعراس والقلائد التي اغرت , والان تئن من الصدا.. الاسماك التي نجت وبقيت الكلابات في خياشيمها ..احذية الغرقى والمنتحرين وانت تجري وتجري غير مبال بها… الافاعى تتصارع في قاعك والديدان المجهرية …. ……. وابو الجنيب وابو العرس والرفراف الذي سقطت منه سمكته و جناحه فابتلعته امواجك
عانيت من بطء الجريان وكثرة الانحناءات والاستدارات وظهور الكثير من الجزر ذات الشكل الطولي في مجراه لضعف قوة التيار على حمل الرواسب الطموية مثل العجيراوية والطويلة والشمشومية وأم الرصاص والبحرية والقطعة وجزيرة الحاج صلبوخ والزيادية والدواسر والأغوات والدويب والمبادرية وماجد والعبيد وشاهينية والمطوعة وأم اليبابي والرميلات والبلجانية والبوارين والصالحية والسندباد .. عانيت من المعاهدت لثلاثة قرون لم تنصفك واحدة منها .. وتلك البقعة ذات العشرة نخلات تحتضر بشكل رمح يتغلغل في النهر قرب ما سمي بالناظم حيث يسبح الصغار صيفا وتمد العوائل بسطها لتشوي الاسماك ..هنا حيث سمعت عويل اب يصرخ فجرا < يا بووية … ابني .. اريد ابني > وكان ولده قد اتى مع رفاقه وزميلاته فتقدم ومضى لقاع النهر ولم يتمكنوا من انتشاله حتى اتوا بغواص فانتشله منتصف النهار .. اتوا فجرا للاحتفال الذي حوّل ماتما والاب ينوح وانت تصيد وتسمعه ينوح ويصرخ ويستغيث < يا ابني .. اااخ يا ولدي > يشهق : نظرة للسماء واخرى للنهر حيث البقعة الجائرة .ارى آثار المستعمرين على ضفافك ورغم ان اكثرها تهاوى او قضمه الصدأ فقد بقيت معالمها شاخصة تذكرني بهم. وذلك الطوب الذي هزم مدفعهم فهزجوا < الطوب احسن لو مكواري >..التخوم هنا باعماقك واكياس التبغ من القماش وخناجر اللصوص المعكوفة وحبال المشانق للخونة والابرياء .
وانت تجري .. اشم ثياب صقر قريش فيك وقائد الجيش الخرساني وفيك انغمرت حجول الريفيات وملاقطهن والطلاسم غير المتناهية .. وزرقة موجك مما رمى التتر من المصنفات فيك ,, تجري وزي الارمنيات في اعماقك وبنادق الثوار ورماح الزنج وسيوف الازارقة وهم يرمون فيك الاطفال الذين ذبحوا ..و بساطيل الجنود الهنود حين غزاك الانكليز وآلة السيخ التي سرقت فاحتويتها والعملة الفلس الذي توج العانة فترسخت الاهزوجة < عاش الزعيم الزود العانة فلس > وتندمج في مياهك صرخات الثكالى والقتلى من العباسيين اذ استقبلت جماجمهم ..وفيك تدوي خفية خطبة الحجاج وعثوق النخيل التي سرقت من البساتين الامنة وقطع اثواب الصبايا اللواتي تم اغتصابهن بالخداع وحسرات الثوار الذين لم يجنوا الا عيونا كسيرة اخر العمر …فيك اقام الصابئة طقوسهم ورمت الامهات كربا تعتليها الشموع وما زال موجك يحتفظ باطوار الخشابة في الزوارق < عنابي يا عنابي بخدود الحلييوة >… وتجري مع موجك صرخات جنونهم الخائبة : < يعيش .. يسقط >.. ولم يعش احد في حقيقة الامر وتمكنت من بعضهم المتاحف او مزبلة التاريخ , اختفت منك المهيلات واللقالق والنوارس والسفن الشراعية والابلام العشارية .. والوان اجمل من الطيور المهاجرة .. وشحت قناني العرق الثقيل الابيض الذي يرتب الجماجم المرهقة ويمنحها خدرا او جنة مؤقتة .. لم يعد اثنان تناولا الحشيشة ومدا ارجلهما لمياهك وبعد يوم صحيا فقال احدهما للاخر < للان لم يات الجزر > متوقعين انهما ناما لساعات لا يوما باكمله ..وصنوج الراقصات وكمان العميان في الملاهي ….ابر الوشم المزرق على الاعناق المصقولة كمرمرحليبي , التي بانت عروقها الزرق ..ومكاحل الزوجات اليافعات … وريش دجاج السبت في طقس اليهود بمعبدهم جوارك .. والصلبان التي تهاوت من ايادي الشقراوات ..
الاسماك كالاخلاق تضطر للهجرة ان تعكرت بيئتها
اشم اعماقك واقرؤك …
وحدي على ضفتك الثكلى احسك واتهجاك فاقرؤك .. اين هم ؟!تعالوا معي نقيم مأتما لهذا النهر الذي توقعناه خالدا …تعالوا واحضروا ساعات احتضاره .. لا تكونوا جاحدين لا تتركوني وحيدا اؤبّنه والقي في حضرته قصيدة رثاء .
—-
مقتطف من رواية صنارة وانهار<ج3>