الشعر العربي فن قديم قدم العرب أنفسهم، وما إن توافرت أسباب بقائه بقي، وإن تعرض لانتكاسة أو أصابه وهنٌ وهَنَ ولانَ. بدا الشعر في بداياته جماعيا معبرا عن روح الجماعة، وتضاءلت فيه التأملات الذاتية إلا النزر اليسير منه.
وغاية الشاعر أن يردد الناس أفكاره وأشعاره، فهو يرنو دائما إلى الناس، متوجها إليهم ومستعينا بهم في أداء مهمته، ولذا نادى الشاعر منذ القديم:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا
اندماج ذات الشاعر في نسيج شعره باتت غاية كل الشعراء منذ المتنبي إلى الآن، فكل شاعر يسعى أن يردد قصائده الناس، كل الناس، على اختلاف مشاربهم وألوانهم. ومنذ بدأ الناس يتوجهون إلى وسائل التواصل الاجتماعي يبثون فيها أفراحهم وأتراحهم، وأحينا صورهم الخاصة والعامة، في الاجتماعات، والمؤتمرات، والجلسات الخاصة، والشاعر من الناس وإلى الناس يريد أن يقرأ له الناس كل الناس، فلاذ إلى هذه الوسائل الاجتماعية مستعرضا بضاعته رغبة في تحول شعره من دائرة الضيق إلى دائرة الاتساع، فلم يعد الشاعر مؤمنا بجماعية الشعر إلا من خلال ذاته هو.
واستنادا إلى ما سبق فقد اتجه الشاعر السعودي
( صالح سعيد الهنيدي ) إلى تويتر وفيس بوك مستعرضا بضاعته التي أراد لها الذيوع والانتشار، فكتب ديوان حين يغرد الأمل، 1444هـ 2022م.
وتمتاز قصائد الديوان بما يتناسب مع وسائل التواصل الاجتماعي، من قصر مطلوب، ودقة عالية، وتناسب جميع الأعمار، الصغار والكبار، وكأنه ركز الفكرة ودققها وألقى بها في وجه المتلقي، سريعة وخفيفة، لتؤتي أكلها سريعا أيضا.
مالت القصائد إلى الشكل العمودي التقليدي، ذات الوزن الواحد والقافية الواحدة، والإيقاع السريع، طارقا مناسبات مختلفة، الحكمة، الحب، الوطنية، دعوة إلى التفاؤل، ترك التشاؤم. كقوله يدعو إلى الحب والسلام:
تعالي لنكتب حرفين فينا ونمحو من ساحة الحرب حرفا
إلام نعيش الشتات؟ ونبقى نجدف في حبنا دون مرفا
قريبة الشبه من فن التوقيعات قديما، قصيرة وسريعة وتؤدي وظيفة معينة في أقل عدد من الأبيات. فغالبا ما تتردد في شعره عبارات يتجاوز بها حدود الدلالة السطحية الظاهرية المحدودة إلى بعد إيحائي عميق، ومحاولة الوصول بها إلى استكناه البعد الباطني العميق.
ويتبدى الصدق الشعوري في أبياته القصيرة، لكي يصل إلى وجدان المتلقي سريعا لابد أن تبدو شخصيته الصادقة في تعبيراته الشعرية. “إن الشاعر الذي لا يعبر عن نفسه ليس بصانع، وليس بذي سليقة إنسانية، فإذا قرأت ديوان شاعر ولم تعرفه منه، ولم تتمثل لك شخصية صادقة لصاحبه، فهو إلى التنسيق أقرب منه إلى التعبير” .
فتحت عنوان”رحيل” يقول:
سافر مع البحر في أمواجه وكفى
فسوف تلقى جنون الخافقين غفا
إياك أن تستثير الحلم لا لغة
تصفو مع الأمل الوردي حيث صفا
آهات قلبك لن تلقى لها طرفا
لا الأمس يرجع حتى إن رضيت به
ولن يعود سدى أجسادنا نطفا
تدعو الأبيات دعوة طيبة إلى ترك ما يؤلمك، ويستثير ألمك، وأن البكاء على ضياع الأمس لن يعوض لذة الحاضر. دعوة صريحة إلى التفاؤل والأمل والرغبة في الحياة وترك ما ينغص عليك صفو الحياة.
جنح صالح الهنيدي ومن سار على دربه من شعراء الباحة إلى التكثيف واكتناز الدلالة وتناسلها من خلال ربط القصيدة بشكلها، فقسموها إلى قصيدة طويلة(نسبيا)، وقصيدة قصيرة(نسبيا أيضا)؛ لأن الطول والقصر في شكل القصيدة ما هو إلا ضرب من ضروب الشكل فحسب، ولكن الشاعرية والأدبية قارة في متنها وجوهرها. فالتقديم والتأخير والحذف والإشارة والتلميح والتناص والتكثيف والتركيز سمات القصيدة عموما وليس القصيرة فقط. وينبغي أن ننوه إلى أن التجريب في شكل القصيدة العربية عبر تاريخها الطويل قار في ذاكرة الشعر العربي. بدءا من العصر الجاهلي ومرورا بعصر صدر الإسلام، وبني أمية ، وبني العباس، حتى وقتنا الراهن. فكم من بيت فر من هنا أو هناك وظهر منفردا بعيدا عن أي قصيدة ينتسب إليها، وينتظم فيها، حتى علق بأذهاننا، ووعيناه، وأثر فينا تأثيرا كبيرا. “وما أحسن معونة الكلمات القصار المشتملة على الحكم الكبار، لمن كانت بلاغته في صناعته بالقلم واللسان، فإنها توافيه عند الحاجة وتستصحب أخواتها على سهولة” .تأمل قوله:
لا شيء يجرح ركضي الحافي
فأنا هنااااك أقود أسلافي
فقد حاكى الشاعر لغة الكتابة على مواقع التواصل الاجتماعي في الشكل الكتابي لكلمة هناااااك. وجاء بتكرار حرف الألف مرات عدة كما يكتب أهل المواقع الالكترونية.
وطالما أكثر من النهي والأمر والتحذير في قصائده القصيرة لتناسب الجو العام لعالم الواقع الافتراضي فقال:
اخرق سفينتك المليئة بالأسى
واحذر بأن تهوى فتغرق أهلها
سر في قرى الأحلام منتصب الرؤى
وجيوش فكرك لا تحطم نملها
إن ثار بركان المشاعر فاحترس
من فورة الكلمات تسقط حملها
اقذف بتابوت الهموم محملا
بالعزم والدعوات تؤتى سؤلها
هي لغة سهلة التناول، بسيطة في أدوات تعبيرها، لا تحتاج من ورائها إلى البحث عن معنى عويص، أو كلمة نابية، فهو يفر من الكلمات الصعبة ويلوذ إلى الكلمات السهلة في رشاقة لغوية جذابة وفي متناول الناس، كل الناس.