وصل متأخراً. فتح الباب فأطلق صريراً عالياً أحسّهُ نذير شؤم، دخل إلى المنزل شاعراً بالقلق وتأنيب الضمير لعدم وفائه بالوعد الذي قطعه لامّه صباح هذا اليوم عندما قالت له: –
– إنني اليوم لست على ما يرام ابقَ معي.
– لن أتأخر سوف أنهي بعض الأعمال وأعود.
لم يجدها، ناداها فلم يسمع جواب. رفع صوته ونادى (أماه) مرة اثنتين ثلاث مرات، لكن الصمت هيمن على أجواء المنزل. أسرع إلى غرفتها، طرق الباب بهدوء خوفاً أن تكون مستغرقة بالنوم فيزعجها، لم يسمع أية إجابة. فتح الباب بتوجس، وقبل أن يدخل انعصر قلبه. وجد سريرها فارغاً فسرت الرجفة في جميع أنحاء جسمه. ركض يبحث عنها في الصّالة، في المطبخ، في الحمام، في أيّ مكان آخر، لكنّه لم يجدها. أضنته الحيرة والخوف من الأسئلة المخيفة، فجلس على الأرض بجانب سريرها واضعاً رأسه بين ركبتيه مستنشقاً رائحتها الزكية المنتشرة مع ذرات هواء الغرفة. وقبل أن يأخذه خياله المشتت إلى تصورات تترك الحزن العميق وتهيج البكاء، وتثير الرغبة في محاسبة النفس عن الإهمال المقصود أو غير المقصود رَنّ هاتفه النقال. رد بسرعة، كان صوت أخته قد أنقذه من هواجسه المخيفة، لكن صوتها كان مبحوحاً تخنقه العبرة، أخبرته وهي تبكي أنّ أمهم بين الحياة والموت في العناية المركزة. ثم ارتفع صوتها تؤنبه وتحاسبه على أفعاله الخالية من الإحساس بالمسؤولية (كيف تترك أمي وحدها، اتصلتْ بي كانت متعبة جداً. تنطق الكلمات بصعوبة، وعندما وصلنا إليها أنا وزوجي وجدناها لا تستطيع الحركة ولا الكلام. أخبرنا الدكتور إننا قد تأخرنا وحالتها خطيرة).
تمنى أن يرجع به الزمن إلى الوراء، كي يبدأ مرة أخرى في تغيير الكثير من الأخطاء التي حدثت دون قصد طيلة حياته، تمنى أن يرتمي في حضن أمه، ويبكي ندماً طالباً منها أن تسامحه وتغفر له كل خطأ أخطأه بحقها، وكل إهمال بدر منه. والذي لن ينساه أبداً تلك النظرة التي ودعته بها صباح اليوم عندما رفض البقاء معها، نظرة حزينة فيها من العتب والرجاء ما يجعله الآن حاقداً على نفسه، خجلا شاعراً بأنه أناني إلى درجة لا يمكن وصفها. كانت لحظة مختلفة جدا عندما وجد نفسه ضعيفاً أمام ضميره الذي أمطر عليه سيلاً من الإهانات، فطأطأ رأسه مستسلماً لحسابات ضميره الذي لا يرحم.
ركب سيارته، وتحرك مسرعاً إلى المستشفى عازماً على أن يصل بسرعة، ولا يتأخر كعادته. كلّما فكّر أنه لن يراها مرة أخرى، ولم يبق له الوقت الكافي للاعتذار زاد من سرعة السيارة. فقد السيطرة على انفعالاته، وعلى تشتت أفكاره. الكثير من الذكريات القديمة التي كان قد نسيها انهمرت عليه كالمطر، والكثير من الخيالات المشؤومة التي تُنبِئه بما سيحدث قد هيمنت عليه. بكى رغم أنه حاول ألا يبكي وهو يقود السيارة. لكن الدموع النازلة من عيونه قد شتتت الرؤية، فلم يعد يرى الطريق واضحاً. وانتبه في تلك اللّحظة المشحونة بالمشاعر المتأججة والانفعالات الثقيلة على قلبه بأنه قد تلاشى وصار مجرد إحساس أو انفعال، لكنه خارج الزمن، وخارج المكان ربما في العدم، لم يكن متأكداً. استغرق الأمر ثوان قليلة مشتتة، ثم رن هاتفه النقال، وأول ما رأى أن المتصل أخته أجاب بسرعة، دون أن يخفف سرعة السيارة. ارتفع صوت أخته عبر الهاتف (ماتت أمي ماتت). وقبل أن يستوعب الخَبر ركض طفل يعبر الشارع من أمام السيارة كأنه الضباب. أدار مقود السيارة بسرعة محاولاً أن لا يدهس الطفل، فانحرفت عن الطريق، وصعدت إلى الرصيف بسرعة جنونية، ثم انقلبت وتدحرجت على الرصيف كالكرة، وارتمت بعيداً عن الشارع.
فتح عينيه، فوجد نفسه في المستشفى ممدداً على السرير الحديدي. شعر برأسه ثقيلا كأنّه قد عاد من عالم آخر هلامي لا يعرف عنه شيئاً. أوّل ما رأى أمه التي ابتسمت له، وانحنت عليه وقبلته على جبهته بعد أن مسحت بيدها الحنونة على رأسه الملفوف بالضمادات. ثم رأى أخته وزوجها وآخرين كانوا ملتفين حول سريره. لم يعرف كيف يخبر أمه أنه سوف يتأخر ولن يلحقها قبل أنْ تموت.