يبدو واضحا أن المؤلف (عبد الزهرة عمارة) يعيد تركيب بعض الأفكار المعلن عنها في العلاقة بين سيرتها الغيرية ,ومفهوم الزمن، حيث يخلص إلى القول بان الذاكرة والديمومة تعدان الأداتين اللتين يتفق حولهما الزمن النفسي, والفلسفي للأدب، فإذا كانت الديمومة هي التدفق المستمر للزمن، فإن الذاكرة ليست سوى مستودع أو خزان للمسجلات ,والآثار الثابتة للأحداث الماضية يشبه السجلات المحفوظة في الطبقات الجيولوجية غير أن الفكرة الرئيسة التي لم يتوسع المؤلف في شرحها تتمثل في تصوره حول التداخل الدينامى, أن العلاقة المتفاعلة بين الزمن ,والذات، وهو ما يفرز لنا مدى التركيز على الترابطات الزمنية التي لا يتم ترتيبها بانتظام في السيرة الغيرية، مما يعنى كسر العلاقة بين السابق, واللاحق ,كما تكشف عنها الأحداث في الطبيعة, لقد تم تقسيم الحيز النصي إلى ثلاثة عشرة نصا ، كل نص يحمل اسم ظرف زمان دالا على الترتيب أو على المدة ، و قد وردت كالأتي ( قبل ، للحظة ، لبرهة ، ثانية ، الساعة ، الآن ، عندما ، يوم ، منذ ، قبيل ، الليلة ، حين ، وقت ) وهي الكلمات الأولى التي وردت في بداية كل نص, نلحظ أن توظيـف هذه المفـردات الدالة على الظرفية الزمانية لم يكن توظيفا اعتباطيا من قبل المؤلف ، بل إن ذلك قد أعطى للسيرة الغيرية بناء زمنيا متداخلا متشابكا لا يقوم البتة على التسلسل الزمني الأفقي ، و هذا ما تطرحه السيرة الغيرية المعاصرة التي يطرح فيها المؤلف عن قصد المرجع الزمني منظما نصه السيري لا بحسب تسلسل أحداث الحكاية بل بالاعتماد على تصور جمالي أو مذهبي يجعله يتصرف في تنظيم هذه الأحداث في نطاق نصها السيري , ولعل افتتاحية رواية ( شقراء البصرة ) تحاول أن تعرف الزمن بمعناه [، ولاسيما عند برجسون في تصويره للزمن النفسي أي ذلك الزمن المعطى مباشرة في الوجدان، وبتركيز أكثر على مفهوم الزمن عند برتراند رسل في ربطه للوجدان بالخبرة, والذاكرة، وكذلك منظور القديس أوغسطين الذي يركز على الاختبار اللحظي، فيحدث ذلك التقارب الذي افرزته السيرة الغيرية عند الروائي (عبد الزهرة عمارة) إذ يشكل التذكر ملمحا بارزا، فهو أحد المقومات السياقية الرئيسة في تشكيل السيرة الغيرية عالميا, أما السبب المباشر في تقارب مفهوم الزمن النفسي عند برجسون من المفهوم الأدبي فيرجع إلى الاعتماد على الحالات الشعورية ,والنفسية، من حيث الاقتران ليس بالوجدان المباشر، بل أيضا بالديمومة، التي يعبر عنها التتابع والتغيير، وابلغ تعبير عن ذلك كتابات فرجينيا وولف وبروست , وفي رواية السير ذاتي ( شقراء البصرة ) نجد أنفسنا أمام مجموعة من التداعيات, و الذكريات المتعلقة بطفولة البطلة ، و كذلك علاقاتها الأسرية , و الاجتماعية, و النفسية, و كذا موقفها من الحياة, و الناس و السلطة ، غير أن هذه المدة الزمنية تطرح هي الأخرى بدورها زمنا أطول على مستوى الخطاب الروائي الذي يخضع لمجموع النصوص ,و الأحداث الجزئية المكونة للسيرة ككـل ، فنراه يقول :- ناريمان ترى روعة وجمال وابداع خلق الله الذي تمثل في جمال هذه الفتاة الشعر الاشقر الطويل العيون الزرق البشرة البيضاة المحمرة الوجه المستدير الباسم كل شيء فيها جميل وصارخ ,تناول الروائي (عبدالزهرة عمارة ) الزمن بكل أبعاده في خلق النص عن طريق ذاكرته للماضي في نقل أحداث سيرتها الغيرية , وهذا الكلام يدحض الرأي القائل بضرورة الترتيب الكرونولوجي التصاعدي في ترتيب الأحداث في النص السيرغيري,لأنه كأي نص سردي آخر محكوم بمبدأ الانتقائية النابعة من زاوية نظر المؤلف ,ورؤيته لحياة مضت ,وانفلتت من بين يديه ولم يعد بإمكانه مهما فعل أن يعيدها كما جرت دون أن ينالها النسيان, أو يشوبها الوهم, أو يعسر البوح, والكشف عن جوانب منها ,فضلا عن أن هذه الحياة إذا ما أراد المؤلف أن يرويها بحسب تسلسل وقوعها من دون هدف ,فأنها ستحتاج إلى مجلدات ضخمة وزمن طويل لتدوينها كما أن من شان هذا النوع من التدوين أن يباعد بين الحوادث, والأفكار, ويبعثرها بين السنين , فيفقد النص السير غيري حيويته الإنسانية الكاشفة عن الذات المسرودة في النص ,وإذا كانت هذه الطريقة تسري بقانونها على النصوص السيرة الغيرية بشكل عام , فإنها تكون أكثر فاعلية في النص الغيري عند (عبد الزهرة عمارة ) , فنراه يقول : صيف 2018 في قطار الساعة السابعة مساء ببغداد اتخذت لي مقعدا في كابينة رقم 28 متوجها الى البصرة بدعوة من احد الزملاء البصريين ولبيت الدعوة وضعت حقيبتي الصغيرة على الرف وتناولت رواية عزازيل للكاتب الفيلسوف يوسف زيدان وهي من الخيال العلمي واسندت ظهري الى المقعد الكبير بدات اطالعها من صفحة رقم 75 لا كمل المشوار الذي بدات فيه مسبقا في قراءتها .
إن اعتماد المؤلف على الزمن الداخلي هو الذي خلف توارد جميع أحداث السيرة الغيرية باعتبار أن الفاعل من ملفوظ السيرة يعيش حالة الصدمة, و الألم, ويلجأ إلى استحضار الماضي عبر الأحلام, و الذكريات لتفتيت هذا الألم ,و إحلال محله اللذة ، والسيرة الغيرية عند (عبد الزهرة عمارة ) تكتشف عن دخوله التحدي عن طريق إثبات وجوده باللجوء إلى الماضي ,و التصور المستقبلي ، فيقع بذلك تجاوز للزمن الخارجي ,وما يطبعه من رتابة يولدها تسلسل الأحداث السردية تسلسلا خطيا ، والمؤلف ينطلق من الآن إلى الماضي ثم , إلى المستقبل عبر الحاضر إلى زمن ينتقل فيه السرد بين مختلف الأبعاد الزمنية بكل حرية دون اعتبار لما قد يحدث لدى القارئ من تداخل بين الأحداث ,وما قد يجده من عسر في إدراك رباطها المنطقي . ,وفي إطار هذا الزمن الداخلي المتشابك يبرز الزمن الكائن المتصل بماضي المؤلف , و حاضــره ،وما يتســم كلاهما من التأزم المرتبط بعلاقة انفصال,الوعي /اللاوعي كما يبرز الزمن الممكن وهو يومئ إلى المستقبل ,وما يمكن أن تفعله الكتابة المضادة التابعة من كيان المثقفة الذي يدرك أحقيه هذه الكتابة في تغير الوضع الكائن,فنراه يقول :- وقبل ان يتحرك القطار بعدة دقائق دلفت إلى الكابينة التي اجلس فيها امرأة في العقد الستين من عمرها سمراء البشرة داكنة ضعيفة البنية وقد ارتدت معطفا من النوع الفاخر وجلست في المقعد المقابل لي بعد ان حيتني بتحية المساء ورديت لها التحية قائلا – مساء النور سيدتي وأخذت منها حقيبتها ووضعتها على الرف جنب حقيبتي قائلة – أشكرك جدا .